***
****
-7-
الطبيعة
كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.
الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي
والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتج فيه الأغصان، وتذبل الأزاهير، وتخلو الأرض من النبات، ولذلك يقولون للرجل إذا بلغ أقصى العمر أنه في خريف الحياة، ويقصدون من ذلك أن ما كان فيه من شباب وقوة ذهب ولكن الشاعر السوداني الذي يصدر عن عاطفة منساقة مع شعور قومه ومعبرة عما يختلج في حياتهم من خضب ونماء لا يستطيع أن يعبر عن الخريف إلا أنه شباب الزمن وفصل الحياة والنمو. كما عبرت عنه الشاعرة البدوية السودانية فجعلت فيه (الطبيعة الصامتة) والجمال الحبيب. فهذا السحاب يحثم في الشرق مؤذنا الأرض بعودة شبابها الأخضر. أو هو قد آذنها أمس وقبله، ويؤذنها الليلة بواكف مدرار. وتلك هي دجاجة الوادي ترجع كعادتها في الخريف إلى بيضها تحتضنه لتهب له الحرارة والدفء، ونقيق الضفادع يعلو في المشارع والمناهل، وأولاد الإبل تعدو مسرعات خلف أمهاتها فرحا بالخريف واستبشاراً به) وهذا في الحق تصوير رقيق لمظاهر الخريف ومباهجه التي تسري في الإنسان والحيوان على السواء.
ولسنا نعني من شعر الطبيعة أن يقول الشعراء - فقط - في المناظر الطبيعية التي تتراءى لهم في بلادهم، ولكنا نقصد أن تكون عواطفهم واتجاهاتهم مطبوعة بطابع هذه المناظر فنجد تشبيهاتهم وتخيلاتهم مستمدة من حياتهم؛ ولست تقضي العجب من هذا الشاعر الذي يتنقل بين (دادي هور) و (وادي كتم) و (صحراء العتمور) و (حدائق المقرن) ثم لا يذكر في شعره ألا ألبان والعلم والخيف من منى ووادي العقيق.
والشعر السوداني شعران: شعر الخاصة: والشعر القومي. والنظر الفاحص في شعر الخاصة يهدينا إلى أنه كغيره من شعر الأمم الشرقية مشدود إلى الشعر العربي بأربطة وثيقة ولا تكاد تجد له استقلالاً عنه. وإذا كان الشعر في بعض البلدان تحلل من تقليد الشعر العربي القديم فإنه لا يزال في السودان حفياً به مقتفياً أثره، متتبعاً خطواته، فالشعراء يبدون قصائدهم بالغزل كما كان يفعل القدماء ويقفون على الأطلال والدمن، ويستوقفون الأصحاب كما وقف القدماء واستوقفوا. . . وهكذا
وبطبيعة الحال لا تعدم في هذا الشعر الكثير الشاعر الصادق والشعر المصور فقد يصف الشاعر رحلته على الناقة، كما وصف القدماء، ويقف على الأطلال كما وقفوا، وهو مع ذلك صادق لأنه؛ مر بهذه التجارب الشعورية، وعاش فيها حيناً من الزمن فهذا الشاعر السوداني حين رحل إلى وادي هور (وهو أسم واد غرب السودان، وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة) رحل على ناقة لقي معها من عنت السفر أو مشقة الطريق ما لقي ولا شك أنه حين وقف على هذه الآثار فاضت عبراته. وتدفق شعوره، فصور ما وقع له، لم يقلد فيه غيره، ولم يصدر عن غير عاطفة، وهذا ما عرفناه من تاريخ حياته قال يذكر حبيبه:
لم أنسه إذ زارني ... منه خيال ما أستقر
زار الرحال وبيننا ... سير على البيد عسر
إيجاف شهر للمطى ... تخوض في كثب عفر
وسرى ليال لم تذق ... طعم الكرى حتى السحر
سبحان ربي أمين وا ... دي النيل من دادي هور
وادي الجحاجحة الالي ... عمروه في خالي العصر
وعواصم القلوم الذ ... ين بذكرهم تحلو السير
زرت الربوع فخانني ... صبري لذكرى من غبر
ما كان لي كبدا لسلو ... ولا فؤاد من حجر
بخل الجفون على ثرى الغا ... دين من إحدى الكبر
وهذا الشاعر معرم بوصف بلاده، وقد قال في كثير منها، وأشبه شعره بالشعر العربي قصيدته في (مليط) وهي مركز من مراكز درافور؛ ولا نتهمه في شعوره بل إننا نقول أنه مع هذا النهج القديم صادق الشعور.
حياك مليط صوب العارض الغادي ... وجادوا ديك ذا الجنات من وادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت ... منا المطايا بإيجاف وإيخاد
كثبانك العفر ما أبهى مناظرها ... أنس لدى وحشة رزق لمرتاد
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ... ذيل السحاب بلا كد وإجهاد
وأعين الماء تجري من جداولها ... صوارما عرضوها غير إغماد
والورق تهتف والأظلال وارفة ... والريح ترفع ميادا لمياد
وقد نجد الشعراء المحدثين يتجهون اتجاهاً قومياً وإن كان بعضهم ترك الأفق الشرقي عامة، واتجه بعواطفه وميوله وشعره إلى أفق آخر لا يستقيم معه أدبنا. وعندي أن الأدب كالدين، فمن ترك ديننا فقد كفر بالله من ترك أدبنا فقد كفر بالوطن. وهؤلاء الشعراء المحدثون ينظمون - أحيانا. . في مناظر بلادهم. وللشاعر التيجاني يوسف قصيدة في جزيرة (توني) وهي جزيرة تقع بين الخرطوم وأم درمان خصيبة التربة. طيبة الهواء، وصفها الشاعر فأجاد، ومن قوله فيها:
يادرة حضها النيل ... واحتواها البر
صحا الدجى وتغـ ... شاك في الأسرة فجر
وطاف حولك ركب ... من الكراكي أغر
وراح ينفض عينيه من ... بني الأيك حر
فماج بالأيك عش ... وقام في العش دبر
كم ذا تمازح فن ... على يديك وسحر
يخور ثور وتثغو ... شاة وينهق حمر
وألبهم تمرح والزر ... ع مونق مخضر
تجاوب اللحن والط ... حن والثغاء المسر
وهب صوت النواعير ... وهو في الشجو مر
وكلها - وهي طويلة - على هذا النحو من التصوير الناطق والتعبير البسيط.
أما الأدب القومي فهو صورة صحيحة للحياة السودانية الطبيعية، ففيه الأحاديث الطوال عن السحائب الغر، التي تجود عليه بالمطر، وعن الأشجار الباسقة من سرح وسدر وجميز، وعن ضفاف النيل. وموارد الغدران والأودية، وعن الأطيار الساجعة فوق أغصانها؛ والظباء النافرة في فتن الجبال والغابات. ولنكشف هنا بمثال واحد يصور لنا أوائل الخريف وكيف أستقبله الناس والأنعام وكيف اهتزت به الأرض وربت. سأل أحد السجناء من أهل البطانة شاعرهم الحردلو عن أخبار مسقط رأسه وملعب صباه. وكان الحردلو شاعراً بدوياً مجيداً وله في الأدب القومي شأن أي شأن (وسنفرده ببحث خاص إن شاء الله) فأجاب صاحبه قائلا:
الخبر الجا قالوا البطانة أرشت ... وسارية تجود حتى الصباح ما أنفشت
هاج فحل أمصر يصر والمنايح بشت ... ديت أم ساق على حدب الجميل انعشت
فالشاعر يجيب صاحبيه بأن الخبر الذي جاء والنبأ الذي وصل إليه خبر جميل طيب. قالوا البطانة أرشت، والبطانة المكان الواقع بين النيل الأزرق والانيرا وفيه مراع واسعة، وكانت فيه قديماً مملكة مروى الشهيرة في التاريخ، والآن ينزله أثناء الخريف عرب الشكرية والبطاحين والضباينة والجمران. والبطانة مشهورة بالخصب. والشاعر جاءه الخبر أنها أرست ونزلت فيها الأمطار. وأن سحابة مملوءة بالماء جاءت عليها طوال الليل وطلع عليها الصباح ومع ذلك فلا يزال فيها المطر الغزير (وسارية تجود حتى الصباح ما انفشت) فسرت الحياة في الأرض، ومشى البشر في نفوس الحيوانات، وبدأت علائم الخصب ونزعة الإنتاج في الأرض والحيوان سواء بسواء، فاهتاج الجمل للقاح (هاج فحل أمصر بمصر وهوت إخلاف النوق بفيوض من اللبن الحبيب (والمنابح كشت وكست الأعشاب أديم الأرض، حتى لتتعشى البكرة التي عبر عنها الشاعر ببنت أم ساق وأم ساق كناية عن الناقة وهي تكنية جميلة جداً. هذه البكرة تتعشى من الأعشاب المحيطة بالمنازل ومن عادة الفصلان ألا تتوغل في المزارع والأعشاب، وتكتفي بأن ترعي قريباً من المنزل، فإذا كان العشب القريب يكفي لعشائهم فمعنى هذا أن الخصب قد عم، وهذا ما أراده الشاعر.
ولو قيض لهذا الأدب القومي السوداني من يدرسه دراسة وافية، ويقف عند مواطن الحسن فيه لجاء الأدب واللغة بخير كثير.
****
- 8 -
الأخلاق والعادات
لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات.
وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب. ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً:
من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق. كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت.
ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف. وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف. . . وهكذا حتى قتلوا جميعاً.
وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر.
ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا. لا. (الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت)
ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول: (ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب.
بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟!
هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان. وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك:
ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا
فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري:
سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى:
لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا ... وانظم من حب الدموع المراثيا
ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات.
أنا أن عضني الزمان بناب ... ودهائي يوماً بفرس
وبلتني الخطوب من كل نوع ... ودهتني الكروب من كل جنس
أن لي كالحديد عزماً ونفساً ... لا تفل الخطوب عزمي ونفسي
ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات:
ألقى بصبري جسام الحادثات ولى ... عزم أصد به ما قد يلاقني
ولا أتوق لحال لا تلائمها ... حالي، ولا منزل اللذات يلهيني
ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت ... إلا الذي بجميل الذكر يرضيني
وكيف اقبل أسباب الهوان ولى ... آباء صدق من الغر الميامين
وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها.
بي عبدو، بي خادمو. ... للدهر العيش مورادمو
يكفى الضيف، ويقادمو
فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين:
من منا ولى منا ... كذبوا القالوا متلنا
يكفى مراره فيسلنا ... ويصد القوم عاطلنا
فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار.
والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب.
أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها:
كأن الزمان برغم الزم ... ان أمسى تبيعا لسلطانيه
غفرت له وهو ذاك العتي ... فكم ناشئ بيد عاتيه
عدا فاستباح دروع الكما ... ة فلف بها رمما بالية
وخلى التربك وهز البوا ... تر حبساً على الغادة الناعية
والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف:
عوذوا الحسن بالرقى وخذوني ... أنا تعويذة لكعبة روحي
قربوها مجاماراً أنا وحدي ... عوذ للجمال من كل روح
احرقوني عل يديه وشيدوا ... هيكل الحب من فؤادي الذبيح
واعصروا قلبي المفزع للحسن ... أماناوعوذوه (ينوح)
وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول:
وليلة من جمادي ... في مثل روعة شهره
درجت والحسن حولي ... إلى خبيئة سره
ورحت احرق نفسي ... على مجامر عطره
أذبت من خمر روحي ... على يديه وثغره
بقية من ربيع ... شقيت وحدي بزهره
ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ... فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من مرءرد خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه وحديث ذو أفانين
ولا منى فيك والأشجان زائدة ... قوم وأحرى بهم إلا يلوموني
في ذمة الله محبوب كلفت به ... كالريم جيداً وكالحيروز في اللين
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني
------------------------
7- مجلة الرسالة - العدد 889/ بتاريخ: 17 - 07 - 1950
8- مجلة الرسالة - العدد 898 / بتاريخ: 18 - 09 - 195
****
-7-
الطبيعة
كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.
الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي
والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتج فيه الأغصان، وتذبل الأزاهير، وتخلو الأرض من النبات، ولذلك يقولون للرجل إذا بلغ أقصى العمر أنه في خريف الحياة، ويقصدون من ذلك أن ما كان فيه من شباب وقوة ذهب ولكن الشاعر السوداني الذي يصدر عن عاطفة منساقة مع شعور قومه ومعبرة عما يختلج في حياتهم من خضب ونماء لا يستطيع أن يعبر عن الخريف إلا أنه شباب الزمن وفصل الحياة والنمو. كما عبرت عنه الشاعرة البدوية السودانية فجعلت فيه (الطبيعة الصامتة) والجمال الحبيب. فهذا السحاب يحثم في الشرق مؤذنا الأرض بعودة شبابها الأخضر. أو هو قد آذنها أمس وقبله، ويؤذنها الليلة بواكف مدرار. وتلك هي دجاجة الوادي ترجع كعادتها في الخريف إلى بيضها تحتضنه لتهب له الحرارة والدفء، ونقيق الضفادع يعلو في المشارع والمناهل، وأولاد الإبل تعدو مسرعات خلف أمهاتها فرحا بالخريف واستبشاراً به) وهذا في الحق تصوير رقيق لمظاهر الخريف ومباهجه التي تسري في الإنسان والحيوان على السواء.
ولسنا نعني من شعر الطبيعة أن يقول الشعراء - فقط - في المناظر الطبيعية التي تتراءى لهم في بلادهم، ولكنا نقصد أن تكون عواطفهم واتجاهاتهم مطبوعة بطابع هذه المناظر فنجد تشبيهاتهم وتخيلاتهم مستمدة من حياتهم؛ ولست تقضي العجب من هذا الشاعر الذي يتنقل بين (دادي هور) و (وادي كتم) و (صحراء العتمور) و (حدائق المقرن) ثم لا يذكر في شعره ألا ألبان والعلم والخيف من منى ووادي العقيق.
والشعر السوداني شعران: شعر الخاصة: والشعر القومي. والنظر الفاحص في شعر الخاصة يهدينا إلى أنه كغيره من شعر الأمم الشرقية مشدود إلى الشعر العربي بأربطة وثيقة ولا تكاد تجد له استقلالاً عنه. وإذا كان الشعر في بعض البلدان تحلل من تقليد الشعر العربي القديم فإنه لا يزال في السودان حفياً به مقتفياً أثره، متتبعاً خطواته، فالشعراء يبدون قصائدهم بالغزل كما كان يفعل القدماء ويقفون على الأطلال والدمن، ويستوقفون الأصحاب كما وقف القدماء واستوقفوا. . . وهكذا
وبطبيعة الحال لا تعدم في هذا الشعر الكثير الشاعر الصادق والشعر المصور فقد يصف الشاعر رحلته على الناقة، كما وصف القدماء، ويقف على الأطلال كما وقفوا، وهو مع ذلك صادق لأنه؛ مر بهذه التجارب الشعورية، وعاش فيها حيناً من الزمن فهذا الشاعر السوداني حين رحل إلى وادي هور (وهو أسم واد غرب السودان، وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة) رحل على ناقة لقي معها من عنت السفر أو مشقة الطريق ما لقي ولا شك أنه حين وقف على هذه الآثار فاضت عبراته. وتدفق شعوره، فصور ما وقع له، لم يقلد فيه غيره، ولم يصدر عن غير عاطفة، وهذا ما عرفناه من تاريخ حياته قال يذكر حبيبه:
لم أنسه إذ زارني ... منه خيال ما أستقر
زار الرحال وبيننا ... سير على البيد عسر
إيجاف شهر للمطى ... تخوض في كثب عفر
وسرى ليال لم تذق ... طعم الكرى حتى السحر
سبحان ربي أمين وا ... دي النيل من دادي هور
وادي الجحاجحة الالي ... عمروه في خالي العصر
وعواصم القلوم الذ ... ين بذكرهم تحلو السير
زرت الربوع فخانني ... صبري لذكرى من غبر
ما كان لي كبدا لسلو ... ولا فؤاد من حجر
بخل الجفون على ثرى الغا ... دين من إحدى الكبر
وهذا الشاعر معرم بوصف بلاده، وقد قال في كثير منها، وأشبه شعره بالشعر العربي قصيدته في (مليط) وهي مركز من مراكز درافور؛ ولا نتهمه في شعوره بل إننا نقول أنه مع هذا النهج القديم صادق الشعور.
حياك مليط صوب العارض الغادي ... وجادوا ديك ذا الجنات من وادي
أنسيتني برح آلامي وما أخذت ... منا المطايا بإيجاف وإيخاد
كثبانك العفر ما أبهى مناظرها ... أنس لدى وحشة رزق لمرتاد
فباسق النخل ملء الطرف يلثم من ... ذيل السحاب بلا كد وإجهاد
وأعين الماء تجري من جداولها ... صوارما عرضوها غير إغماد
والورق تهتف والأظلال وارفة ... والريح ترفع ميادا لمياد
وقد نجد الشعراء المحدثين يتجهون اتجاهاً قومياً وإن كان بعضهم ترك الأفق الشرقي عامة، واتجه بعواطفه وميوله وشعره إلى أفق آخر لا يستقيم معه أدبنا. وعندي أن الأدب كالدين، فمن ترك ديننا فقد كفر بالله من ترك أدبنا فقد كفر بالوطن. وهؤلاء الشعراء المحدثون ينظمون - أحيانا. . في مناظر بلادهم. وللشاعر التيجاني يوسف قصيدة في جزيرة (توني) وهي جزيرة تقع بين الخرطوم وأم درمان خصيبة التربة. طيبة الهواء، وصفها الشاعر فأجاد، ومن قوله فيها:
يادرة حضها النيل ... واحتواها البر
صحا الدجى وتغـ ... شاك في الأسرة فجر
وطاف حولك ركب ... من الكراكي أغر
وراح ينفض عينيه من ... بني الأيك حر
فماج بالأيك عش ... وقام في العش دبر
كم ذا تمازح فن ... على يديك وسحر
يخور ثور وتثغو ... شاة وينهق حمر
وألبهم تمرح والزر ... ع مونق مخضر
تجاوب اللحن والط ... حن والثغاء المسر
وهب صوت النواعير ... وهو في الشجو مر
وكلها - وهي طويلة - على هذا النحو من التصوير الناطق والتعبير البسيط.
أما الأدب القومي فهو صورة صحيحة للحياة السودانية الطبيعية، ففيه الأحاديث الطوال عن السحائب الغر، التي تجود عليه بالمطر، وعن الأشجار الباسقة من سرح وسدر وجميز، وعن ضفاف النيل. وموارد الغدران والأودية، وعن الأطيار الساجعة فوق أغصانها؛ والظباء النافرة في فتن الجبال والغابات. ولنكشف هنا بمثال واحد يصور لنا أوائل الخريف وكيف أستقبله الناس والأنعام وكيف اهتزت به الأرض وربت. سأل أحد السجناء من أهل البطانة شاعرهم الحردلو عن أخبار مسقط رأسه وملعب صباه. وكان الحردلو شاعراً بدوياً مجيداً وله في الأدب القومي شأن أي شأن (وسنفرده ببحث خاص إن شاء الله) فأجاب صاحبه قائلا:
الخبر الجا قالوا البطانة أرشت ... وسارية تجود حتى الصباح ما أنفشت
هاج فحل أمصر يصر والمنايح بشت ... ديت أم ساق على حدب الجميل انعشت
فالشاعر يجيب صاحبيه بأن الخبر الذي جاء والنبأ الذي وصل إليه خبر جميل طيب. قالوا البطانة أرشت، والبطانة المكان الواقع بين النيل الأزرق والانيرا وفيه مراع واسعة، وكانت فيه قديماً مملكة مروى الشهيرة في التاريخ، والآن ينزله أثناء الخريف عرب الشكرية والبطاحين والضباينة والجمران. والبطانة مشهورة بالخصب. والشاعر جاءه الخبر أنها أرست ونزلت فيها الأمطار. وأن سحابة مملوءة بالماء جاءت عليها طوال الليل وطلع عليها الصباح ومع ذلك فلا يزال فيها المطر الغزير (وسارية تجود حتى الصباح ما انفشت) فسرت الحياة في الأرض، ومشى البشر في نفوس الحيوانات، وبدأت علائم الخصب ونزعة الإنتاج في الأرض والحيوان سواء بسواء، فاهتاج الجمل للقاح (هاج فحل أمصر بمصر وهوت إخلاف النوق بفيوض من اللبن الحبيب (والمنابح كشت وكست الأعشاب أديم الأرض، حتى لتتعشى البكرة التي عبر عنها الشاعر ببنت أم ساق وأم ساق كناية عن الناقة وهي تكنية جميلة جداً. هذه البكرة تتعشى من الأعشاب المحيطة بالمنازل ومن عادة الفصلان ألا تتوغل في المزارع والأعشاب، وتكتفي بأن ترعي قريباً من المنزل، فإذا كان العشب القريب يكفي لعشائهم فمعنى هذا أن الخصب قد عم، وهذا ما أراده الشاعر.
ولو قيض لهذا الأدب القومي السوداني من يدرسه دراسة وافية، ويقف عند مواطن الحسن فيه لجاء الأدب واللغة بخير كثير.
****
- 8 -
الأخلاق والعادات
لست في حاجة إلى أن أؤكد هنا ما قلته مراراً من أني لا أقصد من تصوير أدب الأمة لحياتها أن يكون - فقط - سجلاً تصور فيه مناظرها الطبيعية أو مشاكلها السياسية، أو تحصى فيه عاداتها وأخلاقها وتقاليدها، وإنما أقصد أن يتأثر الأدب بهذه الظواهر في الأمة، فيجرى في أوصاله ما تعكسه هذه الأمور من شمائلها، وما توحيه إلى أنفس الشعراء من خصائصها، فالأخلاق التي توجه الأمة؛ والعادات التي تذيع فيها، والخرافات التي تسيطر عليها، كلها ذات انعكاسات نفسية، لا مندوحة من ظهورها في الأدب - أن صدق الأدب - ونحن حين ننظر في الأدب لنحكم عليه بالتخلف أو النجاح، وبالتقاليد أو الأصالة، من واجبنا أو لا أن نتفهم جيداً ما يحيط بهذا الأدب من شتى الاتجاهات والمؤثرات.
وإذا كان الباحثون في الأدب العربي يجعلون أول همهم حين يفصلون تصوير الشعر العربي للحياة الاجتماعية عند العرب أن يعدوا ما ورد على السنة الشعراء مما يعد تسجيلاً لعادات قومهم فإننا نجعل هذا آخر همنا وننظر أولا في المظاهر العامة للأدب. ونرى هل تأثرت في اتجاهها بيئتها وانحرفت عن السبيل، وظهرت فيها خصائص بيئات أخرى، ولنضرب لذلك مثلاً:
من ابرز الأخلاق التي يمتاز بها عرب السودان البطولة والجلادة، والصبر على المكاره، وقد اتخذت هذه الصفات مظاهر متعددة، وبدت في أشكال مختلفة، فمن أكبر العار عند العربي السوداني الفرار من الميدان، وهو يقاتل ما دام النصر يتراءى له؛ فإذا تأكد الهزيمة لم يول ظهره ولم يقاتل قتال المستميت بل يلقى فروته على الأرض ويجلس عليها رابط الجأش، ثابت النفس حتى يقتل أو يؤسر، كما فعل الملك جاويش الشايقي الكبير عندما تغلب عليه بشير ملك الخندق. كان فرسان الشايقة يفتخرون بأنهم يفترشون (فراويهم) إذ بدا لهم أنهم غلبوا، وكما فعل الملك نمر عندما تغلب عليه الترك في واقعة النصوب فإنه ترجل عن جواده، وجلس مفضلاً الموت.
ومن العار الذي لا يمحى، ويبقى سبة للرجل وأولاده من بعده يعيرون به، أن ينطق المريض مهما اشتد مره بكلمة تدل على تألمه، أو يبدى المضروب اقل توجع مهما اشتد عليه الضرب أو يظهر على المسوق إلى القتل اقل جزع أو خوف. وقد حدثت بأحاديث كثيرة في هذا الشأن، فقد ذكروا أن جماعة من المجموعة حكم عليهم بالإعدام وكانوا يساقون إلى المشنقة واحداً واحداً، فجلسوا يلعبون (السيجة) وهم ينتظرون نوبتهم في القتل، وكان الجلاد يأتي فيأخذ أحدهم للقتل، ويبقى الآخرون مستمرين في لعبهم دون أن يبدو عليهم أي ذعر أو خوف. . . وهكذا حتى قتلوا جميعاً.
وحدثت أن بعض الفرسان بق إلى المقصلة، وكان مكانها بعيداً، وقد أبى أن يمشى مقيداً، ولكن القيد كان من النوع المفرغ، فلا يمكن فكه، فأيئسوه من فك قيده، فطلب أن يقطعوا قدمه ففعلوا، وجعل يمشى وما رؤى عليه أي تأثر.
ومن العار أن يرفع الإنسان صوته بالأنين والتوجع في حادث من الحوادث حتى لقد تجرى لأحدهم عملية جراحية دون مخدر ومع ذلك لا يرتفع له صوت، رأيت مثل ذلك في مثقفيهم، وتأكد لي من مناقشتهم طويلاً في هذا الشأن، ولقد قلت مرة لأحد المترفين: ماذا وضربت عشرين سوطا؟ قال: أتألم اشد التألم، قلت أما ترفع بالتأوه والأنين؟ قال: لا. لا. (الكوراك) لا سبيل إليه (والكوراك: رفع الصوت)
ومعروف من عاداتهم في (البطان) أن الشاب إذا اعجب بفتاة ووقع حبه في قلبها نزعت من معصمها سواراً، وألبسته إياه، فيأخذ الشاب إذ ذاك سوطه، ويهزه فوق رأسها ويقول: (ابشري بالخير أنا أخو البنات عشرة) فإذا كان له بين الحضور منافس فيقف له حامل السوار واضعاً يده اليمنى فوق رأسه فيجلده بسوطه إلى أن يكل فيرمى السوط فيجلده حامل السوار في نوبته بما أعطي من قوة، ويقف المضروب في حالة الضرب جامداً لا يتحرك، ولا يطرف له جفن كأنه صخر أصم، ومن بدت عليه ظواهر التألم بل من بدت منه أقل حركة كهز الكف أو طرف الجفن، لبس العار، ولم يعد له في البنات نصيب.
بل قد حدثت بما هو ابعد من هذا، حدثت أن سيدة أبت أن تقوم في مأتم أخيها، أو تقف على قبره، لأنها رأت في وصيته ضعفاً وخوراً لم تحبهما فيه، رأته يوصى بان يدفن بجوار قبر ولي من الأولياء، ولا يدفن في مقابر أهله وعشيرته، فقالت لا أبكيه أيخاف من النار وأبكيه؟!
هذا الخلق لابد أن يظهر في الشعر وإلا كان الشعراء يعيشون مع قوم آخرين فليس طبيعيا أن ترى الأنين والباء والتوجع والتأوه في الشعر السوداني، وإنما الطبيعي أن ترى التسامي على حوادث الدهر، والسخرية بتقلبات الأيام، والنفور من الضعف والهوان. وإذا كان للشعراء في أي جهة أخرى أن يسهوا الليل وأن يعدوا النجوم، وأن يلطموا الخدود، ويشقوا الجيوب في سبيل محبوبة هاجرة، وإذا كأنهم أن يشيعوا موتاهم بالعويل، وأن يتلقوا حوادث الأيام بجفن باك، وقلب واجف، وصبر متخاذل، فإنه ليس للشاعر السوداني إلا أن يقول كما قال ابن سناء الملك:
ولو مد نحوي حادث الدهر كفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا
فليس من الطبيعي أن نقرأ للشاعر شيئاً من هذا إلا حين يئس نفسه وقومه، كقول الشيخ عمر ألا زهري:
سلا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفسي من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
ولا أن تقرأ للشيخ أحمد المرضى:
لقد آن أن أبكي وأبكي البواكيا ... وانظم من حب الدموع المراثيا
ولكن من الطبيعي جداً أن نقرأ للشاعر عبد النبي مرسال هذه الأبيات.
أنا أن عضني الزمان بناب ... ودهائي يوماً بفرس
وبلتني الخطوب من كل نوع ... ودهتني الكروب من كل جنس
أن لي كالحديد عزماً ونفساً ... لا تفل الخطوب عزمي ونفسي
ومن الطبيعي أن يفتخر الشاعر السوداني بالبطولة والشجاعة وأن يتمدح بها، وأن يمدح حين يمدح بها ويهجو إذا هجا بالجبن والضعف والفرار يوم الزحف، وأن تظهر عواطفه في مثل هذه الأبيات:
ألقى بصبري جسام الحادثات ولى ... عزم أصد به ما قد يلاقني
ولا أتوق لحال لا تلائمها ... حالي، ولا منزل اللذات يلهيني
ولست أرضى من الدنيا وإن عظمت ... إلا الذي بجميل الذكر يرضيني
وكيف اقبل أسباب الهوان ولى ... آباء صدق من الغر الميامين
وإذا كان أهل السودان يعدون الكرم من أكبر مفاخرهم والبذل من أحد سجاياهم - وهو كذلك - فبديهي أن تظهر هذه الحضارة النبيلة في الشعر، وأن تأخذ مكانها اللائق بها، وكثير ما نقرأ لهم الأبيات الجميلة في تمدح بالكرم، والافتخار بالجود كما نجدهم إذا هجو كان من أبلغ الهجاء عندهم أن يصفوا الرجل بالشح، وانه لا يؤدى واجب أضيافه، وكما تجد هذا في الشعر المعرب تجده في الشعر العامي، ويعجبني قول امرأة ترث زوجها.
بي عبدو، بي خادمو. ... للدهر العيش مورادمو
يكفى الضيف، ويقادمو
فهي تصف زوجها بالسيادة، وأنه صاحب عبد وخادم، تدق في الوصف، وتبلغ في التعبير وتنبل في المعنى، فتصف زوجها بالبذل والأنفاق، وإنه يعطى ما لديه، وإذا كان البخلاء يختزنوه العيش مخافة حوادث الدهر، وتقلبات الأيام، وإذا كان ظنهم في الله سيئاً فإن زوجها رجل لا يخاف إلا البخل، ولا يهرب إلا من قالة السوء، ولا يحسب حساباً للدهر والأيام، فهو لم يردم العيش ويختزنه خوفاً من الدهر (للدهر العيش المرادم) ثم تتحدث عن مظهر من مظاهر الكرم فتصف زوجها بأنه يكفي الضيف، وهذا لباب الكرم، ومع ذلك لا يقصر في الإكرام فهو يودع أضيافه إلى مسافة بعيدة على عادة الكرماء وعبرت عن ذلك ابسط تعبير (يكفى الضعيف ويقادموا) كما يعجبني رجل من البطاحين:
من منا ولى منا ... كذبوا القالوا متلنا
يكفى مراره فيسلنا ... ويصد القوم عاطلنا
فهو يفتخر هنا بنسب قومه ومكارمهم وشجاعتهم ويقول: أنه لا يساميهم أحد ومن قال أنه مثلهم فقد كذب، ويسكن البطاحين بين الجعليين والشكرية، الجعليون شمالهم، والشكريية جنوبهم، أو على تعبيرهم الشكرية في الصعيد، والجعليون في السافل، وهو يقول: من هنا والى هناك يقصد الجعليين والشكرية يكذب من يقول أنه مثلا، ثم يصف قومه بالكرم فقال: يكذب مرارة فسلنا، والفسل البخيل، ويكفى مرارة إشارة إلى العادة المعروفة في السودان وهي أنه إذا نزل أضياف برجل وكان كريما ذبح لهم، وللدلالة على أنه ذبح يقدم لهم أول ما يقدم الكبد والطحال والكرش، وتؤكل كل نيته، يرون في ذلك دلالة على نهاي الكرم، ويعبرون عن هذا الطعم (بالمرارة) والشاعر البطحاني يقول: أن يخيلهم يبلغ به الجود إلى درجة أنه يكفى الأضياف ويذبح لهم حتى يباع حد الكرم، وإذا كان بخيلهم يقوم بحق الأضياف، فضعيفهم يصد الجيش المغير، وهذا نهاية المدح والافتخار.
والحق أن شديد الإعجاب بهذا الشعر البدوي، وهو عندي أصدق لهجة واقرب إلى الواقع من الشعر المعرب.
أما تسجيل الشعر للعادات، فالمطلع يجد كثيرا من هذه العادات في الشعر السوداني، ولا سيما العامي منه، وسأقتصر هنا على بعض تلك العادات؛ فمن العادات الشائعة في السودان أن يلبس النوادب لباس الحرب الميت ويحملن آلاته التي كان يستعملها في القتال، تتقلد واحدة من قريباته سيفه وتلبس أخرى جبته أو عمامته، ويدرن باكيات في ساح الدار، ولا يعمل هذا العمل إلا للعظماء من الرجال ملوكاً كانوا أو محاربين، وقد يستمر هذا خمسة عشر يوماً، والشاعر السوداني يذكر هذه العادة في معرض الحسرة والألم على ما صارت إليه حال قومه، فهو يبكى على زمن مضى كان السيف فيه في يدي البطل يدافع به عن حوزته ويدفع به في صدر عدوه، فعدا الزمان وسلب السيف من يديه ووصفه في يد الناعية، فأصبح لا يرى إلا في يدها، والخوذة ويسمونها (التربك) لا ترى إلا على رأسها:
كأن الزمان برغم الزم ... ان أمسى تبيعا لسلطانيه
غفرت له وهو ذاك العتي ... فكم ناشئ بيد عاتيه
عدا فاستباح دروع الكما ... ة فلف بها رمما بالية
وخلى التربك وهز البوا ... تر حبساً على الغادة الناعية
والشعوذة والدجل، وضرب الرمل، وطرق الحصى، والودع كثير في السودان، والناس يؤمنون بكثير من هذه الضلالات، ولا يفوت الشعراء أن يحدثونا عن صاحبة الودع، وأن يصفوا لنا ما يفعله الحاوي، ويجرى على ألسنتهم ذكر التعاويذ والتمائم، ومن ذلك ما يقوله التيجاني يوسف:
عوذوا الحسن بالرقى وخذوني ... أنا تعويذة لكعبة روحي
قربوها مجاماراً أنا وحدي ... عوذ للجمال من كل روح
احرقوني عل يديه وشيدوا ... هيكل الحب من فؤادي الذبيح
واعصروا قلبي المفزع للحسن ... أماناوعوذوه (ينوح)
وللمجامر في الحياة السودانية شأن أي شأن، فليس يخلو منها بيت من البيوت، ويوضع فيها البخور حيث تتطيب به النساء والتيجاني يشير إلى ذلك حين يقول:
وليلة من جمادي ... في مثل روعة شهره
درجت والحسن حولي ... إلى خبيئة سره
ورحت احرق نفسي ... على مجامر عطره
أذبت من خمر روحي ... على يديه وثغره
بقية من ربيع ... شقيت وحدي بزهره
ومن عادة الزوجة في السودان إلا تخاطب زوجها باسمه بل تدعوه بأسماء أخرى تتحاشى طوال حياته أن تناديه باسمه، والشاعر يسجل هذه العادة فيقول:
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ... فتاته اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من مرءرد خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه وحديث ذو أفانين
ولا منى فيك والأشجان زائدة ... قوم وأحرى بهم إلا يلوموني
في ذمة الله محبوب كلفت به ... كالريم جيداً وكالحيروز في اللين
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، ياذا، وعمدا لا يسميني
------------------------
7- مجلة الرسالة - العدد 889/ بتاريخ: 17 - 07 - 1950
8- مجلة الرسالة - العدد 898 / بتاريخ: 18 - 09 - 195