تبادرت إلى ذهني تلك الجملة وأنا أكتب بعض سردي الذي يستهجنه الكثيرون؛ يرونه ممزوجا بالأنا ومتلفعا بالأنين، لكنني جربت كل المعايش والحرف فما وجدت مهنة أصلح لها غير تلك الحرفة التي لا تطعم من جوع ولا يأمن صاحبها من سطوة الرقيب؛ أما الجوع فبطون الأدباء خالية بما كسبت لا تطعم غير عيش يابس محشو بعرق الجبين، وقد تغمس بمداهنة أو تملق، فالحبل على الجرار والسكين على المحز؛ وأما الخوف فالنص لدى السارد محاط بعناية الرقيب ينظره بعين ويتأول بأخرى؛ أي مهنة تلك!
وأما الذين جعلوا من أقلامهم مطايا بلغتهم الأرصدة المتوحشة والصدور المتراقصة حب عنب يقطفونه في ليالي الطرب فهؤلاء تجار كلمة لا أصحاب مبدأ؛ قد يهزأ البعض من المباديء يرونها مثالية حالم أو دغدغة لمشاعر القراء؛ فالأديب يحتاج المال ويسعى لنيل الجوائز؛ ألم أقل لكم إنه ليس بتاجر، يكون العالم أجمل بتلك المفردات التي تزين مكتباته يقرأها الصغار وينقدها الكبار مدحا أو قدحا.
في الأدب جمال ومتعة أن يوجد القلم السارد والشاعر الفنان مساحة في مكان ضيق ومزاوجة واقع بخيال وامتدادا في الزمان؛ هكذا تكون الحياة وإلا مادة صماء لا غناء لها غير ضجيج ورتابة لا تنتهي.
كيف سيكون عالمنا لو لم يوجد فيه ذلك الكم من الكتابات الراقية؟
مؤكد أنه سيكون فوضى لا انتظام معها وعبثا لا قيمة له.
حين تتزاحم لدي مشاغل الحياة وتكثر ألجأ إلى قلمي؛ أتعاطى هذا الدواء المسكن، قصة قصيرة أو مقالة نقدية ساعتها أشعر بأنني على قيد الحياة أتننفس!
يشغب علي صغاري كسرة خبز أو مالا يقيمون به حياتهم فيعتصرني الألم ويقتلني الهم؛ أتعلل بأنني كاتب، وتلك معذرة عاجز ومقولة حالم.
لدي خزانة من سرد بكر لما تفض بكارتها، أمتاح منها كل آونة؛ الجن لدي رمز والدرويش بوح والحارة أو القرية مكان ومسرح عرائس تتراقص فيه مفرداتي، على أية حال لم أكن واهما أو معانقا للخيال؛ أغلف كل هذا بواقع أعيشه، ففي السرد ظلال وتعابير؛ يعجبني الرافعي ويعاندني نجيب محفوظ؛ لعبتي المفضلة المزاوجة بين المفردات، تتجمع لتكون صورة متحركة من ظلال شفيفة، أكتب ولا عين لي؛ غير أن السرد غواية حلوة ولذة غريبة، أن تعلو فوق السحاب وقدمك في الأرض راسخة.
يمثل لي الحكي كائنات عصية تتأبى بل هي جياد جامحات أعدو خلفها ولا أدركها؛ أتلمس طريقها فأتخفى عند منحنيات الطريق علني أمسك بعنانها، مرة وراء أخرى تلوذ بالهرب؛ أشرع سنان قلمي مسجلا ما قد يتبادر إلى عقلي من تلك الخواطر.
أتذكر القلم الرصاص الذي اشتراه لي أبي؛ بثلاثة قروش وحقيبتي الممتلئة بكتب القراءة؛ أحملها فلا أدعها تلامس الأرض؛ ضنا بها ففيها علم طاهر؛ كذا كانت تقول أمي؛ ومن يومها والكتاب ملازمي؛ على الفراش وفي حجرات البيت أكدس منه أكواما؛ أحذر الصغار أن يعتدوا عليه؛ ثم بعد؟
أجدت لعبة الكلمة والصورة فرافقني الخيال وسير الأجداد؛ كنت مستمعا جيدا؛ اختزنت القصص والحكايات؛ أضفت بصمتي إليها؛ تعلمت هذا من المذياع حين كان مصدر المعرفة الوحيد؛ إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة؛ على ضوء لمبة الكيروسين أقرأ وحين يواتيني النوم أدير مؤشر الموجة عبر الأثير، عرفت الشعر والشدو ولا انبأكم عن روائع التلاوة القرآنية والذكر يسري في جنبات قرية تجيد الحكي ويجلوها السمر؛ موالد الأولياء باب للحكايات والسيرة الهلالية.
حتى كانت رحلتي مع مجلة العربي الكويتية منذ أربعين عاما وهي محور قراءاتي؛ عرفت محمد خليفة التونسي وأحمد بهاء الدين وعباس العقاد والرافعي وطه حسين؛ تبادر إلى ذهني خاطر غريب؛ لم لا أكون واحدا من هؤلاء، دونت حكايات بسيطة وخواطر ساذجة، بدأت الخطوة الأولى في مسيرة السرد، كنت نهما لكل ورقة؛ يشجعني أبي وتدخر لي أمي الجنيه أو نصفه لأشتري؛ تحوط كتبي برعايتها؛ تراني كبيرا رغم نحافة جسدي واعتلال صحتي!
أحاول سرد وقائع أيام مرت علي؛ قطار الدلتا الذي سمعت عنه؛ السادات الذي كان يهز المذياع بخطبه الفصيحة؛ صوت فاروق شوشة في برنامجه "لغتنا الجميلة" الشيخ عبد العاطي ووقفته على منبر المسجد البحري كأنه أسد يزأر؛ الشيخ الشعرواي وبلاغته والغزالي وحكمته؛ حمدي غيث وبراعة إلقائه؛ ثم كانت دار العلوم وأحمد هيكل وأحمد شلبي؛ لن أخبركم عن فصاحة أبي همام وعبقرية الطاهر مكي؛ انفتح أمامي الباب على مصراعيه.
جربت الشعر فعجزت عنه؛ كانت ضالتي في القصة القصيرة؛ أراوغ بها، أعابث برموز خفية؛ أنا واحد من هؤلاء الذين قيل فيهم: مصر كثيرة العشاق!
آمنت بالكلمة الطاهرة؛ فكانت قصصي تنشد المثال الأبهى؛ تتحدث عن الإنسان في رحلة محاطة بالقمع ويتربص بها الذئب.
اقتربت من عالم نجيب محفوظ فتعلقت به؛ الثلاثية والسراب ويوم قتل الزعيم والكرنك؛ يحيى حقي الذي أمدني ب صح النوم وخليها على الله وقنديل أم هاشم؛ كثيرون أطعموني أرغفة سردهم.
بعد مرور الزمن أدركت أنني أمتلك مفتاح الكنز، بدأت أخرج كل يوم قطعة؛ قصة أو مقالة أو نقدا؛ ربما يراني البعض مجذوبا، يجري حاسر الرأس؛ حافي القدمين، زائغ العينين لكنه يقتنص سردا من كل هذا فيعود كما محمود حسن إسماعيل يؤوب من رحلته بفصيدة يجتني حلو ثمرها.
وأما الذين جعلوا من أقلامهم مطايا بلغتهم الأرصدة المتوحشة والصدور المتراقصة حب عنب يقطفونه في ليالي الطرب فهؤلاء تجار كلمة لا أصحاب مبدأ؛ قد يهزأ البعض من المباديء يرونها مثالية حالم أو دغدغة لمشاعر القراء؛ فالأديب يحتاج المال ويسعى لنيل الجوائز؛ ألم أقل لكم إنه ليس بتاجر، يكون العالم أجمل بتلك المفردات التي تزين مكتباته يقرأها الصغار وينقدها الكبار مدحا أو قدحا.
في الأدب جمال ومتعة أن يوجد القلم السارد والشاعر الفنان مساحة في مكان ضيق ومزاوجة واقع بخيال وامتدادا في الزمان؛ هكذا تكون الحياة وإلا مادة صماء لا غناء لها غير ضجيج ورتابة لا تنتهي.
كيف سيكون عالمنا لو لم يوجد فيه ذلك الكم من الكتابات الراقية؟
مؤكد أنه سيكون فوضى لا انتظام معها وعبثا لا قيمة له.
حين تتزاحم لدي مشاغل الحياة وتكثر ألجأ إلى قلمي؛ أتعاطى هذا الدواء المسكن، قصة قصيرة أو مقالة نقدية ساعتها أشعر بأنني على قيد الحياة أتننفس!
يشغب علي صغاري كسرة خبز أو مالا يقيمون به حياتهم فيعتصرني الألم ويقتلني الهم؛ أتعلل بأنني كاتب، وتلك معذرة عاجز ومقولة حالم.
لدي خزانة من سرد بكر لما تفض بكارتها، أمتاح منها كل آونة؛ الجن لدي رمز والدرويش بوح والحارة أو القرية مكان ومسرح عرائس تتراقص فيه مفرداتي، على أية حال لم أكن واهما أو معانقا للخيال؛ أغلف كل هذا بواقع أعيشه، ففي السرد ظلال وتعابير؛ يعجبني الرافعي ويعاندني نجيب محفوظ؛ لعبتي المفضلة المزاوجة بين المفردات، تتجمع لتكون صورة متحركة من ظلال شفيفة، أكتب ولا عين لي؛ غير أن السرد غواية حلوة ولذة غريبة، أن تعلو فوق السحاب وقدمك في الأرض راسخة.
يمثل لي الحكي كائنات عصية تتأبى بل هي جياد جامحات أعدو خلفها ولا أدركها؛ أتلمس طريقها فأتخفى عند منحنيات الطريق علني أمسك بعنانها، مرة وراء أخرى تلوذ بالهرب؛ أشرع سنان قلمي مسجلا ما قد يتبادر إلى عقلي من تلك الخواطر.
أتذكر القلم الرصاص الذي اشتراه لي أبي؛ بثلاثة قروش وحقيبتي الممتلئة بكتب القراءة؛ أحملها فلا أدعها تلامس الأرض؛ ضنا بها ففيها علم طاهر؛ كذا كانت تقول أمي؛ ومن يومها والكتاب ملازمي؛ على الفراش وفي حجرات البيت أكدس منه أكواما؛ أحذر الصغار أن يعتدوا عليه؛ ثم بعد؟
أجدت لعبة الكلمة والصورة فرافقني الخيال وسير الأجداد؛ كنت مستمعا جيدا؛ اختزنت القصص والحكايات؛ أضفت بصمتي إليها؛ تعلمت هذا من المذياع حين كان مصدر المعرفة الوحيد؛ إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة؛ على ضوء لمبة الكيروسين أقرأ وحين يواتيني النوم أدير مؤشر الموجة عبر الأثير، عرفت الشعر والشدو ولا انبأكم عن روائع التلاوة القرآنية والذكر يسري في جنبات قرية تجيد الحكي ويجلوها السمر؛ موالد الأولياء باب للحكايات والسيرة الهلالية.
حتى كانت رحلتي مع مجلة العربي الكويتية منذ أربعين عاما وهي محور قراءاتي؛ عرفت محمد خليفة التونسي وأحمد بهاء الدين وعباس العقاد والرافعي وطه حسين؛ تبادر إلى ذهني خاطر غريب؛ لم لا أكون واحدا من هؤلاء، دونت حكايات بسيطة وخواطر ساذجة، بدأت الخطوة الأولى في مسيرة السرد، كنت نهما لكل ورقة؛ يشجعني أبي وتدخر لي أمي الجنيه أو نصفه لأشتري؛ تحوط كتبي برعايتها؛ تراني كبيرا رغم نحافة جسدي واعتلال صحتي!
أحاول سرد وقائع أيام مرت علي؛ قطار الدلتا الذي سمعت عنه؛ السادات الذي كان يهز المذياع بخطبه الفصيحة؛ صوت فاروق شوشة في برنامجه "لغتنا الجميلة" الشيخ عبد العاطي ووقفته على منبر المسجد البحري كأنه أسد يزأر؛ الشيخ الشعرواي وبلاغته والغزالي وحكمته؛ حمدي غيث وبراعة إلقائه؛ ثم كانت دار العلوم وأحمد هيكل وأحمد شلبي؛ لن أخبركم عن فصاحة أبي همام وعبقرية الطاهر مكي؛ انفتح أمامي الباب على مصراعيه.
جربت الشعر فعجزت عنه؛ كانت ضالتي في القصة القصيرة؛ أراوغ بها، أعابث برموز خفية؛ أنا واحد من هؤلاء الذين قيل فيهم: مصر كثيرة العشاق!
آمنت بالكلمة الطاهرة؛ فكانت قصصي تنشد المثال الأبهى؛ تتحدث عن الإنسان في رحلة محاطة بالقمع ويتربص بها الذئب.
اقتربت من عالم نجيب محفوظ فتعلقت به؛ الثلاثية والسراب ويوم قتل الزعيم والكرنك؛ يحيى حقي الذي أمدني ب صح النوم وخليها على الله وقنديل أم هاشم؛ كثيرون أطعموني أرغفة سردهم.
بعد مرور الزمن أدركت أنني أمتلك مفتاح الكنز، بدأت أخرج كل يوم قطعة؛ قصة أو مقالة أو نقدا؛ ربما يراني البعض مجذوبا، يجري حاسر الرأس؛ حافي القدمين، زائغ العينين لكنه يقتنص سردا من كل هذا فيعود كما محمود حسن إسماعيل يؤوب من رحلته بفصيدة يجتني حلو ثمرها.