في "جدارية" محمود درويش (2000) سطر شعري لا يُنسى هو: "عكا أجمل المدن القديمة" ولطالما رددت هذا السطر، لا لآخذ به وإنما لأتساءل: هل عكا حقاً أجمل المدن القديمة؟ هل زار محمود درويش المدن القديمة كلها، في العالم، ليكتب ما كتب؟
لقد أنفقت أنا شخصياً ثلاث سنوات من عمري في مدينة ألمانية هي (بامبرغ)، ورأيت فيها مدينة جميلة. كانت تسمى البندقية الصغيرة (Kleine Venidig)، وهي مدينة يخترقها نهر وبيوتها بعضها فيه.
وزرت مدينة (هايدلبيرغ) التي سحرت الأميركان فلم يدمروها في الحرب العالمية الثانية وغدت قبلتهم في أثناء زيارة ألمانيا. واصطحبتني فتاة ألمانية، وعائلتي، إلى مدينة (روتنبرغ)، والمدن الثلاث من أجمل مدن ألمانيا ولا أعرف إن كان محمود درويش زارها وفضل عليها عكا.
في 17/3/2017 زرت عكا لأشارك في مؤتمر علمي في باقة الغربية عن المدينة الفلسطينية في الأدب والفن، واخترت القدس موضوعاً لورقتي، ولما وجدت نفسي في عكا أخذت أكتب عنها، لدرجة أنني تساءلت: هل هناك دراسة عن المدينة هذه؟ وحين أصغيت إلى أوراق المؤتمر لم ألاحظ دارساً واحداً كتب عنها.
"عكا أجمل المدن القديمة" يكتب محمود درويش، ربما أن الجمال، كما يذهب الرومانسيون، نسبي، فإن عكا في نظر محمود درويش هي أجمل المدن القديمة. لأكن رومانسياً إذن، وفي حضرة عكا كنت رومانسياً وقلت: لترفع القبعات للمدينة وأهلها وللشاعر ولسور عكا أيضاً.
كان الشعراء الفلسطينيون التفتوا إلى هذه المدينة منذ 50 ق 20 وأولهم، كما قرأت، راشد حسين الذي وقع في حب مدينتين هما عكا وحيفا وشبّههما بفتاتين احتار أيهما يختار. ولما مات راشد رثاه محمود درويش بقصيدة "كان ما سوف يكون" التي أتى فيها على مطعم "أبو خريستو" وسمّاه درويش، للوزن الشعري ربما، مطعم "خريستو". وأنا في عكا تذكرت "محمود وراشد" ونظرت إلى لافتة المطعم "أبو خريستو". هنا كان راشد يقرأ شعره، وكانت عكا كلها، كما كتب درويش في رثائه، تصحو.
لم أحصِ كم مرة ذكر درويش عكا في شعره، وبما أن يوم الأرض على الأبواب، فإن قصيدة "الأرض" له لم تخل من الإتيان على عكا.
في القصيدة يرد: "رأيت فتاة على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً/ وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي. رأيت/ شهيدين يستمعان إلى البحر: عكا تجيء مع الموج/ عكا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي". وهكذا حضرت المدينة في شعر الشاعر وهو في المنفى، وحين زارها بعد (أوسلو) كتب في "الجدارية": "عكا أجمل المدن القديمة".
في عكا لا تتذكر محمود درويش فقط. ولا تتذكر سطره الشعري هذا فقط. في عكا تتذكر سميرة عزام وغسان كنفاني وكتّاباً آخرين.
كانت "دار الأسوار"، لصاحبها يعقوب حجازي، أعادت، في 2007، أعمال سميرة وغسان، لأنهما كاتبان مهمان ولأنهما من المدينة نفسها عكا. أتت سميرة على عكا باعتبارها مدينة مقاومة في قصتها "خبز الفداء" ولم يخص غسان مدينته برواية كما خصّ حيفا ويافا. لماذا لم يكتب غسان، مثلاً، عائد إلى عكا؟
ولدت سميرة عزام في عكا وتعلمت في مدارسها ثم هاجرت في العام 1948، وولد غسان أيضاً في عكا ولكنه نشأ في يافا ودرس في مدارسها، ومثله هشام شرابي أيضاً، ولا أدري إن كان أحد ما كتب عن صورة عكا في أدب هؤلاء الثلاثة. (هشام شرابي سيرة ذاتية في جزأين).
ومما لا يغيب عن ذهن قارئ الأدبيات الفلسطينية، وهو يزور عكا، هو رواية أميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، ففي القسم الأول منها "يعاد" يقرأ عن حياة بطلها وحياة من بقي من سكانها في العام (1948). وأنت تزور عكا تتذكر أميل حبيبي وروايته، وأنت تنظر في بيوت المدينة التي لا يزال فقراؤها مقيمين فيها تتذكر السراديب التي اختبأ فيها الباقون. وحين تزور جامع الجزار تبحث عن "سعيد أبي النحس" ومعلمه وتحاول أن تصغي إلى الحوار الذي دار بينهما.
لماذا لم تلق أية ورقة في المؤتمر عن عكا؟
سأكتب يومياً على "الفيس بوك" عن المدينة. سأستحضر النصوص وأعود إليها في الدواوين والروايات لأكتب نصاً عن المدينة في الأدب. نعم لأكتب نصاً يميل الى الدراسة، نصاً يليق بعكا وبسكانها وبحرها وأدبائنا الذين أتوا عليها.
الروائية الفلسطينية التي أقامت في المنفى، وكانت من عكا، هي حنان باكير. لحنان رواية عنوانها "أجفان عكا" وقد أعادت "دار الأسوار" طباعتها، وفيها تحضر عكا ما قبل 1948 من الذاكرة؛ ذاكرة أبي جابر الذي يريد أن يسمي مولودته عكا. وفيما بعد ستكتب روايات عن عكا في أزمنة فائتة، عن عكا زمن نابليون وزمن ظاهر العمر وزمن الانتداب.
في عكا وجدتني أردد سطر محمود درويش "عكا أجمل المدن القديمة". لم أزر المدينة منذ 30 عاماً، وفي حضرتها رفعت لها ولأهلها القبعة.
_______________
* المقال كان نشر بعنوان "عكا أجمل المدن القديمة"، وتعيد "منصة الاستقلال الثقافية" نشره، بالتنسيق مع صاحبه، في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش.
لقد أنفقت أنا شخصياً ثلاث سنوات من عمري في مدينة ألمانية هي (بامبرغ)، ورأيت فيها مدينة جميلة. كانت تسمى البندقية الصغيرة (Kleine Venidig)، وهي مدينة يخترقها نهر وبيوتها بعضها فيه.
وزرت مدينة (هايدلبيرغ) التي سحرت الأميركان فلم يدمروها في الحرب العالمية الثانية وغدت قبلتهم في أثناء زيارة ألمانيا. واصطحبتني فتاة ألمانية، وعائلتي، إلى مدينة (روتنبرغ)، والمدن الثلاث من أجمل مدن ألمانيا ولا أعرف إن كان محمود درويش زارها وفضل عليها عكا.
في 17/3/2017 زرت عكا لأشارك في مؤتمر علمي في باقة الغربية عن المدينة الفلسطينية في الأدب والفن، واخترت القدس موضوعاً لورقتي، ولما وجدت نفسي في عكا أخذت أكتب عنها، لدرجة أنني تساءلت: هل هناك دراسة عن المدينة هذه؟ وحين أصغيت إلى أوراق المؤتمر لم ألاحظ دارساً واحداً كتب عنها.
"عكا أجمل المدن القديمة" يكتب محمود درويش، ربما أن الجمال، كما يذهب الرومانسيون، نسبي، فإن عكا في نظر محمود درويش هي أجمل المدن القديمة. لأكن رومانسياً إذن، وفي حضرة عكا كنت رومانسياً وقلت: لترفع القبعات للمدينة وأهلها وللشاعر ولسور عكا أيضاً.
كان الشعراء الفلسطينيون التفتوا إلى هذه المدينة منذ 50 ق 20 وأولهم، كما قرأت، راشد حسين الذي وقع في حب مدينتين هما عكا وحيفا وشبّههما بفتاتين احتار أيهما يختار. ولما مات راشد رثاه محمود درويش بقصيدة "كان ما سوف يكون" التي أتى فيها على مطعم "أبو خريستو" وسمّاه درويش، للوزن الشعري ربما، مطعم "خريستو". وأنا في عكا تذكرت "محمود وراشد" ونظرت إلى لافتة المطعم "أبو خريستو". هنا كان راشد يقرأ شعره، وكانت عكا كلها، كما كتب درويش في رثائه، تصحو.
لم أحصِ كم مرة ذكر درويش عكا في شعره، وبما أن يوم الأرض على الأبواب، فإن قصيدة "الأرض" له لم تخل من الإتيان على عكا.
في القصيدة يرد: "رأيت فتاة على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً/ وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي. رأيت/ شهيدين يستمعان إلى البحر: عكا تجيء مع الموج/ عكا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي". وهكذا حضرت المدينة في شعر الشاعر وهو في المنفى، وحين زارها بعد (أوسلو) كتب في "الجدارية": "عكا أجمل المدن القديمة".
في عكا لا تتذكر محمود درويش فقط. ولا تتذكر سطره الشعري هذا فقط. في عكا تتذكر سميرة عزام وغسان كنفاني وكتّاباً آخرين.
كانت "دار الأسوار"، لصاحبها يعقوب حجازي، أعادت، في 2007، أعمال سميرة وغسان، لأنهما كاتبان مهمان ولأنهما من المدينة نفسها عكا. أتت سميرة على عكا باعتبارها مدينة مقاومة في قصتها "خبز الفداء" ولم يخص غسان مدينته برواية كما خصّ حيفا ويافا. لماذا لم يكتب غسان، مثلاً، عائد إلى عكا؟
ولدت سميرة عزام في عكا وتعلمت في مدارسها ثم هاجرت في العام 1948، وولد غسان أيضاً في عكا ولكنه نشأ في يافا ودرس في مدارسها، ومثله هشام شرابي أيضاً، ولا أدري إن كان أحد ما كتب عن صورة عكا في أدب هؤلاء الثلاثة. (هشام شرابي سيرة ذاتية في جزأين).
ومما لا يغيب عن ذهن قارئ الأدبيات الفلسطينية، وهو يزور عكا، هو رواية أميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، ففي القسم الأول منها "يعاد" يقرأ عن حياة بطلها وحياة من بقي من سكانها في العام (1948). وأنت تزور عكا تتذكر أميل حبيبي وروايته، وأنت تنظر في بيوت المدينة التي لا يزال فقراؤها مقيمين فيها تتذكر السراديب التي اختبأ فيها الباقون. وحين تزور جامع الجزار تبحث عن "سعيد أبي النحس" ومعلمه وتحاول أن تصغي إلى الحوار الذي دار بينهما.
لماذا لم تلق أية ورقة في المؤتمر عن عكا؟
سأكتب يومياً على "الفيس بوك" عن المدينة. سأستحضر النصوص وأعود إليها في الدواوين والروايات لأكتب نصاً عن المدينة في الأدب. نعم لأكتب نصاً يميل الى الدراسة، نصاً يليق بعكا وبسكانها وبحرها وأدبائنا الذين أتوا عليها.
الروائية الفلسطينية التي أقامت في المنفى، وكانت من عكا، هي حنان باكير. لحنان رواية عنوانها "أجفان عكا" وقد أعادت "دار الأسوار" طباعتها، وفيها تحضر عكا ما قبل 1948 من الذاكرة؛ ذاكرة أبي جابر الذي يريد أن يسمي مولودته عكا. وفيما بعد ستكتب روايات عن عكا في أزمنة فائتة، عن عكا زمن نابليون وزمن ظاهر العمر وزمن الانتداب.
في عكا وجدتني أردد سطر محمود درويش "عكا أجمل المدن القديمة". لم أزر المدينة منذ 30 عاماً، وفي حضرتها رفعت لها ولأهلها القبعة.
_______________
* المقال كان نشر بعنوان "عكا أجمل المدن القديمة"، وتعيد "منصة الاستقلال الثقافية" نشره، بالتنسيق مع صاحبه، في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش.