يظل أسامة مهران واحداً ممن أسسوا لقصيدة التفعيلة منذ السبعينات، حيث حمل مع مجايلية أعباء المرحلة الحرجة غي عمر الوطن ،وفي وقت قاسٍ من عمر الأمة، والقومية العربية، في أوقات النضال الوطني بالكلمة والفكر والرفض، لكن مرار المرحلة أضفي بظلاله علي كثيرين، وهاجر العصفور الحزين بعد أن أعطي، ولم يجن إلا ثمار الغربة والهجر والبعاد والحزن، وناله من الأهوال ما ناله، يوم أن كانت الحرية اسماً غريباً عن شعوبنا العربية. ولقد لاقي ككثيرين أهوالاً وعواصف، لكنه ظل مناضلاً، يكتب القصيدة التي تشبه رصاصة، ويدبج الحروف الرافضة، التي ترفض الخنوع، والخضوع، وتستشرف شمس الحرية للعروبة الضالة، في منافي العالم والكون والحياة .
وفي ديوانه : " عالم افتراضي" نراه يحاول أن يزيح عن كاهله مكابداته، ويلحق بركب السعداء الذين رآهم – ليس في العالم الحقيقي- بل في العالم الإفتراضي، عبر الشبكة الكونية، فجاءت قصائده تحمل ثيمات الأصالة، وعبق المعاصرة، وتتشوَّف لمعاصرة جديدة، ولو عبر المخيال، وعبر لغة القصيدة الستينية، والسبعينية السامقة، لهذا رأيناه يكتب مقدمة ديوانه بنفسه، كي لا يُجمل الآخرين عبء معانيه، أو ليجنبهم حرج الكتابة عن جراح الذات، واستشرافات الحزن، يقول : ( من هنا ارتأيت أن أكتب مقدمة ديواني الرابع بقلمي، بما يفسر أولًا مغزى عنوان: عالم افتراضي، لماذا هو هكذا، عالمًا، ولماذا هو هكذا، افتراضيًا؟ لماذا لا يكون واقعيًا، مرئيًا، محسوسًا وملموسًا ومُعاشًا بحميمية جسدية، لا حميمية حسية أو خيالية؟ لماذا هي الشاشات مكان الملعب الكوني الكبير؟ ولماذا هو المجهر الذي يرى من دون عين مجردة، ما لا يمكن أن تراه العين المجردة؟ هل هي المغالاة أو المبالغة أو التهويل عندما نحاول أن نكتب جزءًا من تجربة، أو حين نضطر إلى الدخول في منطقة سحرية خلابة من دون النزول إلى عالم البشرية المتجسدة صوتًا وصورًا وحركة وحياة؟. قد يكون، لكنه الوعي واللاوعي منطقة ستظل افتراضية لكنها ستظل أيضًا محفوفة بالمخاطر، بالسطو الفكري المسلح، بالنقمة المدججة بالألغام والأحزمة الناسفة والقنابل الموقوتة غير المؤقتة، إنها كذلك حالة من الرعب المشفوع .. إنه الانضباط الذي يمر بالفوضى غير الخلاقة، أو بالكوارث حين تهب مع إعصار غير سابق للتجهيز، من هنا آثرت أن أغلق صندوقي على نفسي، لا أستعين بصديق قد يتحمل في نهاية المطاف وزر ما يمكن أن أقترفه داخل سياق، أو خطأ سأظل أحمله، ولو تحمله الآخرون. ومن هنا ارتأيت أن النماذج الجاهزة، والقوالب المتكررة قد تعيد اكتشاف ما تم اكتشافه في سياقات أخرى وفي تجارب لا تتحمل الكتابة بالوكالة) .
وشاعرنا أسامة مهران مُتَلبِّسٌ بالوطن حتى الثمالة، لا يشتم سوي نكهته، ولا يتعطر إلا برائحته، ولا يشتم سواه، فهو الحقيقة والحلم، والذات والمكاشفات، والوجع والمكابدات، وهو الدم في الشريان، والماء في العظام، يشكوه إليه ويتغيَّاه، ويهرب منه إليه، ويسكن فيه رغم كل الجراح، ومرار الأيام والغربة والبعاد، وقسوة الماضي والحرمان، وعطش الذات للوطن البعيد القريب، فهو يتهجاه مع الأبجدية، ويتغني بحروف العروبة والقومية، ويظل يصوح في البلدان، ويراه في الصحارة والوديان، ويراه المحبوبة التي تخش داخله ، وتعبره بكل خلاياها وجسدها الدافيء، ومع رحيله عن المكان، إلا أنه حاضر لديه وساكن بين أضلعه، في كل وقت ومكلن وزمان، يقول :
(لمْ آَخُذ الوَقْتَ مَعِي /لمْ أَحمِلَكْ/فِيْ أضْلُعِي/لكِنَّنِي اكتَفَيْتُ أنْ أَطِيرْ/رَضِيتُ بالنِّدَاءِ/حيثُ لحظةُ الغَدِيِرْ/حيثُ قُبْلَةُ الوَدَاعِ/وانْتِكَاسَةُ المصيرْ/حيْثُ كانتِ الأيَّامُ/في خُيَلائِهَا/وفي دَمَاثَةِ الأجرامِ/في رِيعَانِهَا/كأنَّني اكتَفَيْتُ أنْ أطِيرْ
أنْ أُعانِقَ الطُّيورَ/فيْ روضَاتِهَا/وأربِطَ الأحزَانَ في خِيُوليَ/وأقْطَعَ الأرْحَامَ في خَيَاليَ/وأرتَضِي في الرِّحلةِ البَعيدة/بعصمةٍ وَحيِدة).
وفي قصيدته: "صاحب المعالي الوطن"، نراه يعاتب الوطن الذي أدار له ظهره، ككثيرين شردتهم العزلة، والمنافي، والغياب، فغدوا صرعي، أو شتاتاً منفيين عن الدفء، بينما ينعم آخرون، غرباء، بخيرات الوطن، فلم يقدموا له، ما قدمه هو وغيره، من بطولات وتضحيات، ومع هذا فهو يعشق الوطن، رغم العتاب القاسي، ورغم المرار، يقول :
أنتَ أدرتَ الوجهَ إليْنَا/مَا بينَ سِفوُحٍ وتلُولْ/وأقمتَ الحّدَّ عليْنَا/وخطبتَ الوُدَّ السَّاجدَ/بينَ يديْنَا/لم نركعْ حولكَ مرفوعِي الأيدِي/معصوبِي العَينينْ
لمْ نَضرِبْ أخمَاساً في أسدَاسٍ/أو كفاً فِي كفَّينْ/كمْ كُنَّا نشتَاقُكَ/فنعودُ كمَا كنَّا/أطفالًا تلهُو/فيْ أحدَاقِكَ/فلماذَا تأتِي اليومَ وحِيداً/وشريداً ؟/ولماذَا تغفلُ أيَّ سَلامٍ/يتحصَّنُ فيهِ فِراقُكَ ؟/ولمَاذَا لا تأتِي اليومَ وحيِداً/أو صِنْديِداً/لتطيح بمَنْ كانوُا سَنداً/وبمنْ كانُوا مَدَداً/وبمنْ كانُوا تِريَاقَكَ ؟/ولماذَا تأتِي اليَومَ/أو لا تَأتِي؟/وعمومُ النَّاسِ المنكفئيِنَ علىَ أعتَابِكَ/ينتظرونَ بَهَاءً مَلغِيَّاً/وهواءً منسِيَّاً/منْ أسبَاطِكَ/اليومَ بعيدٌ عنْ يومٍ آخرَ/عنْ قُدسِ الأقدَاسِ/المطعونةِ برمَاحٍ/منْ آفَاقِـي/والمعبودَةِ برياحٍ
في آفَاقِكَ/أنتَ الفَاعِلُ/في كلِّ متَاهَاتِ حيَاتِي/فيْ لحظةِ إفصَاحٍ مِثْلِي/عنْ حُلوِ مرَارَاتي/عن عزمٍ بازغْ/منْ بينَ قُصَاصَاتِ الأورَاقِ /الموبوءَةِ بالكلمَاتِ
وكأنَّكَ ظُلمةُ أيَّامِي/يا فُرصَةَ عُمرٍ/ضاعَتْ مِن أحلَامِي/كيفَ أُلاقِيكَ وأنْتَ
الغافِلُ عنِّي/والطَاعِنُ ظهرِيْ/والقَاطِعُ أرْحَامِي؟/كيفَ أُسَامحكَ؟).
ولنلحظ جماليات التراكب عبر المعاني والصور الحزينة، ومرار الغربة والأيام، فهو يسترق من الوقت الذكري، ويحاول أن يقف علي عتبات العالم من جديد يطرح أحزانه وأفراحه معاً ، ليعيد اكتشاف الحقيقة داخل ذاته الموجوعة، يقول :
حينَ أُنَصِّبُكِ فوقَ مِنَصَّةِ أرقَامِي/وأمامَ جُنُونِ الدَّمعِ/المتَجَمِّرِ في الوِجدَان
أستَشْفِى في نَفسِي/وأحمِلُ مَا يتعثَّرُ مِنْ كلمَاتِي/أوْ مَا يتلكَّأُ منْ خُطواتِي/أو مَا يتمَادَى في شَطحَاتِي/حينَ أعودُ إليْكِ/بباقَةِ وردٍ/أوْ قِطعَةِ حلوَىَ/أوْ بالزَّمنِ العَائدِ/منْ فرصَةِ عُمرٍ للتوبةِ/بعدَ العصيَانْ/لمْ أمْلُكْ في مِيلادِكِ/غيرَ الشَّوكِ الُمتَحشْرِجِ/فيْ كفِّي/غيرَ الذكرَىَ المهزوزَةِ/فيْ ضعفِي/غيرَ الوَشْمِ المحفُورِ باسْمِكِ
رغمًا عَنِّي/و عنكِ/رَغْمًا عنْ أنْفِي/أحببتُكِ).
إنه الوفاء للراحلة المقيمة، والغائبة الحاضرة، التي يخاطبها عبر رؤاه، ومواجده، إذ لم يعد سعيداً،أو حزيناً، لكنه يتأفف علي جمر النار، ويستعذب الألم والجراح والفراق، ويشكو للكون وجعه الممتد، يقول : (ميلادِي/لحظةَ إبهارٍ كبرَىَ/حالةُ ميلادٍ أخرىَ/لقتيلٍ يهواه قتيلْ) .
إن الميلاد هنا لا يستدعي الحياة، بل يستدعي الموت، فالميلاد والموت سيان لحظة قتل الذات، والقهر لديه. وفي القصيدة الأشهى :"عالم افتراضي" – عنوان الديوان – نلمح جماليات الصورة، والمعني العميق المتواشج، والمحمل بمرموزات زاعقة في الروح، عبر قلب ينبض بالحب، ويُهيء الفضاء الروحي لعالم جديد، جميل، افتراضي، فهو يتشهَّى الجمال، يراه ولا يلمسه، ينظر إليه من بعيد ولا تطاله يداه، فيهيم في الأبدية كمتصوف، عبر لا ميتافيزيقا الذات المقروحة الحزينة، يقول :
(هيأتُكِ لي/وأضفتُكِ في صفْحَتِيَ السِّريَّةْ/عبرَ فضَاءَاتٍ قُصْوَىَ/وخلايَا سِحريَّةْ/وكماماتٍ تعويْ/فوقَ رُؤوسٍ مقطوعةْ/وأراجيلِ شِفاهٍ/موجوعَةْ/وعماماتٍ/ومكاحلِ شَرقيَّة/هيأتُكِ/لتكونِي ضمنَ صدَاقاتِي/وكليمَ حمَاقَاتِي/ويقينَ متَاهَاتِي/وضمنَ مُعادلتِي اليَومِيَّة/ما أجمَلَكِ/حينَ تغضِّينَ الطرفَ/وحينَ تلُمِّينَ الشَّوفَ/وحينَ أُجَمِّدُ عُضويَّتَكِ/المجنونةَ في الأَبَديَّة/انطفَأَ الِمصبَاحْ/وانكسَرَ القَدَحُ الصَّادِحُ/في حُبِّكِ/وارتَبكت باقِي الأقدَاحْ.).
إنها فلسفة الشعر عبر معادلة الذات، وتنويعات أصدائها المارَّة في الكون ،والمحلقة حول الروح الحزينة، فقد انطفأ المصباح، وارتبكت الأقداح، وغدا الحب سراباً، يبكيه، رغم افتراضاته التي تَغيَّاها عبر هذا العالم الافتراضي السعيد، يقول : (حاولتُ إعَادةَ/كينونةِ عزمِ القِبلَةِ/لملمتُ المتفَشِّي من/ركعَاتٍ في عُمقِ صلاةٍ أو بدءِ حيَاةٍ/مقتبلَة/لكنَّ سماءَكِ لا تأتِي/ورمادَ سحَابِكِ/لا يشفِي/فلماذَا تغيبينَ اليومَ؟) .
إنه يتخيل، يفترض، يُحلّق في أفق التخييل، لحبيبةٍ تَغيَّاهَا في طيف الواقع فإذ بها طيف افتراضٍ وسراب، عبر لغة عاشقة، لغة تتوضأ باليقين، وبهمس صوفي، أو هي لغة مكتنزة، دالة، سيموطيقية ، تتراكم وتتواشج وتعلوها الهمسات والأسئلة الكبري، وكأننا ـمام فيلسوف عاشق، أو متصوف في بردة الحب، يتمني ولا يطول أمنياته، وينظر فلا تطال عيونه سوي الوهم ، والبعاد، والهجر ،بقول:
( لم أعرِض نقشَ أمَانيكِ/في أسوَاقِ العِزَّةْ/لمْ أركَعْ بينَ جموعِ تَفَانِيِكِ/بالآخِر في ذممٍ مُبتــَزَّة/حدَّثَنِي قلبِي طوِيلًا عنكِ/وتملَّقَنِي حتَّى يُطفِيءَ/لهفَتِيَ عليكِ/ففتحتُ الهَاتِفَ/وبعثْتُ جُنوناً/وقذائفَ/وطلبتُ صَدَاقَتَكِ/فأجبْتِ/وحينَ توحدتُ قليلاً/وتمادَيْتُ طويلاً/وتحدَّثت أخيرِاً/وتوقعتُكِ وجهاً/يُشرِقُ في مَلحَمَتِي/فإذَا بالوَهمِ الُمتَسَلِّلِ/صَفْحًا/مصفوعاً في عِشرَتِهِ/رجماً مَردوماً في نَظرتِهِ/وإذَا بالصَّدِّ الجَامِحِ يستَولِي/علىَ ردّاتِ الفِعلِ المغدُورةِ/في عِزَّتهِ/وإذَا بالرَّدِ القَاسي يأتِيِني/يقفِزُ منْ بينَ ثنايَا طوَاحِيِنِي/ويطيحُ بأحلاَمِ اليَقَظةِ فيَّ/ويُكفِّنُني في/أرحامٍ تلفِظُنِي/منْ سَخَفِ أمانِيَّ/فتُصيبُ الحُلمَ المتبَقِيَ لِي/فيْ مقتلْ/كنتِ مللاً/أو كنتِ الأجملْ) .
وفي قصيدته "أزمَةُ مُنتَصَفِ الحُبِّ" نقف أمام شاعر يصنع الأسطورة العربية في شكل قصيدة، تحمله مع حبيبته فوق حصان الحب الهادر، لكنه الحصان جموح، والريح عاصفة، والخيام طارت مع الرياح، فغدا يبكيها، يبكي ذاته عبر القصيدة التي تفلسف المعنى، وتعيد استدعاء زمان الرومانسية، وخيالات العمر الجميل، يقول : (حينَ تَهُبُّ ريَاحُ الصَّيفْ/مُلقِيةً بوشَاحٍ أخَّاذٍ/في وجهٍ ملتفْ/سوفَ تُبَاغِتُنِي/بحِصَانٍ أبيضَ/يركبُهُ مَحضُ غُلامٍ/ووَراءٍ لأمَامٍ/أوْ سوفَ/يُرَاودُنِي طوعًا عن نَفسٍ/ذائِقِةِ المَوْتْ/ويُحَاسِبُنِي قومٌ مهمومونْ/بتفشٍ طاغٍ/أوْ خوفْ).
ولنلحظ لغة الدراما، وكأننا أمام مسرحية شعرية، أو فارس يتمنطق سيف الشعر ليحكي قصة الفروسية والعشق، ومكابدات الفتى المغوار عبر أهوال الحياة . كما نلحظ اللغة الصوفية العاشقة، فكأنه يهيم في بجر الشوق عبر عجلات الحياة، ويكتب القصيدة الأشهى، القصيدة الفارقة عبر لغة تصوفت، وحروف تحجبت، وقصيدة تخمرت في غُلالة محبوبة بعيدة، قريبة، يقول :
(لا تحزنْ إنَّ اللهَ يُؤَاخِذُنَا/لو كنَّا أتبَاعَاً/أو كُنَّا أصقَاعَاً/أوْ كُنَّا أوجَاعاً/أو جرفْ/حينَ تهُبُّ رياحُ الصَّيفْ/تُنْتَهك الحُرمَاتْ/وتُغادرُ أروَاحًا فِي لحظَاتْ/وتُعَلِّقُ أشباحًا فِي طرقاتْ/ويُعاقَبُ غِمدٌ في سيفْ/يا منْ سَخَّرتَ لنَا الدُّنيَا/وعبرتَ/بدنياكَ إليْنَا/وملكتَ القُدرةَ فينَا والضَّعفْ/ما مِن قلبٍ تفتِنُهُ عذرَاءْ/إلَّا لو كانَ سِيَاقاً في ملكوتْ/وبُراقاً في جبروتْ/ومضافاً في حَذفْ).
وتَفتَضُّ اللغةُ – هنا - بكارتها أمام قلم شاعرنا، لا لتتعري، بل لتندغم في مجرَّةٍ كونية، وتفتح الآفاق لما بعد حداثة المعني، وسوريالية اللغة، وطزاجة الصورة البكر، الفيريائية، التي لا تطاولها مجرات، أو تعبرها سحب، فاللغة عَفِيَّةٌ، حوراء تُفَتِّقُ ذاتَها لتهدر الجمال المُندلق من سيرورة الروح المنتفضة باسم الحب، والمنبثقة من هيوليٍّ مُتَلَفِّعٍ بنبض الروح، فهو يغزل من عباءة القلب قطر الندي، ليبل صدي الروح العطشانة لسُقيا لا تجيء، عبر احالات التضمين واستتباعاته الجميلة، يقول :
(حينَ تهبُّ رياحُكَ يَا يومُ/لنْ نرتَكِبَ الحُبَّ الضَّائِعَ ثانِيَةً/أوْ نَعْتَدِيَ بكامِلِ/عُدَّتِنَا/وبراءَةِ حوْزَتِنَا/ودمَاثةِ أهلِ العَزمْ/وكيَاسَةِ أبنَاءِ اللهِ/لوْ عُدْتُمْ عُدْنَا/سبْحَانَكَ يَا ألله )..
وتتوالي القصائد حزينة عبر مرثية الفقد، في قصيدة "دُمُوعٌ فِي قلبِ اللَّيلِ" والتي أهداها إلي صديقه الشاعر " رفعت سلام، فهو يخاطبه بالوجع والحنين، وبالشعر المُقاوم، الذي كان يمثل أوجاع الجيل، واشراقات الزمن الجميل، عبر رثاء للذات والصديق، والجيل والحلم ،يقول :
(منْ أنْتَ/ومنْ نحنُ/ومن قالَ بأنَّا جيلٌ/وبأنَّكَ نحنُ/بأيِّ الآلاءِ تُغَنِّي/وبأي الآلاَتِ/تُدغْدِغُ عِزَّمَ شَاعِرِنَا/وكأنَّكَ تسعَى لرحيلٍ مُقتَضَبٍ/كيْ تنحَنيَ/وتحنُوُ/منْ دونِ عزَاءْ/وكأنَّا مِثلُكَ/نسْعَىَ لبُكاءٍ مُنتحَبٍ/أوْ منْ دونِ بُكاءْ وكأنَّ القَادِمَ لسُرادِقِ/أيٍّ مِنَّا/لا يَسْعَى ليُقيمَ صلاةَ الغَائِبِ/ذاتَ مَسَاءْ) .
ويظل الشاعر يرسل الرسائل عبر قصائده إلي صديقه الشاعر / محمد الشحات الذي دعاه من جديد لأمسية دافئة، فنراه يؤكد أنه سيأتي، ليري مصر، الوطن الغائب، بعد طول بعاد وغربة وسفر، ومرار واحتراق، كذلك . وشاعرنا يستحلب اللغة، ويُبَرِّدُ حروفها علي مجمرة الفلب فتخرج مستعرة بوميض الوجع والمرار، فنراه يناجي الأبجدية تارة، والكون والعالم تارة أخري، ويصوح في براري الحياة بحثاً عن بارقة دفء تهدهد روحه الضائعة في مجاهل العالم، ومنافيه وصحراواته الممتدة .
وشاعرنا نراه - وإن صادفه هواء الحرية - إلا أنه لا زال حزيناً من الماضي، مجروحاً ومقروحاً مما لاقاه من وجع وحزن، ينوح وهو يضحك، ويجوح وهو يتذكر، وكأنه لا زال مقيداً بأغلال وأصفاد قديمة، لا يستطيع تجاوزها من فرط رهقها وقسوة مرارتها، فقد أخذت الأيام معها كل شئ : الحلم والحبيبة، والوطن والدفء، ولم يتبق له سوي أطلال الوجع، وهشاشة العظام، رغم وجوده حراً ، إلا أنها حرية هارب، أو مذبوح علي مقصلة الوطن، وجدران السجن، وتحكمات المأمور، يقول:
(ماعُدتُ أقابلُ نافِذَتِي/خلفَ زجَاجٍ مكسُورْ/خلفَ الهَاويةِ العُظمَى/وبأمرٍ مِنْ مأمُورْ/حينَ يصيرُ الكونُ المبْحُوحُ/مُبَاحاً،أوْ حينَ تُداويِني جِرَاحٌ/أوْ أتْراحُ/أوْ حينَ يُبَاغتُنِي مَخْمُورْ/لا أفترشُ الأرضَ لغيرِي/جماجِمَ لأيِّ عباءَاتٍ مَثقُوبَة/بعِنَاقَاتٍ مَشطوُبَةِ/بشيَاهٍ وجِباهٍمونِفَاياتٍ مَحنِيَّةْ/عيْنِي تحتَ رُموشِي/وجبيِني مُستَاءٌ/منْ لحظَةِ إصْغَاءٍ/تتمَرَّدُنِي.. تَتَفَرَّدُنِي/تحبِسُنِي في الشَّامَةِ/تحتَ الطربُوشِ/هلْ تقبَلُ سجداً مَعمِيَّا ؟/أو غِمداً مغموسًا أو خربُوشاً/فوقَ الخَربُوشِ) .
وفي النهاية : نجد شاعرنا العاشق الحزين، يتمنى حياة أخري، ليحزم أمتعته ويلوذ بالصمت الموحش، حيث يغير جلده كل مساء، ليعبر من شرنفة وأزمة الذات التي تلاحقه بماضيها وهمومها، ليعبر إلي اليقين والبرهان والحقيقة والحرية التي ينشدها، رغم وجوده حراً طليقاً خارج قفص العالم ، فهو سجين الذات الحزينة، وهزائمها، وانكساراتها، رغم تمظهراتها بالقوة، ورغم مرور الأيام والسنين، يقول :
( أُمْنِيَتِي/أنْ أحْزِمَ/أمْتِعَتِي/وألوذُ بصَمْتٍ وَحْشِي/وأُغيِّرُ جلدِيْ/ كلَّ مَسَاءْ).
إنه شاعر يتهجي الوجع والأبجدية، وينشد الأبدية المُشتهاة، فيعبر جسر الجراح على مركب الحب، ليعيد تأسيس الذات والكون والعالم، من جديد.
حاتم عبدالهادي السيد
وفي ديوانه : " عالم افتراضي" نراه يحاول أن يزيح عن كاهله مكابداته، ويلحق بركب السعداء الذين رآهم – ليس في العالم الحقيقي- بل في العالم الإفتراضي، عبر الشبكة الكونية، فجاءت قصائده تحمل ثيمات الأصالة، وعبق المعاصرة، وتتشوَّف لمعاصرة جديدة، ولو عبر المخيال، وعبر لغة القصيدة الستينية، والسبعينية السامقة، لهذا رأيناه يكتب مقدمة ديوانه بنفسه، كي لا يُجمل الآخرين عبء معانيه، أو ليجنبهم حرج الكتابة عن جراح الذات، واستشرافات الحزن، يقول : ( من هنا ارتأيت أن أكتب مقدمة ديواني الرابع بقلمي، بما يفسر أولًا مغزى عنوان: عالم افتراضي، لماذا هو هكذا، عالمًا، ولماذا هو هكذا، افتراضيًا؟ لماذا لا يكون واقعيًا، مرئيًا، محسوسًا وملموسًا ومُعاشًا بحميمية جسدية، لا حميمية حسية أو خيالية؟ لماذا هي الشاشات مكان الملعب الكوني الكبير؟ ولماذا هو المجهر الذي يرى من دون عين مجردة، ما لا يمكن أن تراه العين المجردة؟ هل هي المغالاة أو المبالغة أو التهويل عندما نحاول أن نكتب جزءًا من تجربة، أو حين نضطر إلى الدخول في منطقة سحرية خلابة من دون النزول إلى عالم البشرية المتجسدة صوتًا وصورًا وحركة وحياة؟. قد يكون، لكنه الوعي واللاوعي منطقة ستظل افتراضية لكنها ستظل أيضًا محفوفة بالمخاطر، بالسطو الفكري المسلح، بالنقمة المدججة بالألغام والأحزمة الناسفة والقنابل الموقوتة غير المؤقتة، إنها كذلك حالة من الرعب المشفوع .. إنه الانضباط الذي يمر بالفوضى غير الخلاقة، أو بالكوارث حين تهب مع إعصار غير سابق للتجهيز، من هنا آثرت أن أغلق صندوقي على نفسي، لا أستعين بصديق قد يتحمل في نهاية المطاف وزر ما يمكن أن أقترفه داخل سياق، أو خطأ سأظل أحمله، ولو تحمله الآخرون. ومن هنا ارتأيت أن النماذج الجاهزة، والقوالب المتكررة قد تعيد اكتشاف ما تم اكتشافه في سياقات أخرى وفي تجارب لا تتحمل الكتابة بالوكالة) .
وشاعرنا أسامة مهران مُتَلبِّسٌ بالوطن حتى الثمالة، لا يشتم سوي نكهته، ولا يتعطر إلا برائحته، ولا يشتم سواه، فهو الحقيقة والحلم، والذات والمكاشفات، والوجع والمكابدات، وهو الدم في الشريان، والماء في العظام، يشكوه إليه ويتغيَّاه، ويهرب منه إليه، ويسكن فيه رغم كل الجراح، ومرار الأيام والغربة والبعاد، وقسوة الماضي والحرمان، وعطش الذات للوطن البعيد القريب، فهو يتهجاه مع الأبجدية، ويتغني بحروف العروبة والقومية، ويظل يصوح في البلدان، ويراه في الصحارة والوديان، ويراه المحبوبة التي تخش داخله ، وتعبره بكل خلاياها وجسدها الدافيء، ومع رحيله عن المكان، إلا أنه حاضر لديه وساكن بين أضلعه، في كل وقت ومكلن وزمان، يقول :
(لمْ آَخُذ الوَقْتَ مَعِي /لمْ أَحمِلَكْ/فِيْ أضْلُعِي/لكِنَّنِي اكتَفَيْتُ أنْ أَطِيرْ/رَضِيتُ بالنِّدَاءِ/حيثُ لحظةُ الغَدِيِرْ/حيثُ قُبْلَةُ الوَدَاعِ/وانْتِكَاسَةُ المصيرْ/حيْثُ كانتِ الأيَّامُ/في خُيَلائِهَا/وفي دَمَاثَةِ الأجرامِ/في رِيعَانِهَا/كأنَّني اكتَفَيْتُ أنْ أطِيرْ
أنْ أُعانِقَ الطُّيورَ/فيْ روضَاتِهَا/وأربِطَ الأحزَانَ في خِيُوليَ/وأقْطَعَ الأرْحَامَ في خَيَاليَ/وأرتَضِي في الرِّحلةِ البَعيدة/بعصمةٍ وَحيِدة).
وفي قصيدته: "صاحب المعالي الوطن"، نراه يعاتب الوطن الذي أدار له ظهره، ككثيرين شردتهم العزلة، والمنافي، والغياب، فغدوا صرعي، أو شتاتاً منفيين عن الدفء، بينما ينعم آخرون، غرباء، بخيرات الوطن، فلم يقدموا له، ما قدمه هو وغيره، من بطولات وتضحيات، ومع هذا فهو يعشق الوطن، رغم العتاب القاسي، ورغم المرار، يقول :
أنتَ أدرتَ الوجهَ إليْنَا/مَا بينَ سِفوُحٍ وتلُولْ/وأقمتَ الحّدَّ عليْنَا/وخطبتَ الوُدَّ السَّاجدَ/بينَ يديْنَا/لم نركعْ حولكَ مرفوعِي الأيدِي/معصوبِي العَينينْ
لمْ نَضرِبْ أخمَاساً في أسدَاسٍ/أو كفاً فِي كفَّينْ/كمْ كُنَّا نشتَاقُكَ/فنعودُ كمَا كنَّا/أطفالًا تلهُو/فيْ أحدَاقِكَ/فلماذَا تأتِي اليومَ وحِيداً/وشريداً ؟/ولماذَا تغفلُ أيَّ سَلامٍ/يتحصَّنُ فيهِ فِراقُكَ ؟/ولمَاذَا لا تأتِي اليومَ وحيِداً/أو صِنْديِداً/لتطيح بمَنْ كانوُا سَنداً/وبمنْ كانُوا مَدَداً/وبمنْ كانُوا تِريَاقَكَ ؟/ولماذَا تأتِي اليَومَ/أو لا تَأتِي؟/وعمومُ النَّاسِ المنكفئيِنَ علىَ أعتَابِكَ/ينتظرونَ بَهَاءً مَلغِيَّاً/وهواءً منسِيَّاً/منْ أسبَاطِكَ/اليومَ بعيدٌ عنْ يومٍ آخرَ/عنْ قُدسِ الأقدَاسِ/المطعونةِ برمَاحٍ/منْ آفَاقِـي/والمعبودَةِ برياحٍ
في آفَاقِكَ/أنتَ الفَاعِلُ/في كلِّ متَاهَاتِ حيَاتِي/فيْ لحظةِ إفصَاحٍ مِثْلِي/عنْ حُلوِ مرَارَاتي/عن عزمٍ بازغْ/منْ بينَ قُصَاصَاتِ الأورَاقِ /الموبوءَةِ بالكلمَاتِ
وكأنَّكَ ظُلمةُ أيَّامِي/يا فُرصَةَ عُمرٍ/ضاعَتْ مِن أحلَامِي/كيفَ أُلاقِيكَ وأنْتَ
الغافِلُ عنِّي/والطَاعِنُ ظهرِيْ/والقَاطِعُ أرْحَامِي؟/كيفَ أُسَامحكَ؟).
ولنلحظ جماليات التراكب عبر المعاني والصور الحزينة، ومرار الغربة والأيام، فهو يسترق من الوقت الذكري، ويحاول أن يقف علي عتبات العالم من جديد يطرح أحزانه وأفراحه معاً ، ليعيد اكتشاف الحقيقة داخل ذاته الموجوعة، يقول :
حينَ أُنَصِّبُكِ فوقَ مِنَصَّةِ أرقَامِي/وأمامَ جُنُونِ الدَّمعِ/المتَجَمِّرِ في الوِجدَان
أستَشْفِى في نَفسِي/وأحمِلُ مَا يتعثَّرُ مِنْ كلمَاتِي/أوْ مَا يتلكَّأُ منْ خُطواتِي/أو مَا يتمَادَى في شَطحَاتِي/حينَ أعودُ إليْكِ/بباقَةِ وردٍ/أوْ قِطعَةِ حلوَىَ/أوْ بالزَّمنِ العَائدِ/منْ فرصَةِ عُمرٍ للتوبةِ/بعدَ العصيَانْ/لمْ أمْلُكْ في مِيلادِكِ/غيرَ الشَّوكِ الُمتَحشْرِجِ/فيْ كفِّي/غيرَ الذكرَىَ المهزوزَةِ/فيْ ضعفِي/غيرَ الوَشْمِ المحفُورِ باسْمِكِ
رغمًا عَنِّي/و عنكِ/رَغْمًا عنْ أنْفِي/أحببتُكِ).
إنه الوفاء للراحلة المقيمة، والغائبة الحاضرة، التي يخاطبها عبر رؤاه، ومواجده، إذ لم يعد سعيداً،أو حزيناً، لكنه يتأفف علي جمر النار، ويستعذب الألم والجراح والفراق، ويشكو للكون وجعه الممتد، يقول : (ميلادِي/لحظةَ إبهارٍ كبرَىَ/حالةُ ميلادٍ أخرىَ/لقتيلٍ يهواه قتيلْ) .
إن الميلاد هنا لا يستدعي الحياة، بل يستدعي الموت، فالميلاد والموت سيان لحظة قتل الذات، والقهر لديه. وفي القصيدة الأشهى :"عالم افتراضي" – عنوان الديوان – نلمح جماليات الصورة، والمعني العميق المتواشج، والمحمل بمرموزات زاعقة في الروح، عبر قلب ينبض بالحب، ويُهيء الفضاء الروحي لعالم جديد، جميل، افتراضي، فهو يتشهَّى الجمال، يراه ولا يلمسه، ينظر إليه من بعيد ولا تطاله يداه، فيهيم في الأبدية كمتصوف، عبر لا ميتافيزيقا الذات المقروحة الحزينة، يقول :
(هيأتُكِ لي/وأضفتُكِ في صفْحَتِيَ السِّريَّةْ/عبرَ فضَاءَاتٍ قُصْوَىَ/وخلايَا سِحريَّةْ/وكماماتٍ تعويْ/فوقَ رُؤوسٍ مقطوعةْ/وأراجيلِ شِفاهٍ/موجوعَةْ/وعماماتٍ/ومكاحلِ شَرقيَّة/هيأتُكِ/لتكونِي ضمنَ صدَاقاتِي/وكليمَ حمَاقَاتِي/ويقينَ متَاهَاتِي/وضمنَ مُعادلتِي اليَومِيَّة/ما أجمَلَكِ/حينَ تغضِّينَ الطرفَ/وحينَ تلُمِّينَ الشَّوفَ/وحينَ أُجَمِّدُ عُضويَّتَكِ/المجنونةَ في الأَبَديَّة/انطفَأَ الِمصبَاحْ/وانكسَرَ القَدَحُ الصَّادِحُ/في حُبِّكِ/وارتَبكت باقِي الأقدَاحْ.).
إنها فلسفة الشعر عبر معادلة الذات، وتنويعات أصدائها المارَّة في الكون ،والمحلقة حول الروح الحزينة، فقد انطفأ المصباح، وارتبكت الأقداح، وغدا الحب سراباً، يبكيه، رغم افتراضاته التي تَغيَّاها عبر هذا العالم الافتراضي السعيد، يقول : (حاولتُ إعَادةَ/كينونةِ عزمِ القِبلَةِ/لملمتُ المتفَشِّي من/ركعَاتٍ في عُمقِ صلاةٍ أو بدءِ حيَاةٍ/مقتبلَة/لكنَّ سماءَكِ لا تأتِي/ورمادَ سحَابِكِ/لا يشفِي/فلماذَا تغيبينَ اليومَ؟) .
إنه يتخيل، يفترض، يُحلّق في أفق التخييل، لحبيبةٍ تَغيَّاهَا في طيف الواقع فإذ بها طيف افتراضٍ وسراب، عبر لغة عاشقة، لغة تتوضأ باليقين، وبهمس صوفي، أو هي لغة مكتنزة، دالة، سيموطيقية ، تتراكم وتتواشج وتعلوها الهمسات والأسئلة الكبري، وكأننا ـمام فيلسوف عاشق، أو متصوف في بردة الحب، يتمني ولا يطول أمنياته، وينظر فلا تطال عيونه سوي الوهم ، والبعاد، والهجر ،بقول:
( لم أعرِض نقشَ أمَانيكِ/في أسوَاقِ العِزَّةْ/لمْ أركَعْ بينَ جموعِ تَفَانِيِكِ/بالآخِر في ذممٍ مُبتــَزَّة/حدَّثَنِي قلبِي طوِيلًا عنكِ/وتملَّقَنِي حتَّى يُطفِيءَ/لهفَتِيَ عليكِ/ففتحتُ الهَاتِفَ/وبعثْتُ جُنوناً/وقذائفَ/وطلبتُ صَدَاقَتَكِ/فأجبْتِ/وحينَ توحدتُ قليلاً/وتمادَيْتُ طويلاً/وتحدَّثت أخيرِاً/وتوقعتُكِ وجهاً/يُشرِقُ في مَلحَمَتِي/فإذَا بالوَهمِ الُمتَسَلِّلِ/صَفْحًا/مصفوعاً في عِشرَتِهِ/رجماً مَردوماً في نَظرتِهِ/وإذَا بالصَّدِّ الجَامِحِ يستَولِي/علىَ ردّاتِ الفِعلِ المغدُورةِ/في عِزَّتهِ/وإذَا بالرَّدِ القَاسي يأتِيِني/يقفِزُ منْ بينَ ثنايَا طوَاحِيِنِي/ويطيحُ بأحلاَمِ اليَقَظةِ فيَّ/ويُكفِّنُني في/أرحامٍ تلفِظُنِي/منْ سَخَفِ أمانِيَّ/فتُصيبُ الحُلمَ المتبَقِيَ لِي/فيْ مقتلْ/كنتِ مللاً/أو كنتِ الأجملْ) .
وفي قصيدته "أزمَةُ مُنتَصَفِ الحُبِّ" نقف أمام شاعر يصنع الأسطورة العربية في شكل قصيدة، تحمله مع حبيبته فوق حصان الحب الهادر، لكنه الحصان جموح، والريح عاصفة، والخيام طارت مع الرياح، فغدا يبكيها، يبكي ذاته عبر القصيدة التي تفلسف المعنى، وتعيد استدعاء زمان الرومانسية، وخيالات العمر الجميل، يقول : (حينَ تَهُبُّ ريَاحُ الصَّيفْ/مُلقِيةً بوشَاحٍ أخَّاذٍ/في وجهٍ ملتفْ/سوفَ تُبَاغِتُنِي/بحِصَانٍ أبيضَ/يركبُهُ مَحضُ غُلامٍ/ووَراءٍ لأمَامٍ/أوْ سوفَ/يُرَاودُنِي طوعًا عن نَفسٍ/ذائِقِةِ المَوْتْ/ويُحَاسِبُنِي قومٌ مهمومونْ/بتفشٍ طاغٍ/أوْ خوفْ).
ولنلحظ لغة الدراما، وكأننا أمام مسرحية شعرية، أو فارس يتمنطق سيف الشعر ليحكي قصة الفروسية والعشق، ومكابدات الفتى المغوار عبر أهوال الحياة . كما نلحظ اللغة الصوفية العاشقة، فكأنه يهيم في بجر الشوق عبر عجلات الحياة، ويكتب القصيدة الأشهى، القصيدة الفارقة عبر لغة تصوفت، وحروف تحجبت، وقصيدة تخمرت في غُلالة محبوبة بعيدة، قريبة، يقول :
(لا تحزنْ إنَّ اللهَ يُؤَاخِذُنَا/لو كنَّا أتبَاعَاً/أو كُنَّا أصقَاعَاً/أوْ كُنَّا أوجَاعاً/أو جرفْ/حينَ تهُبُّ رياحُ الصَّيفْ/تُنْتَهك الحُرمَاتْ/وتُغادرُ أروَاحًا فِي لحظَاتْ/وتُعَلِّقُ أشباحًا فِي طرقاتْ/ويُعاقَبُ غِمدٌ في سيفْ/يا منْ سَخَّرتَ لنَا الدُّنيَا/وعبرتَ/بدنياكَ إليْنَا/وملكتَ القُدرةَ فينَا والضَّعفْ/ما مِن قلبٍ تفتِنُهُ عذرَاءْ/إلَّا لو كانَ سِيَاقاً في ملكوتْ/وبُراقاً في جبروتْ/ومضافاً في حَذفْ).
وتَفتَضُّ اللغةُ – هنا - بكارتها أمام قلم شاعرنا، لا لتتعري، بل لتندغم في مجرَّةٍ كونية، وتفتح الآفاق لما بعد حداثة المعني، وسوريالية اللغة، وطزاجة الصورة البكر، الفيريائية، التي لا تطاولها مجرات، أو تعبرها سحب، فاللغة عَفِيَّةٌ، حوراء تُفَتِّقُ ذاتَها لتهدر الجمال المُندلق من سيرورة الروح المنتفضة باسم الحب، والمنبثقة من هيوليٍّ مُتَلَفِّعٍ بنبض الروح، فهو يغزل من عباءة القلب قطر الندي، ليبل صدي الروح العطشانة لسُقيا لا تجيء، عبر احالات التضمين واستتباعاته الجميلة، يقول :
(حينَ تهبُّ رياحُكَ يَا يومُ/لنْ نرتَكِبَ الحُبَّ الضَّائِعَ ثانِيَةً/أوْ نَعْتَدِيَ بكامِلِ/عُدَّتِنَا/وبراءَةِ حوْزَتِنَا/ودمَاثةِ أهلِ العَزمْ/وكيَاسَةِ أبنَاءِ اللهِ/لوْ عُدْتُمْ عُدْنَا/سبْحَانَكَ يَا ألله )..
وتتوالي القصائد حزينة عبر مرثية الفقد، في قصيدة "دُمُوعٌ فِي قلبِ اللَّيلِ" والتي أهداها إلي صديقه الشاعر " رفعت سلام، فهو يخاطبه بالوجع والحنين، وبالشعر المُقاوم، الذي كان يمثل أوجاع الجيل، واشراقات الزمن الجميل، عبر رثاء للذات والصديق، والجيل والحلم ،يقول :
(منْ أنْتَ/ومنْ نحنُ/ومن قالَ بأنَّا جيلٌ/وبأنَّكَ نحنُ/بأيِّ الآلاءِ تُغَنِّي/وبأي الآلاَتِ/تُدغْدِغُ عِزَّمَ شَاعِرِنَا/وكأنَّكَ تسعَى لرحيلٍ مُقتَضَبٍ/كيْ تنحَنيَ/وتحنُوُ/منْ دونِ عزَاءْ/وكأنَّا مِثلُكَ/نسْعَىَ لبُكاءٍ مُنتحَبٍ/أوْ منْ دونِ بُكاءْ وكأنَّ القَادِمَ لسُرادِقِ/أيٍّ مِنَّا/لا يَسْعَى ليُقيمَ صلاةَ الغَائِبِ/ذاتَ مَسَاءْ) .
ويظل الشاعر يرسل الرسائل عبر قصائده إلي صديقه الشاعر / محمد الشحات الذي دعاه من جديد لأمسية دافئة، فنراه يؤكد أنه سيأتي، ليري مصر، الوطن الغائب، بعد طول بعاد وغربة وسفر، ومرار واحتراق، كذلك . وشاعرنا يستحلب اللغة، ويُبَرِّدُ حروفها علي مجمرة الفلب فتخرج مستعرة بوميض الوجع والمرار، فنراه يناجي الأبجدية تارة، والكون والعالم تارة أخري، ويصوح في براري الحياة بحثاً عن بارقة دفء تهدهد روحه الضائعة في مجاهل العالم، ومنافيه وصحراواته الممتدة .
وشاعرنا نراه - وإن صادفه هواء الحرية - إلا أنه لا زال حزيناً من الماضي، مجروحاً ومقروحاً مما لاقاه من وجع وحزن، ينوح وهو يضحك، ويجوح وهو يتذكر، وكأنه لا زال مقيداً بأغلال وأصفاد قديمة، لا يستطيع تجاوزها من فرط رهقها وقسوة مرارتها، فقد أخذت الأيام معها كل شئ : الحلم والحبيبة، والوطن والدفء، ولم يتبق له سوي أطلال الوجع، وهشاشة العظام، رغم وجوده حراً ، إلا أنها حرية هارب، أو مذبوح علي مقصلة الوطن، وجدران السجن، وتحكمات المأمور، يقول:
(ماعُدتُ أقابلُ نافِذَتِي/خلفَ زجَاجٍ مكسُورْ/خلفَ الهَاويةِ العُظمَى/وبأمرٍ مِنْ مأمُورْ/حينَ يصيرُ الكونُ المبْحُوحُ/مُبَاحاً،أوْ حينَ تُداويِني جِرَاحٌ/أوْ أتْراحُ/أوْ حينَ يُبَاغتُنِي مَخْمُورْ/لا أفترشُ الأرضَ لغيرِي/جماجِمَ لأيِّ عباءَاتٍ مَثقُوبَة/بعِنَاقَاتٍ مَشطوُبَةِ/بشيَاهٍ وجِباهٍمونِفَاياتٍ مَحنِيَّةْ/عيْنِي تحتَ رُموشِي/وجبيِني مُستَاءٌ/منْ لحظَةِ إصْغَاءٍ/تتمَرَّدُنِي.. تَتَفَرَّدُنِي/تحبِسُنِي في الشَّامَةِ/تحتَ الطربُوشِ/هلْ تقبَلُ سجداً مَعمِيَّا ؟/أو غِمداً مغموسًا أو خربُوشاً/فوقَ الخَربُوشِ) .
وفي النهاية : نجد شاعرنا العاشق الحزين، يتمنى حياة أخري، ليحزم أمتعته ويلوذ بالصمت الموحش، حيث يغير جلده كل مساء، ليعبر من شرنفة وأزمة الذات التي تلاحقه بماضيها وهمومها، ليعبر إلي اليقين والبرهان والحقيقة والحرية التي ينشدها، رغم وجوده حراً طليقاً خارج قفص العالم ، فهو سجين الذات الحزينة، وهزائمها، وانكساراتها، رغم تمظهراتها بالقوة، ورغم مرور الأيام والسنين، يقول :
( أُمْنِيَتِي/أنْ أحْزِمَ/أمْتِعَتِي/وألوذُ بصَمْتٍ وَحْشِي/وأُغيِّرُ جلدِيْ/ كلَّ مَسَاءْ).
إنه شاعر يتهجي الوجع والأبجدية، وينشد الأبدية المُشتهاة، فيعبر جسر الجراح على مركب الحب، ليعيد تأسيس الذات والكون والعالم، من جديد.
حاتم عبدالهادي السيد