أمل الكردفاني - الطعن في العقوبات البدنية الإسلامية

قرأت قبل أيام تقريراً أعدته منظمات دولية مقرها لندن، تنادي بإلغاء العقوبات البدنية في السودان، وخاصة الجلد رافضة تبريره دينياً، ومعتبرة أنه عقوبة (مهينة).
قبلها ببضعة أشهر كنت أعد لبحث حول بدائل العقوبات البدنية في الدول التي ألغت العقوبات البدنية (Corporal punishment)، غير أنني أوقفت البحث حينما أصابني الذهول من حقيقة أسباب التوجه البريطاني الأمريكي لمنع العقوبات البدنية.
ثم جاء وزير العدل الأخير وبالفعل منع الجلد كعقوبة في العديد من الجرائم غير الحدية، وكنت أعلم أنه سيفعل ذلك، لأن منع الجلد (في حقيقته)؛ لم يكن يتعلق بكونه عقوبة مهينة، فكل العقوبات في الواقع مهينة، بل حتى عندما يقيدك الشرطي أمام الناس ويضعك داخل سيارة الشرطة وهو يضغط على رأسك من أعلى أمام أولادك يعتبر مهانة أكبر من الجلد، وعندما ترتدي ملابس السجن ويمد لك صحن الطعام من فتحة الباب فلا مهانة أكبر من ذلك.
منع الجلد أو العقوبات البدنية لم تكن آلامه واعتباره تعذيباً هي سبب منعه في بريطانيا، فلا يوجد أكثر إيلاماً من وضع شخص في السجن لعشرة أو عشرين عاماً ليخرج بعدها إلى عالم لم يعرفه من قبل، ولا يوجد أكثر إيلاماً من السجن الإنفرادي الذي يصاب أكثر المسجونين فيه بالجنون كما أظهر فيلم وثائقي عن السجون في أمريكا.
فما هو السر في حظر العقوبات البدنية وأهمها الجلد؟
في الحقيقة؛ هذا التوجه توجه طبقي محض.
بتتبع تاريخ عقوبة الجلد، سنجد أنه كان عقوبة مخصصة للعبيد والبيض الفقراء والجنود البحريين في بريطانيا.
البيض والجنود البحريين تذمروا من تطبيق ذات العقوبة الخاصة بالعبيد، ولم يكن صوتهم عالٍ، لكن حصل شيء غريب، قلب كل الواقع رأساً على عقب، وكان هو انتصار البرجوازية على الإقطاع بعد الثورة الصناعية في بريطانيا. كان البرجوازيون يسعون سعياً حثيثاً لضرب طبقة الإقطاعيين، وهي الطبقة التي تعتمد اعتماداً كلياً على العبيد. وبالتالي قررت البرجوازية سحب سلاح العبيد من الأرستقراطيين. ولكي تصل إلى ذلك، تم شن حملة إعلامية أولى ضد تطبيق عقوبة الجلد على الجنود البحريين، ثم تمدد الأمر إلى الطبقات البيضاء الفقيرة، وهكذا ونتيجة هذا الضخ الإعلامي، تم بالفعل إلغاء عقوبة الجلد بالنسبة للبيض. اعتمد الإعلام البرجوازي على عنصري (شدة المهانة والتعذيب) في عقوبة الجلد، وبالتالي وبعد سنوات تمكن من إلغاء عقوبة الجلد حتى بالنسبة للعبيد.
كان ذلك بمثابة منح العبيد سلطة التمرد على أسيادهم البيض، فبدأ الإعلام البرجوازي في ضخ قصص كبيرة حول تعذيب العبيد وامتهان كرامتهم، ستجدون مثلا صوراً شهيرة لآثار السوط على ظهر أحد العبيد، رغم أن تلك الحالات لم تكن بالظاهرة، بل كانت حالات استثنائية. في الواقع بعد ذلك وفي أمريكا وبعد نهاية الحرب الأهلية وتحرير العبيد، سنجد أن أغلب العبيد رفضوا العودة إلى ليبيريا، بل رفض الكثيرون ترك العمل مع أسيادهم، فتم وقف الرحلات إلى أفريقيا.
وبعد مزيد ومزيد من الضخ الإعلامي الذي استغل ظهور منظمات عنصرية تابعة للإقطاعيين وخاصة في الجنوب الأمريكي، تم ألقضاء على العبودية.
وبالعودة إلى تاريخ ما بعد الثورة الصناعية، تم بالفعل تفريغ الإقطاعيين من قوتهم عبر عدة وسائل من أهمها:
- تحرير العبيد.
- منع العقوبات البدنية.
- تحرير المرأة.
لماذا تحرير المرأة؟
تعتمد الرأسمالية على تحويل كل القوة البشرية لصالح مؤسساتها الرأسمالية الكبرى. في بريطانيا والولايات المتحدة كانت أغلب النساء ربات منزل، أي أيدي عاملة معطلة. ولكي تتحول النسوة إلى أيدي عاملة مشتغلة، كان يجب إشراك المرأة في دور الرجل عبر تخليصها من الاعتماد على الرجل، وخلال عقود تم ضخ إعلامي مُنظم وممنهج، لتشجيع النساء على التمرد على المجتمع الذكوري، وبالفعل وبعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، كانت أغلب النساء في الشمال الأمريكي الرأسمالي يعملن في تدريس طلبة المدارس والتمريض، في حين يعمل الرجال في الأعمال الشاقة وخاصة المناجم والمحاجر والجيش.
لقد كان العبيد والنساء محظوظين، لأنه لولا انتصار البرجوازية لما نالوا حريتهم ولا استقلالهم. لكنهم في نفس الوقت انتقلوا من العبودية الظاهرة إلى العبودية الضمنية، حيث لا تعترف الرأسمالية بحقوق الضعفاء. فمثلاً ظلت الولايات المتحدة الأمريكية ترفض وضع قانون عادل يحمي العامل من استغلال رب العمل، إلى أن ظهرت التوجهات الماركسية حول العالم.
كانت الطبقة الرأسمالية الحاكمة في أمريكا تبرر رفضها ذلك بمبدأ أن (العقد شريعة المتعاقدين)، فما دام العامل قد قبل بشروط رب العمل، فلا يجوز للدولة أن تتدخل لمصلحته، لأنها بذلك تتدخل في حرية التعاقد وتؤثر على العرض (العمال) و(الطلب) على العمال..الخ.
هكذا استطاعت الرأسمالية تغيير كل تاريخ البشرية، وتغيير الواقع، ولم يحدث ذلك بين عشية وضحاها، لقد امتدت وسائل الضغط التي مارسها التجار الرأسماليون لأكثر من قرنين من الزمان ليصلوا إلى ما وصلوا إليه.
نتائج كارثية:
قلنا بأن العبيد والنساء استفادوا من انتصار البرجوازية على الإقطاعيين، (لذلك ظهرت الماركسية كطريق ثالث في ذلك الوقت- ضد الإقطاعية وضد البرجوازية).
غير أن نتائج إنهاء العقوبات البدنية ومن أهمها الجلد، لم تكن إيجابية أبداً. فمن أهم مزايا عقوبة الجلد أنها عقوبة سريعة ولا تكلف الدولة أي تكاليف مالية غير السوط والجلاد، والأهم أيضاً أنها علاج للجرائم البسيطة التي لا تستحق السجن، لأن السجن (وهذه هي الحقيقة) أشد إيلاماً من الجلد.
ترتب على إيقاف عقوبة الجلد أن ازداد عدد المسجونين، وخاصة في أمريكا الذين بلغت أعدادهم اليوم الملايين.
الكارثة هي أن شخص سرق دراجة بمائة دولار سيكلف الدولة خلال فترة سجنه لمدة شهر أكثر من ألفي دولار وربما تزداد تكاليف الجريمة إذا مرض لأن إدارة السجن ملزمة بعلاجه.
يتم حساب تكاليف السجن من عدد الشرطيين والإداريين والطباخيين والمنظفين..الخ، وكمية الكهرباء والماء والطعام، وعدد الأسرة والفرش، والمياه، وتكاليف بناء السجن وتوصيلات الكهربا، وتأميناته، وتكاليف التأثيرات البيئية للسجن على محيطه.
لقد وجدت أمريكا أنها تعاني من أزمة حقيقية جراء منع العقوبات البدنية التي تكلفها الكثير مقابل جرائم صغيرة كالسرقة البسيطة Larceny، حيث اكتظت الولايات بالسجون، وتحتاج أمريكا لبناء سجن كبير كل عامين، مما دفع الحكومة إلى البحث عن حلول أقل كُلفة.
الحلول:
١- الإفراج الشرطي parole، حيث يتم الإفراج عن من نفذ جزءً من عقوبته بالسجن، فيتم إطلاق سراحه قبل إتمام مدة عقوبته مقابل الإلتزام بشروط تؤكد تحوله إلى إنسان صالح، مثل عدم مخالطة زملائه المجرمين السابقين، وعدم احتساء الخمر أو المخدرات، والحضور في مواعيد محددة إلى السلطة المختصة بإنفاذ القانون.
٢- الوضع تحت المراقبة Probation، والفرق عن الإفراج الشرطي هو ان الأول لا يحكم فيه مباشرة بعقوبة السجن، بل يعود المجرم إلى مكان إقامته المعتاد مقابل الإلتزام بشروط ما، فإذا خالفها تم إلقاء القبض عليه وسجنه.
٣- الخدمة العامة، حيث تكون العقوبة هي عمل عام كتنظيف الشوارع..الخ.
٤- العدالة التصالحية، أي محاولة المصالحة بين الجاني والضحية لتجنب إكتظاظ السجون.
النتائج:
اجرت الولايات المتحدة دراسات مستمرة حول نجاعة تلك الحلول البديلة للعقوبات البدنية، والتي خلصت إلى أن تلك الحلول لم تحقق الأثر المطلوب منها.
فمثلاً ادى نظام المراقبة والإفراج الشرطي إلى تكليف الدولة مزيداً من الأعباء المالية، حيث يعتمد النظام على تشكيل لجان لمتابعة المستفيدين من النظام، وفي الواقع لم تكن تلك اللجان كافية للفصل في طلبات الإفراج، ففي حين أنه ولكي تتمكن اللجنة من اتخاذ قراراتها على نحو سليم كان عليها أن لا تفصل في الأسبوع في أكثر من ثلاثين طلباً، أضحت اللجنة الواحدة تفصل في ثلاثمائة طلب، مما جعل قراراتها غير مدروسة، فضلاً عن أن المجرمين اكتسبوا خبرات واسعة في خداع اللجنة. فوق هذا فإن النظام أخل بالعدالة، حيث أن ضحايا الجريمة يفاجأون برؤية المجرمين أمام أعينهم، والأهم من كل ذلك فإن أغلب من تم الإفراج عنهم لم يتمكنوا من الإلتزام بالشروط، فأغلبهم عاد لارتكاب الجرائم مرة أخرى.
خلاصة القول أن إنهاء العقوبات البدنية أحدث ربكة كبرى في نظام العدالة الجنائية، فالمجرمون الذين كان الواحد منهم يتم جلده ويعود لعائلته ليعولها في نفس اليوم، دون تكاليف على الدولة، أصبح مكلفاً، بل وفقدت الأسر عائلها الوحيد في الكثير من الأحيان.
وهكذا بدأ البحث عن حلول أخرى أقل كلفة على دافعي الضرائب، ومن هنا بدأ نظام جديد لا يعتمد على الردع deterrence، بل يعتمد على الصد fend off.
وهذا موضوع آخر يطول شرحه ولكن ملخصه هو منع الجريمة عبر التصميم البيئي Crime Prevention Through Environmental Design (CPTED) ويمكن تلخيصه بأن الدولة ليس عليها أن تنفق على إصلاح الواقع الاقتصادي للفقراء لمنعهم من إرتكاب الجريمة، بل عليها تفويت الفرصة التي قد تتوفر أمامهم لارتكاب الجريمة. فلمنع اقتراف الفقراء للسرقة، ليس على الدولة أن تمنحهم وظائف أو تعليم، بل عليها قبل كل شيء أن تمنع توفر فرصة ارتكاب الجريمة أمامهم. فمثلا تقوم بتصميم المدن والشوارع والمنازل بحيث لا يكون أمام اللص فرصة اقتراف السرقة، او يتم عمل علامات تحذيرية، أو انشاء حدائق عامة لتحقيق المراقبة من المواطنين..الخ.
(انظر بحثنا: أصول علم الجغرافيا الجنائية).
سنجد أن الإسلام مثلاً قد استخدم هذا التوجه في عهد الرسول (ص)، فالحجاب مثلاً هو تصميم بيئي يمنع توفير فرصة ارتكاب التحرش بالنساء.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الأحزاب-(59).
فقد جاء في تفسير ابن كثير:
(كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة . فوثبوا إليها .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة). كما سنحد شرط الحرز والحارس اليقظان عند فقهاء الإسلام كشرط لتوفر جريمة السرقة الحدية وخاصة عند الشافعية.
غير أن منع الجريمة عبر التصميم البيئي، لن يحقق النجاعة الكافية كبديل عن العقوبة البدنية..
خاتمة:
لم تنته رحلتنا في كشف الاسرار التاريخية لإلغاء العقوبات البدنية. لكننا نكتفِ بهذا القدر، ونتوقع أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعود يوماً ما لتطبيق العقوبات البدنية. فنحن سنلاحظ ان كل معايير مكافحة الجريمة والعقاب عليها ترتبط بالمال، اي بما ينفقه المواطن دافع الضريبة. وبما تحتاجه القوى الرأسمالية التي تدير الدولة، والتي تحمي مصالحها عبر تغيير مفاهيم البشر. فليس من الصعب أن نسمع شخصاً يتحدث عن عقوبة الجلد (المهينة)، ولو سألته عن معنى مهانة، فلن يعرف، ولو سألته عن وجود عقوبة غير مهينة، فلن يجد، وليس من الصعب أن تجد البعض يتحدث عن العقوبات البدنية باعتبارها عقوبات مؤلمة، فهل هناك عقوبة غير مؤلمة؟ وهل لو كانت العقوبة غير مؤلمة، ستحقق الغاية منها وهي الردع العام والخاص؟
نحن في عالم يحكمه الرأسماليون، والرأسماليون يمتلكون الإعلام. وبالتالي يسخرونه في توجيه الشعوب عبر كلمات فضفاضة، لا تعي معناها تلك الشعوب. إن الشعوب بشكل عام لا يمكن الإعتماد عليها في تكوين رأي سليم لأن الغالب فيهم هو العاطفة المشوبة بالجهل. ولذلك فالشعوب يتم قيادها إلى الموت وهي تضحك على نفسها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى