يعد إميل حبيبي في «اخطية» (١٩٨٥) رائد رواية المكان في الرواية الفلسطينية، فلقد واصل فيها دحض الرواية الصهيونية الذي بدأه في «المتشائل»(١٩٧٤). في «المتشائل» رد على الفكر الصهيوني المتعالي على العرب والزاعم بأنهم أبناء الصحراء الذين صحروا فلسطين وخربوها بتحويلها إلى أراض قاحلة جرداء بعد أن كان اليهود عمروها قبل ثلاثة آلاف عام، وفي «اخطية» كتب عن تفاصيل حيفا قبل ١٩٤٨ رداً على ما قامت به دولة الاحتلال التي سعت منذ تأسيسها إلى تهويد فلسطين. لقد أراد حبيبي أيضاً أن يقول للأدباء اليهود الذين وازى أدبهم الإيقاع السياسي لحكوماتهم إنهم لا يعرفون حيفا، وإنهم إذا أرادوا معرفتها حقاً فليقرؤوا روايته.
ما اختطه حبيبي وجد حضوراً لافتاً في الرواية الفلسطينية، فأخذ كتاب كثيرون يكتبون أعمالهم مركزين على المكان الفلسطيني مبدين معرفتهم بتفاصيل تفاصيله؛ في الكتابة عن القدس وعكا ويافا بالدرجة الأولى، وهو ما يلاحظ في روايات عارف الحسيني وأسعد الأسعد وابراهيم السعافين وغيرهم عن القدس وروايات عاطف أبو سيف وغيره عن يافا.
قبل أشهر كتبت عن رواية أسعد الأسعد «دروب المراثي» تحت عنوان «تحرير فلسطين عبر الكتابة»، وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة قرأت أربع روايات تعزز ما لاحظته في رواية الأسعد؛ «ظلال القطمون» و»تفصيل ثانوي» و»زرعين» و»الجنة المقفلة». كتب السعافين عن القدس ويافا ومدن أخرى مركزاً على تفاصيلها قبل ١٩٤٨، وكتبت عدنية شبلي عن القدس وقراها وبئر السبع، وكتب صافي عن قرى القدس وصفد وبيسان، وأما أبو سيف فقد واصل الحفر في رسم تفاصيل يافا.
تتسيد الكتابة عن المكان في الروايات المذكورة تسيداً لافتاً حتى ليحتل عنصر المكان المرتبة الأولى بين عناصر الرواية العديدة: عنصر الشخصية وعنصر الأحداث وعنصر الفكرة وأيضاً عنصر اللغة، ويصبح هاجس الكاتب الفلسطيني استرجاع فلسطين مكانياً كما كانت قبل العام ١٩٤٨ ليعبر عن ارتباطه بالمكان وليرد على الادعاءات الإسرائيلية المتواصلة الساعية بجهد حثيث إلى عبرنة فلسطين/ تهويدها.
ولأن الكتابة عن الروايات السابقة يحتاج إلى مساحة فإنني أتوقف هنا أمام رواية صافي الأخيرة «زرعين» ٢٠٢١.
يسرد الرواية رجل سبعيني شارك في رحلة مع فريق لزيارة مناطق فلسطينية هدم قسم منها إثر احتلال الضفة الغربية وهود قسم آخر إثر احتلال مناطق ١٩٤٨، وكان السارد، في أثناء دراسته الجامعية، تعرف إلى فتاة استقر أهلها في بيسان، منتقلين من زرعين، ثم هجروا في العام ١٩٤٨ وأقاموا في المنفى ووعدها أن يزور بيسان ليصور لها بيت أبيها وأجدادها،
ثم انقطع عقوداً عنها، وعندما تقاعد من عمله فطنها فبحث عنها في الانترنت وتواصل معها وقرر أن ينفذ لها طلبها القديم.
تتخذ رحلة الفريق المسار الآتي:
«من بيت حنينا والمسجد، ثم عمواس... ومنها إلى الخضيرة... إلى زرعين، فعين جالوت، فجبال فقوعة، فبيسان».
ويلتقط السارد صوراً للأمكنة ويعبر عن شغفه بذلك واهتمامه بالمكان، وهذا هو مرماه ومقصده، ومن ورائه الكاتب، في سرده كله، وليس عجباً أن يكون مكون العنوان مكوناً مكانياً لا مكوناً آخر، فالعنوان أحياناً كثيرة يلخص القصد. إنه بؤرة التركيز.
يقول السارد:
«أنا أهتم بالمكان» ولذلك كان يصوره أكثر من تصوير أفراد المجموعة، ما دفع أحد أفرادها إلى سؤاله:
«- لماذا لا تصور المجموعة؟».
ويوضح أن الآخر/ الإسرائيلي يهتم بالمكان «هم أيضاً يهتمون بالمكان» ولكنه يلاحظ أن المهتمين منهم بالمكان، من خلال الصور التي يلتقطونها ويعرضونها، ليسوا من سكان المدينة.
ولكي تختلف صوره عن صورهم ليثبت علاقته بالمكان وجدارته به يقرر «تصوير كل زاوية، كل حجر، كل مدخل، كل نافذة، أدور حول البيت، وأصوره من جهاته المختلفة، وإن استطعت الدخول، سأصور كل غرفة، وكل جدار، وسأبحث عن موقع صورة جدها وأبنائه وأحفاده، وأبحث عن ظلالها على الحائط» (ص ١٠١).
تصبح الكتابة هنا ضرباً من حرب الروايات التي اشتعلت ابتداء من رواية أرض بلا شعب وشعب بلا أرض ورواية أرض كنعان أو أرض إسرائيل، وتصبح أيضاً استجابة لما ورد في قصيدة محمود درويش في «قال المسافر للمسافر: لن نعود كما» من ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» (١٩٩٥):
«فقال لي: أكتب لتعرفها/ وتعرف أين كنت، وأين أنت/ وكيف جئت، ومن تكون غداً،/ ... فكتبت: من يكتب حكايته، يرث/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً!».
ثمة سؤال صار يراودني هو:
- هل صار انتصارنا في الحكاية وإثبات حقنا في فلسطين ضرباً من التعويض لهزيمتنا في الواقع ولبؤس حياتنا وحياة الفلسطينيين في المنافي؟
أ. د. عادل الأسطة
2021-12-19
ما اختطه حبيبي وجد حضوراً لافتاً في الرواية الفلسطينية، فأخذ كتاب كثيرون يكتبون أعمالهم مركزين على المكان الفلسطيني مبدين معرفتهم بتفاصيل تفاصيله؛ في الكتابة عن القدس وعكا ويافا بالدرجة الأولى، وهو ما يلاحظ في روايات عارف الحسيني وأسعد الأسعد وابراهيم السعافين وغيرهم عن القدس وروايات عاطف أبو سيف وغيره عن يافا.
قبل أشهر كتبت عن رواية أسعد الأسعد «دروب المراثي» تحت عنوان «تحرير فلسطين عبر الكتابة»، وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة قرأت أربع روايات تعزز ما لاحظته في رواية الأسعد؛ «ظلال القطمون» و»تفصيل ثانوي» و»زرعين» و»الجنة المقفلة». كتب السعافين عن القدس ويافا ومدن أخرى مركزاً على تفاصيلها قبل ١٩٤٨، وكتبت عدنية شبلي عن القدس وقراها وبئر السبع، وكتب صافي عن قرى القدس وصفد وبيسان، وأما أبو سيف فقد واصل الحفر في رسم تفاصيل يافا.
تتسيد الكتابة عن المكان في الروايات المذكورة تسيداً لافتاً حتى ليحتل عنصر المكان المرتبة الأولى بين عناصر الرواية العديدة: عنصر الشخصية وعنصر الأحداث وعنصر الفكرة وأيضاً عنصر اللغة، ويصبح هاجس الكاتب الفلسطيني استرجاع فلسطين مكانياً كما كانت قبل العام ١٩٤٨ ليعبر عن ارتباطه بالمكان وليرد على الادعاءات الإسرائيلية المتواصلة الساعية بجهد حثيث إلى عبرنة فلسطين/ تهويدها.
ولأن الكتابة عن الروايات السابقة يحتاج إلى مساحة فإنني أتوقف هنا أمام رواية صافي الأخيرة «زرعين» ٢٠٢١.
يسرد الرواية رجل سبعيني شارك في رحلة مع فريق لزيارة مناطق فلسطينية هدم قسم منها إثر احتلال الضفة الغربية وهود قسم آخر إثر احتلال مناطق ١٩٤٨، وكان السارد، في أثناء دراسته الجامعية، تعرف إلى فتاة استقر أهلها في بيسان، منتقلين من زرعين، ثم هجروا في العام ١٩٤٨ وأقاموا في المنفى ووعدها أن يزور بيسان ليصور لها بيت أبيها وأجدادها،
ثم انقطع عقوداً عنها، وعندما تقاعد من عمله فطنها فبحث عنها في الانترنت وتواصل معها وقرر أن ينفذ لها طلبها القديم.
تتخذ رحلة الفريق المسار الآتي:
«من بيت حنينا والمسجد، ثم عمواس... ومنها إلى الخضيرة... إلى زرعين، فعين جالوت، فجبال فقوعة، فبيسان».
ويلتقط السارد صوراً للأمكنة ويعبر عن شغفه بذلك واهتمامه بالمكان، وهذا هو مرماه ومقصده، ومن ورائه الكاتب، في سرده كله، وليس عجباً أن يكون مكون العنوان مكوناً مكانياً لا مكوناً آخر، فالعنوان أحياناً كثيرة يلخص القصد. إنه بؤرة التركيز.
يقول السارد:
«أنا أهتم بالمكان» ولذلك كان يصوره أكثر من تصوير أفراد المجموعة، ما دفع أحد أفرادها إلى سؤاله:
«- لماذا لا تصور المجموعة؟».
ويوضح أن الآخر/ الإسرائيلي يهتم بالمكان «هم أيضاً يهتمون بالمكان» ولكنه يلاحظ أن المهتمين منهم بالمكان، من خلال الصور التي يلتقطونها ويعرضونها، ليسوا من سكان المدينة.
ولكي تختلف صوره عن صورهم ليثبت علاقته بالمكان وجدارته به يقرر «تصوير كل زاوية، كل حجر، كل مدخل، كل نافذة، أدور حول البيت، وأصوره من جهاته المختلفة، وإن استطعت الدخول، سأصور كل غرفة، وكل جدار، وسأبحث عن موقع صورة جدها وأبنائه وأحفاده، وأبحث عن ظلالها على الحائط» (ص ١٠١).
تصبح الكتابة هنا ضرباً من حرب الروايات التي اشتعلت ابتداء من رواية أرض بلا شعب وشعب بلا أرض ورواية أرض كنعان أو أرض إسرائيل، وتصبح أيضاً استجابة لما ورد في قصيدة محمود درويش في «قال المسافر للمسافر: لن نعود كما» من ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» (١٩٩٥):
«فقال لي: أكتب لتعرفها/ وتعرف أين كنت، وأين أنت/ وكيف جئت، ومن تكون غداً،/ ... فكتبت: من يكتب حكايته، يرث/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً!».
ثمة سؤال صار يراودني هو:
- هل صار انتصارنا في الحكاية وإثبات حقنا في فلسطين ضرباً من التعويض لهزيمتنا في الواقع ولبؤس حياتنا وحياة الفلسطينيين في المنافي؟
أ. د. عادل الأسطة
2021-12-19