يواصل طلبة جامعة النجاح الوطنية إنجاز دراساتهم حول الأدب الفلسطيني ، ولقد أنجز هؤلاء ، حتى الآن ، العديد من الرسائل التي تأتي على ظواهر أدبية وقضايا نقدية ، وعلى أعلام بارزين لم يدرسوا ، حتى اللحظة ، دراسة أكاديمية ، إلا أقلهم .
لقد أنجز الطلبة دراسات تتناول الشخصية في الرواية الفلسطينية ، والسخرية في الشعر الفلسطيني ، والرواية في الضفة والقطاع ما بين 67 و 1993 ، وتقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا ، كما أنجز طلبة آخرون دراسات تمس أعمال كتاب بعينهم مثل يحيى يخلف وفدوى طوقان ، وهناك دراسات قيد الإنجاز تتناول أعمال حنا إبراهيم وتوفيق فياض والمتوكل طه وأكرم هنية وعبد اللطيف عقل وحنا أبو حنا وسميح القاسم .
ولا شك أن هذه الدراسات ، وأخرى غيرها ، ستضع حداً للشكوى التي تصدر عن أدبائنا ، وهي شكوى مفادها أن نصوصهم لا تدرس ، وأن أساتذة الجامعات يتعالون على الأدب المحلي .
من الرسائل التي أنجزت مؤخراً رسالة الطالب عدوان نمر عدوان ، وعنوانها "تقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية" ، وقد أشرف عليها الدكتور عادل أبو عمشة ، وناقشها الدكتور مهدي عرار من جامعة بيرزيت وأنا من جامعة النجاح الوطنية .
تكونت الدراسة من مقدمة ، وتمهيد أتى فيه الدارس على مصطلحات النقد الروائي : السرد والزمن والفضاء ، ومن ثلاثة فصول ؛ الأول عنوانه تلاعبات السرد في رواية "السفينة"ورواية "يوميات سراب عفان" ، والثاني عنوانه الزمن في "السفينة" وفي رواية "البحث عن وليد مسعود" ، والثالث عنوانه بنية المكان في السفينة وفي رواية "الغرف الأخرى" ، وأنهى الدارس دراسته بخاتمة موجزة .
يعرض الدارس في المقدمة اختلاف المنهج الذي اختاره ، وهو المنهج البنيوي ، عن المناهج الأخرى التي تعالج الأدب اعتماداً مع معطيات أخرى خارجية . ويعلن عن النصوص التي سيعالجها وتلك التي يستبعدها ، وقد استبعد "صراخ في ليل طويل" و "صيادون في شارع ضيق" و "عالم بلا خرائط" ، لأن جبرا كتب الأولى والثانية بالإنجليزية ، والثالثة بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف . ولئن كان استبعاد الثالثة مقنعاً فإن استبعاد الأولى والثانية يبدو غير مقنع ، فالدارس لم يعالج اللغة ليميز بين لغة المؤلف ولغة المترجم ، وإنما عالج السرد والزمن والمكان ، وهذه كلها خاصة بالمؤلف لا بالمترجم .
ويأتي الدارس في المقدمة على النصوص التي يعتمدها للدراسة ، فيختار "السفينة" نصاً محورياً ليدرس فيه السرد والزمن والمكان ، وليتخذ من "يوميات سراب عفان" نصاً آخر يعالج فيه السرد أيضاً ، ومن "البحث عن وليد مسعود" نصاً آخر يعالج فيه الزمن ، ومن "الغرف الأخرى" نصاً آخر يعالج فيه المكان . وأرى أن الكاتب لم يكن موفقاً في اعتماد النص ، فيوميات سراب عفان مثلاً تسرد من ساردين اثنين ، تماماً كما أن السفينة تسرد أكثر فصولها ، باستثناء فصل واحد ، من ساردين اثنين ، وكان يفضل لو اعتمد الدارس نصاً آخر لجبرا يسرد بطريقة مختلفة حتى يبين لنا اختلاف اللعبة السردية في نصوصه ، وكان سيكون أكثر توفيقاً لو أنه اختار "صيادون في شارع ضيق" لأن بنيتها السردية تختلف عن البنية السردية للسفينة .
وتعاني المقدمة أيضاً من خلل آخر يتمثل في تنويه الدارس إلى بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها . يأتي الدارس على مصادر ومراجع ويغفل أخرى أهم ، ولئن كان كتاب سعيد يقطين وحميد الحمداني مهمين ، فإن الإشارة إلى دراسة السعافين وعبد الحميد محادين وإغفال الإشارة إلى كتاب يمنى العيد "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي" يبدو أمراً محيراً ، وكان الدارس اعتمد على دراسة يمنى العيد ، إذ كيف يغفل الدارس الإشارة إلى مصدر ويأتي على ذكر مرجع . إن معالجة العيد تختلف عن معالجة السعافين ومحادين ، فهي تنظّر للمنهج ، خلافاً للآخرين اللذين اعتمدا تارة عليه دون التنظير إليه ، كما هو في دراسة محادين ، أو اعتمدا على مناهج أخرى ، كما هو الحال في دراسة السعافين .
وثمة خطأ فادح وقع فيه الدارس في المقدمة أيضاً ، وذلك حين كتب عنواناً فرعياً هو "بعض الدراسات التي عالجت موضوع البحث" ، فالدراسات التي ذكرها لم تعالج ما يعالجه هو ، وإلا لما كان هناك مبرر لبحثه . لقد عالجت الدراسات أدب جبرا من زوايا مغايرة واعتماداً على مناهج مختلفة . وكنت شخصياً طلبت منه أن يستعيض عن التمهيد الذي يتكرر في المتن بالوقوف أمام الدراسات السابقة وعرضها حتى يبين اختلاف دراسته عنها ، ليظهر للآخرين مبرر هذه الدراسة وأهميتها ، ويبدو أن السرعة هي التي أوقعته في هذا المطب ، كما أوقعته في خطأ الاختيار . لقد اختار دراسات وأهمل أخرى ، وبعض الدراسات التي أهملها أهم من تلك التي عالجها . لقد أغفل مثلاً دراسة فاروق وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" وأتى على دراسة عمر شاهين ودراسة خليل الشيخ ، وتعد دراسة وادي أكثر شمولية من هاتين .
وأما التمهيد الذي يقع في أربع عشرة صفحة فقد عرف فيه المصطلحات التي وظفها في دراسته ، وهي مصطلحات يعثر المرء على أكثرها في كتب يمنى العيد "تقنيات النص السردي" وحميد الحمداني" بنية النص السردي" وعبد الملك مرتاض "في نظرية الرواية" وفي دراسات أخرى كدراسة عبد العالي بوطيب في فصول (1993) . ولئن كان الدارس أعاد كتابة هذه المصطلحات ، فإنه لم يعتمد على أصول وحسب ، لقد اعتمد أيضاً على مراجع ثانوية تعتمد على هذه الأصول ، ولعله أراد أن يظهر للآخرين مدى إحاطته بالدراسات الحديثة التي أتت على تقنيات السرد ، وهكذا لم يحسن استخدام المصادر والمراجع ، وفي عدم توظيف هذه توظيفاً جيداً وقع في الدراسة في أخطاء كان يمكن تلافيها ، من ذلك مثلاً أنه يوظف مصطلحات لها تسميات مختلفة ولكنها تؤدي المعنى نفسه . حقاً إنه يشير في التمهيد إلى هذا ، وهو ما يبدو في ص18 حيث يكتب "القفزة أو القطع أو الحذف "إلا أنه لا يقرّ على قرار واحد – أعني أنه لم يحدد مسبقاً أية تسمية سيختار ، علماً بأنه أشار في المقدمة ، وتحديداً في ص5 ، أشار إلى اختلاف الدارسين العرب في تعريب المصطلحات التي نقلت إلى العربية من لغات أوروبية عديدة ، وأتى بأمثلة على ذلك .
يمتد الفصل الأول الخاص بالسرد من ص23 إلى ص55 ويأتي فيه على الفصول التي يسردها كل من عصام السلمان ووديع عساف و(إميليا فرنيزي) في السفينة ، وكل من سراب عفان ونائل عمران في يوميات سراب عفان . ويعرض لهوية هؤلاء وطريقة سردهم وطرق حكي الأقوال – هنا نلاحظ مثلاً في ص49 أن الدارس يعتمد على كتاب عبد الحميد محادين "التقنيات السردية في أعمال عبد الرحمن منيف" ولا يعتمد على كتاب يمنى العيد ، وكتابها أسبق وأكثر صلة بالمنهج من ناحية نظرية - .
ويكتفي الدارس ، وهو يتناول جانب السرد ، بجانب واحد إلا ما ندر ، من جوانب السرد . إنه لا يأتي على جانب آخر مهم هو المسرود له ، تماماً كما أنه لا يلتفت إلى البنية السردية للنص . لكأن السرد يخص السارد فقط ، علماً بأن الدراسات الحديثة التفتت إلى المروي عليه / المسرود له ، وهنا يمكن أن نشير إلى دراسة (جبرالد برنس) : "مقدمة لدراسة المروي عليه" ، وهي دراسة نقلت إلى العربية ونشرت في مجلة فصول في العام 1993 . ولما كان الدارس أشار إلى أنه سيعتمد على المنهج البنيوي ، فإنه لم يقف أمام جانب مهم من جوانب هذا المنهج ، وهو جانب بنية النص والعلاقة بين فصول الروايات ، أهي علاقة تواز أم إتمام أم عكس ؟ . في كتابه "بنية النص السردي" ، وهو كتاب اعتمد عليه الدارس ، يناقش حميد الحمداني موضوع السرد ، ويرى أنه يتكون من راو ومروي عليه ومن القصة : "وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها ، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها يتعلق بالراوي والمروي عليه ، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها" (ص45 من ط1993/ بيروت) .
وما كان يجدر أن يقف أمامه الدارس هو توضيح طبيعة سارد جبرا : أهو كلي المعرفة أم جزئيها ؟ أهو سارد مشارك دائماً أم غير مشارك أحياناً ؟ أهو سارد حيادي أم غير حيادي؟ وكنت أتمنى لو أنه ربط بين المنهج البنيوي والبنيوي التكويني ، ليفسر لنا لماذا غلب على جبرا نوع معين من الساردين . لقد ذهبت ، شخصياً ، في أثناء كتابتي عن السارد في نماذج روائية فلسطينية إلى أن سارد جبرا في السفينة سارد يتقبل آراء الغير ، ولا يرى في ذاته الصواب المطلق، وربطت هذا بطبيعة جبرا المثقف الليبرالي (حول ذلك انظر مجلة كنعان (رام الله / الطيبة) ، ع93 ، تشرين ثان من العام 1993 . ص59 وما بعدها) . وكنت أفضل لو أن الدارس نظر في روايات حبرا كلها ، وتحدث عن طبيعة السارد فيها كلها مبيناً الاختلاف بين الساردين ليوضح لنا أن روايات جبرا لا تتبع طريقة واحدة في السرد ، وأسلوباً واحداً في طريقة العرض هو أسلوب وجهات النظر .
يمتد الفصل الثاني الذي يعالج فيه الزمن من ص57 إلى ص95 . يأتي الدارس على الزمن في السفينة ويعالج الزمن الداخلي : الزمن الروائي وزمن القص ، ويتوقف أمام تقنية الاسترجاع وتقنية الاستباق ، وأمام الديمومة والتواتر . يتوقف الدارس أمام المصطلحات ويحاول أن يأتي بأمثلة يدلل عليها ؟ وما يبدو مربكاً هنا أن الدارس أغفل في الفهرس وفي المتن أيضاً ذكر أولاً فيما ذكر ثانياً وثالثاً . لقد أورد الديمومة تحت ثانياً والتواتر تحت ثالثاً ، ويحار المرء أين تكون أولاً . أتكون أمام "تقنيتا المفارقة السردية" أم أمام عبارة أخرى غيرها ؟ وحين يأتي على زمن القص – أي زمن السرد – يعتمد على معطيات خارجية لتحديده ، وهو ما يبدو في هامش رقم 6 ، في ص59 : صرح جبرا بأن الزمن في السفينة محدد بأسبوع واحد" ، وقد رأى الدارس أنه محدد بسفر السفينة من بيروت في أوائل حزيران حتى رسوها في نابولي بعد عدة أيام. ويعرف هذا الزمن ، بعد تحديده ، اعتماداً على تعريف سعيد يقطين له في كتابه "تحليل الخطاب الروائي" . وكان الدارس قد عرفه في الصفحة السادسة عشرة – أي في التمهيد . ويلاحظ اختلاف التعريفين ، وذلك عائد إلى اعتماده على أكثر من مرجع . في ص16 يعتمد على كتاب حميد الحمداني "بنية النص السردي" وعليه يورد تحت زمن السرد : "أما زمن السرد أو القض فهو زمن الحاضر الروائي أو الزمن الذي ينهض فيه السرد" . فيما يورد في ص59 : "وزمن القص في الرواية (السفينة) هو حاضر التكلم أو الدرجة الصفر الذي يتيح إمكانية تحديد اللاحاضر سواء كان ذلك من قبل أو من بعد" .
ويتناول الدارس بعد ذلك رواية "البحث عن وليد مسعود" ؛ يتناولها فصلاً فصلاً ليظهر بنية الزمن فيها : الزمن المروي وطريقة السرد اعتماداً على الزمن : الاسترجاع ، كم الاسترجاع ، الاستشراف … الخ . وهكذا يلحظ أن الدارس اكتفى بالوصف وبمتابعة سير الزمن الداخلي ، ولم يلتفت إلى الأزمنة الخارجية : زمن الكتابة وزمن النشر الأول ، ولم يعالج صلة هذه الأزمنة بالأزمنة الداخلية ، وكان قبل إخراج الدراسة في شكلها النهائي قد أتى على ذلك وتساءل عما ينجم عن عدم مطابقة الزمنين : زمن الكتابة وزمن السرد معاً . ويبدو أن الجدل الذي أثير في النقاش جعله يغض الطرف عن سؤاله الذي كان أثاره : ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ وعدم الالتفات إلى هذا السؤال جعله أكثر التزاماً بالمنهج الذي اختطه لنفسه ، وإن كنت أود لو أنه جمع بين المنهج البنيوي والمنهج البنيوي التكويني هنا ، ليبقي على السؤال وليجيب عنه إجابة واضحة مقنعة . حقاً ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ ما الذي ينتج عن كتابة نص في زمن ما ، يعالج – أي النص – زمناً غير زمن الكتابة ؟ أيستطيع مسترجع ذلك الزمن أن يتمثله كما كان ؟ أيستطيع أن يكون دقيقاً في الكتابة عنه أم أنه يقع أسير زمن الكتابة ؟ لقد استرجع جبرا ، في نصوصه التي كتبها منذ الستينات ، أحداث عام 1948 ، وكانت المسافة بين الزمنين ؛ زمن الكتابة وزمن تلك الأحداث تمتد من اثنتي عشرة سنة ، كما في صيادون ، إلى سبعة وعشرين عاماً ، كما في البحث عن وليد مسعود ، وكان جبرا يقيم في بغداد أو في غيرها من المدن ، فكيف كتب عن تلك السنوات ؟
يمتد الفصل الثالث من ص97 – ص129 ، ويعالج فيه المكان في السفينة وفي الغرف الأخرى . يفتتح الدارس هذا الفصل بعبارة "إن لون الماء هو لون الوعاء الذي فيه " وينسب العبارة إلى "الجنيد" دون ان يفصح عن هوية "الجنيد"هذا . ويوضح علاقة المكان بالمرجعي ، ويعالج المكان في النصين المذكورين. هنا نجد الدارس يستخدم عبارات تحتاج إلى توضيح وإعادة نظر فيها ، من ذلك حين يربط بين الزمان والمكان ، وتحديداً حين يتحدث عن زمن القص وزمن المغامرة ويرى أن "زمن القص يختلف عن زمن المغامرة" وهو حكم قابل لأن يُساءل . هل يختلف دائماً زمن القص عن زمن المغامرة ؟ ماذا مثلاً حين أقص الآن عن شيء يجري الآن ؟ ألا يتطابق واللحظة التي أنا فيها وعليها . قد يختلف زمن الكتابة عن زمن القص ، وهذا ما يحدث غالباً ، حيث نكتب عما جرى بعد الانتهاء منه ، إلا في الشعر الذي يستجيب لحدث لحظي في تلك اللحظة ، خلافاً للقصة أو الرواية التي غالباً ما تنجز على الورق بعد الانتهاء من الحدث ، اللهم إلا إذا أخذنا نكتب عما يجري وقت جريان الحدث . هنا تصبح الكتابة سرداً ، وهنا يتطابق الزمنان أيضاً ، بل الأزمنة الثلاثة ، زمن الكتابة وزمن السرد وزمن الوقائع ، ويصبح الزمنان الأول والثاني زمناً واحداً أصلاً لتداخل الكتابة بالسرد ، خلافاً للكتابة التي تنجز فيما بعد زمن السرد الذي قد يكون حدث في زمن سابق ، هذا حين يختلف السارد عن الكاتب وينجز كل فعله في زمن مغاير .
يربط الدارس بين المكان والشخوص ، ويحتل المكان قيمته من علاقته بصاحبه ، وبما أن الشخوص في "السفينة" ينتمون إلى أمكنة مختلفة ، وبما أن المكان تارة حر وطوراً مغتصب ، فإن الذات التي ترتبط بمكان حر لا ترى في المكان ما تراه الذات التي اغتصب مكانها . إن فلسطين لوديع عساف الفلسطيني تعني الكثير في نظره ، وتظل محط أنظاره أينما حل وارتحل وتشغل ذهنه ، ولئن كانت العراق مهمة لعصام السلمان وللدكتور فالح ، فإنها ، لأنها غير مغتصبة ، تبقى طوع البنان . وارتباط وديع عساف بمنطقة بيت لحم والخليل غير ارتباط صديقته الدكتورة التي يرغب في الزواج منها ، فهي ، خلافاً له ، لم تنشأ في تلك المنطقة التي نشأ هو فيها .
وإذا كانت مرجعية المكان في السفينة محددة ، وإذا كانت الأسماء معروفة ، فهي ليست كذلك في الغرف الأخرى . وربما كان اختيار الدارس للغرف الأخرى اختياراً موفقاً .
في هذا الفصل ، كما في الفصول السابقة ، يعتمد الدارس على مراجع ثانوية ، ولا يعتمد على الأصول . ويخيل إليّ أحياناً أنه يكتب عبارات دون أن يعيها جيداً ، وأنه يقلد كتّاباً آخرين في أحكامهم دون أن يفصح عن ذلك في نصه المدروس . في ص107 يكتب : "تعبر الكويت عن ظاهرة اجتماعية حصلت بعد احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية ، وهي اغتراب الفلسطينيين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، خلافاً لبيروت التي كان الاغتراب فيها لأجل الدراسة أو البحوث" وهذه العبارة تقليد لما كتبه محمد عبد المطلب في دراسته التي نشرها في مجلة فصول ، وعنوان الدراسة "تدخلات الرؤية والسرد والمكان في رواية هالة البدري "منتهى" (فصول ، ربيع 1998 ، ص303) . ما كتبه الدارس آنفاً هو محاكاة لما كتبه محمد عبد المطلب :
"أما الأماكن العربية : السعودية والكويت ، فإنها تمثل مؤشرات على ظاهرة اجتماعية استفاضت بعد ذلك ، هي اغتراب المصريين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، على عكس الاغتراب في أوروبا الذي كان طلباً للثقافة والمعرفة ، وهذا وذاك يمثل إضافة إلى الواقع المكاني لمنتهى" .
وأرى أن كثيراً من عبارات الدارس كانت قياساً أو اقتباساَ دون تمثل كامل .
في ص 113 من الدراسة يتحدث الدارس عن الفضاء النصي رواية السفينة ، ويورد عشرة أسطر عن تشكل الرواية على الورق ، مبيناً صفحات كل فصل ، ويعود في ص114 ليرسمَ مربعاً يحتوي على عشرة مستطيلات يورد في كل مستطيل رقم الفصل ومكوناته من الصفحات ، وهذا لا ضرورة له .
وتتكون الخاتمة من ثلاث صفحات يأتي فيها على ما أتى عليه في الفصول ، ولا يستطيع الدارس الذي ذكر أنه سيوظف المنهج البنيوي ، لا يستطيع إلا أن يبدي إعجابه بنصوص جبرا ، وهكذا يصدر أحكام قيمة تتنافى وهذا المنهج الذي يدعو إلى الحياد ، لأنه يريد أن يجعل من النقد علماً . يكتب الدارس :
"تعرض روايات جبرا خطابها الشيق بأساليب سردية متنوعة مقدمة عن طريق ساردين يوليهم جبرا أهمية عظيمة …" .
ويكتب أيضاً :
"من كل ذلك يمكن ملاحظة عناصر الجمال في العمل الروائي من سرد ومكان وزمان وقد تشابكت لتشكل لوحات فنية سردية في غاية الجمال والروعة وتستعصي على القراءة التقليدية ، إن الرواية عند جبرا عالم آخر مجهول يكشف لك عند كل قراءة جديدة عن جسد روائي عذري تنتحر الكلمات عند لمس مفاتنه .." .
يكتب هذا وكأنه يقول : ليست ثمة قراءة نهائية لنصوص جبرا ، مؤكداً بذلك مقولة التفكيكيين .
د. عادل الأسطة
لقد أنجز الطلبة دراسات تتناول الشخصية في الرواية الفلسطينية ، والسخرية في الشعر الفلسطيني ، والرواية في الضفة والقطاع ما بين 67 و 1993 ، وتقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا ، كما أنجز طلبة آخرون دراسات تمس أعمال كتاب بعينهم مثل يحيى يخلف وفدوى طوقان ، وهناك دراسات قيد الإنجاز تتناول أعمال حنا إبراهيم وتوفيق فياض والمتوكل طه وأكرم هنية وعبد اللطيف عقل وحنا أبو حنا وسميح القاسم .
ولا شك أن هذه الدراسات ، وأخرى غيرها ، ستضع حداً للشكوى التي تصدر عن أدبائنا ، وهي شكوى مفادها أن نصوصهم لا تدرس ، وأن أساتذة الجامعات يتعالون على الأدب المحلي .
من الرسائل التي أنجزت مؤخراً رسالة الطالب عدوان نمر عدوان ، وعنوانها "تقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية" ، وقد أشرف عليها الدكتور عادل أبو عمشة ، وناقشها الدكتور مهدي عرار من جامعة بيرزيت وأنا من جامعة النجاح الوطنية .
تكونت الدراسة من مقدمة ، وتمهيد أتى فيه الدارس على مصطلحات النقد الروائي : السرد والزمن والفضاء ، ومن ثلاثة فصول ؛ الأول عنوانه تلاعبات السرد في رواية "السفينة"ورواية "يوميات سراب عفان" ، والثاني عنوانه الزمن في "السفينة" وفي رواية "البحث عن وليد مسعود" ، والثالث عنوانه بنية المكان في السفينة وفي رواية "الغرف الأخرى" ، وأنهى الدارس دراسته بخاتمة موجزة .
يعرض الدارس في المقدمة اختلاف المنهج الذي اختاره ، وهو المنهج البنيوي ، عن المناهج الأخرى التي تعالج الأدب اعتماداً مع معطيات أخرى خارجية . ويعلن عن النصوص التي سيعالجها وتلك التي يستبعدها ، وقد استبعد "صراخ في ليل طويل" و "صيادون في شارع ضيق" و "عالم بلا خرائط" ، لأن جبرا كتب الأولى والثانية بالإنجليزية ، والثالثة بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف . ولئن كان استبعاد الثالثة مقنعاً فإن استبعاد الأولى والثانية يبدو غير مقنع ، فالدارس لم يعالج اللغة ليميز بين لغة المؤلف ولغة المترجم ، وإنما عالج السرد والزمن والمكان ، وهذه كلها خاصة بالمؤلف لا بالمترجم .
ويأتي الدارس في المقدمة على النصوص التي يعتمدها للدراسة ، فيختار "السفينة" نصاً محورياً ليدرس فيه السرد والزمن والمكان ، وليتخذ من "يوميات سراب عفان" نصاً آخر يعالج فيه السرد أيضاً ، ومن "البحث عن وليد مسعود" نصاً آخر يعالج فيه الزمن ، ومن "الغرف الأخرى" نصاً آخر يعالج فيه المكان . وأرى أن الكاتب لم يكن موفقاً في اعتماد النص ، فيوميات سراب عفان مثلاً تسرد من ساردين اثنين ، تماماً كما أن السفينة تسرد أكثر فصولها ، باستثناء فصل واحد ، من ساردين اثنين ، وكان يفضل لو اعتمد الدارس نصاً آخر لجبرا يسرد بطريقة مختلفة حتى يبين لنا اختلاف اللعبة السردية في نصوصه ، وكان سيكون أكثر توفيقاً لو أنه اختار "صيادون في شارع ضيق" لأن بنيتها السردية تختلف عن البنية السردية للسفينة .
وتعاني المقدمة أيضاً من خلل آخر يتمثل في تنويه الدارس إلى بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها . يأتي الدارس على مصادر ومراجع ويغفل أخرى أهم ، ولئن كان كتاب سعيد يقطين وحميد الحمداني مهمين ، فإن الإشارة إلى دراسة السعافين وعبد الحميد محادين وإغفال الإشارة إلى كتاب يمنى العيد "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي" يبدو أمراً محيراً ، وكان الدارس اعتمد على دراسة يمنى العيد ، إذ كيف يغفل الدارس الإشارة إلى مصدر ويأتي على ذكر مرجع . إن معالجة العيد تختلف عن معالجة السعافين ومحادين ، فهي تنظّر للمنهج ، خلافاً للآخرين اللذين اعتمدا تارة عليه دون التنظير إليه ، كما هو في دراسة محادين ، أو اعتمدا على مناهج أخرى ، كما هو الحال في دراسة السعافين .
وثمة خطأ فادح وقع فيه الدارس في المقدمة أيضاً ، وذلك حين كتب عنواناً فرعياً هو "بعض الدراسات التي عالجت موضوع البحث" ، فالدراسات التي ذكرها لم تعالج ما يعالجه هو ، وإلا لما كان هناك مبرر لبحثه . لقد عالجت الدراسات أدب جبرا من زوايا مغايرة واعتماداً على مناهج مختلفة . وكنت شخصياً طلبت منه أن يستعيض عن التمهيد الذي يتكرر في المتن بالوقوف أمام الدراسات السابقة وعرضها حتى يبين اختلاف دراسته عنها ، ليظهر للآخرين مبرر هذه الدراسة وأهميتها ، ويبدو أن السرعة هي التي أوقعته في هذا المطب ، كما أوقعته في خطأ الاختيار . لقد اختار دراسات وأهمل أخرى ، وبعض الدراسات التي أهملها أهم من تلك التي عالجها . لقد أغفل مثلاً دراسة فاروق وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" وأتى على دراسة عمر شاهين ودراسة خليل الشيخ ، وتعد دراسة وادي أكثر شمولية من هاتين .
وأما التمهيد الذي يقع في أربع عشرة صفحة فقد عرف فيه المصطلحات التي وظفها في دراسته ، وهي مصطلحات يعثر المرء على أكثرها في كتب يمنى العيد "تقنيات النص السردي" وحميد الحمداني" بنية النص السردي" وعبد الملك مرتاض "في نظرية الرواية" وفي دراسات أخرى كدراسة عبد العالي بوطيب في فصول (1993) . ولئن كان الدارس أعاد كتابة هذه المصطلحات ، فإنه لم يعتمد على أصول وحسب ، لقد اعتمد أيضاً على مراجع ثانوية تعتمد على هذه الأصول ، ولعله أراد أن يظهر للآخرين مدى إحاطته بالدراسات الحديثة التي أتت على تقنيات السرد ، وهكذا لم يحسن استخدام المصادر والمراجع ، وفي عدم توظيف هذه توظيفاً جيداً وقع في الدراسة في أخطاء كان يمكن تلافيها ، من ذلك مثلاً أنه يوظف مصطلحات لها تسميات مختلفة ولكنها تؤدي المعنى نفسه . حقاً إنه يشير في التمهيد إلى هذا ، وهو ما يبدو في ص18 حيث يكتب "القفزة أو القطع أو الحذف "إلا أنه لا يقرّ على قرار واحد – أعني أنه لم يحدد مسبقاً أية تسمية سيختار ، علماً بأنه أشار في المقدمة ، وتحديداً في ص5 ، أشار إلى اختلاف الدارسين العرب في تعريب المصطلحات التي نقلت إلى العربية من لغات أوروبية عديدة ، وأتى بأمثلة على ذلك .
يمتد الفصل الأول الخاص بالسرد من ص23 إلى ص55 ويأتي فيه على الفصول التي يسردها كل من عصام السلمان ووديع عساف و(إميليا فرنيزي) في السفينة ، وكل من سراب عفان ونائل عمران في يوميات سراب عفان . ويعرض لهوية هؤلاء وطريقة سردهم وطرق حكي الأقوال – هنا نلاحظ مثلاً في ص49 أن الدارس يعتمد على كتاب عبد الحميد محادين "التقنيات السردية في أعمال عبد الرحمن منيف" ولا يعتمد على كتاب يمنى العيد ، وكتابها أسبق وأكثر صلة بالمنهج من ناحية نظرية - .
ويكتفي الدارس ، وهو يتناول جانب السرد ، بجانب واحد إلا ما ندر ، من جوانب السرد . إنه لا يأتي على جانب آخر مهم هو المسرود له ، تماماً كما أنه لا يلتفت إلى البنية السردية للنص . لكأن السرد يخص السارد فقط ، علماً بأن الدراسات الحديثة التفتت إلى المروي عليه / المسرود له ، وهنا يمكن أن نشير إلى دراسة (جبرالد برنس) : "مقدمة لدراسة المروي عليه" ، وهي دراسة نقلت إلى العربية ونشرت في مجلة فصول في العام 1993 . ولما كان الدارس أشار إلى أنه سيعتمد على المنهج البنيوي ، فإنه لم يقف أمام جانب مهم من جوانب هذا المنهج ، وهو جانب بنية النص والعلاقة بين فصول الروايات ، أهي علاقة تواز أم إتمام أم عكس ؟ . في كتابه "بنية النص السردي" ، وهو كتاب اعتمد عليه الدارس ، يناقش حميد الحمداني موضوع السرد ، ويرى أنه يتكون من راو ومروي عليه ومن القصة : "وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها ، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها يتعلق بالراوي والمروي عليه ، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها" (ص45 من ط1993/ بيروت) .
وما كان يجدر أن يقف أمامه الدارس هو توضيح طبيعة سارد جبرا : أهو كلي المعرفة أم جزئيها ؟ أهو سارد مشارك دائماً أم غير مشارك أحياناً ؟ أهو سارد حيادي أم غير حيادي؟ وكنت أتمنى لو أنه ربط بين المنهج البنيوي والبنيوي التكويني ، ليفسر لنا لماذا غلب على جبرا نوع معين من الساردين . لقد ذهبت ، شخصياً ، في أثناء كتابتي عن السارد في نماذج روائية فلسطينية إلى أن سارد جبرا في السفينة سارد يتقبل آراء الغير ، ولا يرى في ذاته الصواب المطلق، وربطت هذا بطبيعة جبرا المثقف الليبرالي (حول ذلك انظر مجلة كنعان (رام الله / الطيبة) ، ع93 ، تشرين ثان من العام 1993 . ص59 وما بعدها) . وكنت أفضل لو أن الدارس نظر في روايات حبرا كلها ، وتحدث عن طبيعة السارد فيها كلها مبيناً الاختلاف بين الساردين ليوضح لنا أن روايات جبرا لا تتبع طريقة واحدة في السرد ، وأسلوباً واحداً في طريقة العرض هو أسلوب وجهات النظر .
يمتد الفصل الثاني الذي يعالج فيه الزمن من ص57 إلى ص95 . يأتي الدارس على الزمن في السفينة ويعالج الزمن الداخلي : الزمن الروائي وزمن القص ، ويتوقف أمام تقنية الاسترجاع وتقنية الاستباق ، وأمام الديمومة والتواتر . يتوقف الدارس أمام المصطلحات ويحاول أن يأتي بأمثلة يدلل عليها ؟ وما يبدو مربكاً هنا أن الدارس أغفل في الفهرس وفي المتن أيضاً ذكر أولاً فيما ذكر ثانياً وثالثاً . لقد أورد الديمومة تحت ثانياً والتواتر تحت ثالثاً ، ويحار المرء أين تكون أولاً . أتكون أمام "تقنيتا المفارقة السردية" أم أمام عبارة أخرى غيرها ؟ وحين يأتي على زمن القص – أي زمن السرد – يعتمد على معطيات خارجية لتحديده ، وهو ما يبدو في هامش رقم 6 ، في ص59 : صرح جبرا بأن الزمن في السفينة محدد بأسبوع واحد" ، وقد رأى الدارس أنه محدد بسفر السفينة من بيروت في أوائل حزيران حتى رسوها في نابولي بعد عدة أيام. ويعرف هذا الزمن ، بعد تحديده ، اعتماداً على تعريف سعيد يقطين له في كتابه "تحليل الخطاب الروائي" . وكان الدارس قد عرفه في الصفحة السادسة عشرة – أي في التمهيد . ويلاحظ اختلاف التعريفين ، وذلك عائد إلى اعتماده على أكثر من مرجع . في ص16 يعتمد على كتاب حميد الحمداني "بنية النص السردي" وعليه يورد تحت زمن السرد : "أما زمن السرد أو القض فهو زمن الحاضر الروائي أو الزمن الذي ينهض فيه السرد" . فيما يورد في ص59 : "وزمن القص في الرواية (السفينة) هو حاضر التكلم أو الدرجة الصفر الذي يتيح إمكانية تحديد اللاحاضر سواء كان ذلك من قبل أو من بعد" .
ويتناول الدارس بعد ذلك رواية "البحث عن وليد مسعود" ؛ يتناولها فصلاً فصلاً ليظهر بنية الزمن فيها : الزمن المروي وطريقة السرد اعتماداً على الزمن : الاسترجاع ، كم الاسترجاع ، الاستشراف … الخ . وهكذا يلحظ أن الدارس اكتفى بالوصف وبمتابعة سير الزمن الداخلي ، ولم يلتفت إلى الأزمنة الخارجية : زمن الكتابة وزمن النشر الأول ، ولم يعالج صلة هذه الأزمنة بالأزمنة الداخلية ، وكان قبل إخراج الدراسة في شكلها النهائي قد أتى على ذلك وتساءل عما ينجم عن عدم مطابقة الزمنين : زمن الكتابة وزمن السرد معاً . ويبدو أن الجدل الذي أثير في النقاش جعله يغض الطرف عن سؤاله الذي كان أثاره : ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ وعدم الالتفات إلى هذا السؤال جعله أكثر التزاماً بالمنهج الذي اختطه لنفسه ، وإن كنت أود لو أنه جمع بين المنهج البنيوي والمنهج البنيوي التكويني هنا ، ليبقي على السؤال وليجيب عنه إجابة واضحة مقنعة . حقاً ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ ما الذي ينتج عن كتابة نص في زمن ما ، يعالج – أي النص – زمناً غير زمن الكتابة ؟ أيستطيع مسترجع ذلك الزمن أن يتمثله كما كان ؟ أيستطيع أن يكون دقيقاً في الكتابة عنه أم أنه يقع أسير زمن الكتابة ؟ لقد استرجع جبرا ، في نصوصه التي كتبها منذ الستينات ، أحداث عام 1948 ، وكانت المسافة بين الزمنين ؛ زمن الكتابة وزمن تلك الأحداث تمتد من اثنتي عشرة سنة ، كما في صيادون ، إلى سبعة وعشرين عاماً ، كما في البحث عن وليد مسعود ، وكان جبرا يقيم في بغداد أو في غيرها من المدن ، فكيف كتب عن تلك السنوات ؟
يمتد الفصل الثالث من ص97 – ص129 ، ويعالج فيه المكان في السفينة وفي الغرف الأخرى . يفتتح الدارس هذا الفصل بعبارة "إن لون الماء هو لون الوعاء الذي فيه " وينسب العبارة إلى "الجنيد" دون ان يفصح عن هوية "الجنيد"هذا . ويوضح علاقة المكان بالمرجعي ، ويعالج المكان في النصين المذكورين. هنا نجد الدارس يستخدم عبارات تحتاج إلى توضيح وإعادة نظر فيها ، من ذلك حين يربط بين الزمان والمكان ، وتحديداً حين يتحدث عن زمن القص وزمن المغامرة ويرى أن "زمن القص يختلف عن زمن المغامرة" وهو حكم قابل لأن يُساءل . هل يختلف دائماً زمن القص عن زمن المغامرة ؟ ماذا مثلاً حين أقص الآن عن شيء يجري الآن ؟ ألا يتطابق واللحظة التي أنا فيها وعليها . قد يختلف زمن الكتابة عن زمن القص ، وهذا ما يحدث غالباً ، حيث نكتب عما جرى بعد الانتهاء منه ، إلا في الشعر الذي يستجيب لحدث لحظي في تلك اللحظة ، خلافاً للقصة أو الرواية التي غالباً ما تنجز على الورق بعد الانتهاء من الحدث ، اللهم إلا إذا أخذنا نكتب عما يجري وقت جريان الحدث . هنا تصبح الكتابة سرداً ، وهنا يتطابق الزمنان أيضاً ، بل الأزمنة الثلاثة ، زمن الكتابة وزمن السرد وزمن الوقائع ، ويصبح الزمنان الأول والثاني زمناً واحداً أصلاً لتداخل الكتابة بالسرد ، خلافاً للكتابة التي تنجز فيما بعد زمن السرد الذي قد يكون حدث في زمن سابق ، هذا حين يختلف السارد عن الكاتب وينجز كل فعله في زمن مغاير .
يربط الدارس بين المكان والشخوص ، ويحتل المكان قيمته من علاقته بصاحبه ، وبما أن الشخوص في "السفينة" ينتمون إلى أمكنة مختلفة ، وبما أن المكان تارة حر وطوراً مغتصب ، فإن الذات التي ترتبط بمكان حر لا ترى في المكان ما تراه الذات التي اغتصب مكانها . إن فلسطين لوديع عساف الفلسطيني تعني الكثير في نظره ، وتظل محط أنظاره أينما حل وارتحل وتشغل ذهنه ، ولئن كانت العراق مهمة لعصام السلمان وللدكتور فالح ، فإنها ، لأنها غير مغتصبة ، تبقى طوع البنان . وارتباط وديع عساف بمنطقة بيت لحم والخليل غير ارتباط صديقته الدكتورة التي يرغب في الزواج منها ، فهي ، خلافاً له ، لم تنشأ في تلك المنطقة التي نشأ هو فيها .
وإذا كانت مرجعية المكان في السفينة محددة ، وإذا كانت الأسماء معروفة ، فهي ليست كذلك في الغرف الأخرى . وربما كان اختيار الدارس للغرف الأخرى اختياراً موفقاً .
في هذا الفصل ، كما في الفصول السابقة ، يعتمد الدارس على مراجع ثانوية ، ولا يعتمد على الأصول . ويخيل إليّ أحياناً أنه يكتب عبارات دون أن يعيها جيداً ، وأنه يقلد كتّاباً آخرين في أحكامهم دون أن يفصح عن ذلك في نصه المدروس . في ص107 يكتب : "تعبر الكويت عن ظاهرة اجتماعية حصلت بعد احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية ، وهي اغتراب الفلسطينيين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، خلافاً لبيروت التي كان الاغتراب فيها لأجل الدراسة أو البحوث" وهذه العبارة تقليد لما كتبه محمد عبد المطلب في دراسته التي نشرها في مجلة فصول ، وعنوان الدراسة "تدخلات الرؤية والسرد والمكان في رواية هالة البدري "منتهى" (فصول ، ربيع 1998 ، ص303) . ما كتبه الدارس آنفاً هو محاكاة لما كتبه محمد عبد المطلب :
"أما الأماكن العربية : السعودية والكويت ، فإنها تمثل مؤشرات على ظاهرة اجتماعية استفاضت بعد ذلك ، هي اغتراب المصريين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، على عكس الاغتراب في أوروبا الذي كان طلباً للثقافة والمعرفة ، وهذا وذاك يمثل إضافة إلى الواقع المكاني لمنتهى" .
وأرى أن كثيراً من عبارات الدارس كانت قياساً أو اقتباساَ دون تمثل كامل .
في ص 113 من الدراسة يتحدث الدارس عن الفضاء النصي رواية السفينة ، ويورد عشرة أسطر عن تشكل الرواية على الورق ، مبيناً صفحات كل فصل ، ويعود في ص114 ليرسمَ مربعاً يحتوي على عشرة مستطيلات يورد في كل مستطيل رقم الفصل ومكوناته من الصفحات ، وهذا لا ضرورة له .
وتتكون الخاتمة من ثلاث صفحات يأتي فيها على ما أتى عليه في الفصول ، ولا يستطيع الدارس الذي ذكر أنه سيوظف المنهج البنيوي ، لا يستطيع إلا أن يبدي إعجابه بنصوص جبرا ، وهكذا يصدر أحكام قيمة تتنافى وهذا المنهج الذي يدعو إلى الحياد ، لأنه يريد أن يجعل من النقد علماً . يكتب الدارس :
"تعرض روايات جبرا خطابها الشيق بأساليب سردية متنوعة مقدمة عن طريق ساردين يوليهم جبرا أهمية عظيمة …" .
ويكتب أيضاً :
"من كل ذلك يمكن ملاحظة عناصر الجمال في العمل الروائي من سرد ومكان وزمان وقد تشابكت لتشكل لوحات فنية سردية في غاية الجمال والروعة وتستعصي على القراءة التقليدية ، إن الرواية عند جبرا عالم آخر مجهول يكشف لك عند كل قراءة جديدة عن جسد روائي عذري تنتحر الكلمات عند لمس مفاتنه .." .
يكتب هذا وكأنه يقول : ليست ثمة قراءة نهائية لنصوص جبرا ، مؤكداً بذلك مقولة التفكيكيين .
د. عادل الأسطة