مصطفى فودة - قراءة فى نص للشاعر الكبير موسى حوامدة

اولا : النص
أُصَدِّقُ
فكرةَ الشعرِ عندَ هوراس
عَنِ الجُوعِ والألمِ يَتَحدثُ الشعراءُ
عن الفَقرِ والحزنِ والحَبيباتِ الرَّاحلاتِ
عن الكلماتِ التي تَقتَفي الأسْطرَ
عن الموسيقى والإيقاعِ داخلَ الكلمات
عن جذبِ القرّاء وإرضاء النقاد
عن البطولاتِ والأوهام والأحلام..
عن كلِّ شيء يكتب الشعراء
وأنا أجلسُ وحيدًا
أكتبُ بلا حبر
وبلا أوراق..
أكتب؟
لا أكتبُ شيئًا
أصدقُ فكرةَ الشعرِ عندَ "هوراس"
ولا جدوى المروءة في الطبيعة
وهي تمزقُ العَروضَ والبُحورَ والتفاعيل
وتكتبُ بلا وَزنٍ ولا قافية
فيُقهقهُ الرَّعدُ ضاحكًا
وتتحركُ الجبال كالموسيقى
ويتناثرُ الكونُ في اللاجاذبية
يبتعدُ الخوفُ عن الأرض
لا تنتصرُ الفَضيلةُ
دائمًا
تعبرُ الغيومُ دفاترَ الطوفان
لا شيءَ يعاودُ التكرار
لا القصيدةُ
ولا المرأةُ
ولا الوطن البعيد
كلُّ زَوَالٍ لا يعود
كل باطلٍ ينتصر.
.............
عن كلِّ شيءٍ يَكتبُ الشعراء
عن الزهوٍ والحبِّ يكتبُ الشعراء
عن الحنين والندم والشقاء
عن الآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال
عن كلِّ شيءٍ يكتبون
وانا أذهبُ للوحدة
أصارحُ نفسي بخساراتي
وخذلان الكواكب للضياء
أعرِّجُ على متعي البسيطة في تأمل الخريف
واحْمِرارِ قُرصِ الشمسِ وقتَ الغروب
أفكرُ في جدوى الحياة
ومقايضةِ الزمنِ بكتابة بعض القصائد
أتأملُ ضياعَ العمرِ في مصادقةِ الحبر والحروف
والبحثِ عن كتابةٍ تبتكرُ لذاتِها الماءَ والشجرَ والغابة.
عن كلِّ شيء يكتب الشعراء
وأنا لا أجدُ لغةً تطيرُ في الأعالي
تخاتلُ الجمودَ والجموعَ
تَرفعُ الظلمَ عن المظلومين
والجبنَ عن الضعفاء
ولا أجدُ لغةً تزيلُ الخوفَ من قلب الحجارة
تُوقِفُ نزفَ دمِ الأرضِ
تفتكُ بالشرِّ والعدوان..
ها أنا ذا وحدي
أشعلُ سراج البلاغة
أحرقُ حطب الكلام
أقترحُ على نفسي بعضَ قَطراتِ العَسَل
وحبيباتِ الزبيب الأحمر
وأتأملُ الفراغ
ما الذي يجمع النورَ والعَتمة
الشرَّ والطيبة
الخوفَ والإيمان
ما الذي يحرق البخور
لتظلَّ يدُ الساحرِ طليقةً
ويدُ الحاكمِ طليقة
ويدُ التاجر طليقة
وجناحُ الحكمة ناقصًا
والسعادةُ ثمرةً يابسةً.
*من القصائد المنشورة في مجلة ميريت الثقافية العدد 22 / أكتوبر / 2020م.
ثانياً : قراءة النص
كان هوراس الشاعر الرومانى وصاحب كتاب فن الشعر مدخلا رائعا لنص الشاعر موسى حوامدةوكانت جملة (أصدق فكرة الشعر عند هوراس) وجملة (عن كل شئ يكتب الشعراء) بمثابة الكورس فى الدراما اليونانية بعد كل مقطع شعرى بالنص. ،أشار النص الى كل شئ كتب عنه الشعراء ويهم الانسان فى كل مكان وزمان مثل الفقر والجوع والألم والحزن والحبيبات الراحلات والأوهام والأحلام ، أشار النص الى عدد من المقولات الفلسفية ( لا شئ يعاود التكرار) وكأنه اشارة الى الفيلسوف اليونانى هرقليطس صاحب مبدأ التغير هو الجوهر والأساس فى الكون وصاحب العبارة الشهيرة لايمكن عبور نفس النهر مرتين .
كان العثور على لغة تعبر عن ما يريده الشاعر مصدرا لشكواه
وأنا لا أجد لغة تطير فى الأعالى
ترفع الظلم عن المظلومين
والجبن عن الضعفاء
لا أجد لغة تزيل الخوف من قلب الحجارة
توقف نزيف دم الأرض
تفتك بالشر والعدوان
فاللغة دائما مصدرا لشكوى الشعراء والمبدعين فى بحثهم عن لغة تعبر عن مايشعرون من فرح أو حزن - الا أن الشاعر توقف كثيرا عما يعانيه ليجد لغته الخاصة فى التعبير عما يريد فهو يريد لغة محلقة ايجابية فعالة ترفع الظلم عن المظلومين وتزيل الخوف وتوقف نزيف الدم وتفتك بالشر والعدوان ، وفى سبيل العثور على تلك اللغة الفريدة أنفق الشاعر عمره وأضاعه لعثر على تلك اللغة التى تمناها .
حفل النص بالوقوف والتأمل والتساؤل عن بعض المظاهر المتضادة فى الحياة مثل النور والظلمة ، الشر والطيبة والخوف والايمان وهى تثير فى النفس التأمل والرهبة
ما الذى يجمع النور والعتمة
الشر والطيبه
الخوف والايمان
كما توقف الشاعر وتساءل عن أمور تؤرقه عن سلوك الحكام المستبدين وكذلك أصحاب الأموال الطائلة ويرمز لهم بالتجار عن إطلاق يدهم فى الوطان وعدم محاسبتهم عن أفعالهم وعما إقترفوه من جرائم فى حق أوطانهم وشعوبهم ويحيط بهم ويبرر أفعالهم مجموعة من المنتفعين الذين يحرقون لهم البخور وينافقونهم
مالذى يحرق البخور
لتظل يد الساحر طليقة
ويد الحاكم طليقة
ويد التاجر طليقة
ويتوقف القارئ طويلا أمام تلك العبارات التى تميل الى الرمز او التقية أوطبيعة الفن مثل حرق البخور دلالة على الكلمات غير الصادقة والنفاق والتبرير لأفعالهم لارضاء ذوى السلطة وكذلك ذوى الاموال (التاجر ) ولاحظ المقابلة بين يد الساحر والحاكم والتاجر طليقة يقابلها نقصان الحكمة ويبس السعادة وكأن الأخيرتين نتيجة لما سبق فتزيد المعنى قوة .
حفل النص بكثير من الصور البلاغية مثل ( يقهقه الرعد ضاحكا - تتحرك الجبال كالموسيقى - قلب الحجارة - لا أجد لغة تطير فى الهواء - تنزف دم الأرض - أشعل سراج البلاغة - أحرق حطب الكلام ) وغيرها مما أعطى للنص جمالا وقوة فى التعبير وتشخيص للاشياء والصفات ، أثار النص كثيراً من التساؤلات وكان حافزا للقارئ كي يتساءل معه وترك له من المساحات الكافية ليحاول الوصول الى إجابات الى هذه التساؤلات كما كان النص ايضا حافزا للخيال والمتعة والجمال وهكذا جمع بين الفكر والجمال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...