أ. د. عادل الأسطة - الأكاديمي روائيا: إبراهيم السعافين نموذجا "ظلال القطمون"

( إلى جبرا وفدوى في ذكرى رحيلهما )


عندما اتصل بي زميل في قسم اللغة العربية يطلب مني مناقشة رواية الدكتور السعافين " ظلال القطمون " عبر برنامج " ZOOM " اعتذرت لأنني ، عموما ، لا أحب قراءة روايات الأكاديميين الفلسطينيين ، فتجربتي مع روايات كثيرين منهم غير مشجعة .
قرأت لإبراهيم العلم وأحمد حرب وعيسى بلاطة وعلي عودة وعدوان عدوان ، وقرأت لأكاديميين عرب فازوا بجوائز أو وصلت رواياتهم إلى القائمة القصيرة ، مثل شكري المبخوت وحسين الواد ، وقرأت لعلي عواد و ... .
والصحيح أنني أقرأ رواياتهم لأعرف ولأدرس لا لأستمتع ، فتجارب الأكاديميين غالبا محدودة وعالمهم محافظ ومكانتهم الاجتماعية لا تسمح لهم بالبوح . إنهم يكتبون بوعي كامل ويحاكمون ما يكتبون فيفتقدون غالبا الجرأة التي تدفع الكاتب إلى اختراق المحرمات والخوض فيها ؛ لا يجابه الأكاديمي غالبا النظام السياسي لبلاده وغالبا ما يحابيه خوفا على وظيفته ، ولا يجرؤ على تحدي القيم الاجتماعية السائدة ، فلا يكتب عن تجاربه أو تجارب الآخرين الحميمة أيضا . ببساطة غالبا ما تكون رواياتهم محافظة كحياتهم ومهادنة محابية تقف على الهامش ، إلا إذا انحازوا إلى عالم الرواية وتخلوا عن الأكاديمي فيهم ( هاني الراهب مثالا ، علما بأنه لم يكتب عن الكويت وعوالمها بجرأة إلا في فترة متأخرة ) .
كان السؤال الذي يراودني وأنا أقف أمام بعض أعمال الدكتور السعافين الإبداعية ؛ الشعر والمسرح والرواية ، يتمثل في نشره المتأخر لها ، وحسب ما أعرف فإنه لم يصدر أي عمل روائي قبل الخامسة والستين من عمره ( صدرت روايته الأولى " الطريق إلى سحماتا " في ٢٠١٧ )، وكان في تلك السنوات كتب عشرات الدراسات عن الشعر والقصة القصيرة والمسرح والرواية . هل كتب أعماله الإبداعية ليقدم لنا نماذج يرى فيها مثالا لم يعثر عليه خلال سنواته الأربعين ، فيما قرأه ، ناقدا ، وبالتالي كتب بوعي نقدي كامل ؟
مرة أشرفت على رسالة ماجستير عنوانها " الشعراء الروائيون " تتبع فيها كاتبها روايات الشعراء ، ثم تناقشت معه حول موضوع اطروحته في الدكتوراه ، فاختار أن يكتب عن الأكاديميين الروائيين واختار أمثلة وهو من اقترح علي أن أقرأ " ظلال القطمون " حين لاحظ أنني أتابع استحضار يافا في الأعمال الروائية ، فأخذت باقتراحه وقرأتها ، فماذا لاحظت ؟
توقفت أمام البناء الروائي والشخصيات ، وتحديدا المثقفة منها ، وصورة الإنجليز وأيضا مقاربة المحرمات السياسية وكتابة الكاتب عن البلد الذي يقيم فيه وعدم تعرضه لرموزه السياسية على الإطلاق .
كتب الروائي رواية متقنة الصنع شكلا موظفا فيها أساليب روائية متعددة مستفيدا من وعيه النظري مبالغا في ذلك مبالغة تقترب من التكلف في الصنعة ، وهو ما يلحظه المرء حين يتتبع الكتابة عن المكان تحديدا ، إذ يسرد معلومات عن المدن الفلسطينية التي وصفها وصفا تفصيليا يجيده دارس جغرافية المدن أكثر مما يجيده روائي زار تلك المدن زيارات قصيرة أو عابرة . كأن الروائي هنا يعتمد على كتب الجغرافية والأطالس الخاصة بالمكان ، ويمكن قول الشيء نفسه في كتابته عن بعض الشخصيات مثل عبد القادر الحسيني ، فأنت تقرأ صورة له في مذكرات رفاقه ومعاصريه بلغت حد النقل الدقيق منها . لا تقرأ عنها في عقول الشخصيات الروائية وإنما في كتب المذكرات والتجارب الشخصية .
كتب الدكتور روايته بعد مرور ٧٠ عاما من جريان أحداثها وانتهائها ولم يكن هو يومها يتجاوز السابعة من العمر ، وأغلب الظن أنه حين كتب أيضا عن حصار بلدته الفالوجة لم يكتب مما بقي عالقا في ذهنه ومخيلته وإنما كتب ما سمعه من أبيه وأمه وجديه وجدتيه وأقاربه ومعارفه ، وغالبا ما أثير شخصيا أسئلة حول الروايات التي تأتي على زمان ومكان لم يتشربهما الروائي ولم يعشهما بجوارحه كلها .
سأتوقف أمام شخصية منصور اللحام وصورة الإنجليز مثالا .
لا أبالغ حين أذهب إلى أن الصورتين خارجتان ، من حيث عدم التعميم وإطلاق القول ، من معطف روايات جبرا ابراهيم جبرا وبعض قصصه القصيرة والجزء الثاني من سيرته وتصوره للإنجليز . وتصوره جبرا ومثله تصور فدوى طوقان للإنجليز ، يختلف اختلافا كليا عن تصور معظم الأدباء الفلسطينيين وذلك بحكم اختلاف تجربتهما حيث أقاما سنوات في بلاد الإنجليز واحتكا بالمواطنين ولم تقتصر رؤيتهما لهم على الجندي الإنجليزي المستعمر في زمن الانتداب . هكذا تتعدد النماذج الإنجليزية في الرواية ويكثر الاستشهاد بشكسبير الذي كان إبراهيم طوقان قبل ١٩٤٠ عاير بريطانيا به مستغربا كيف تكون هي نفسها بلاد ذلك العظيم .
مثل صورة الإنجليز تبدو صورة الفلسطيني المثقف ، فمنصور عبد السلام صنو جميل فران في " صيادون في شارع ضيق " ووديع عساف في " السفينة " ووليد مسعود في " البحث عن وليد مسعود " . ثمة فارق بين جبرا ووليد وبين السعافين ومنصور ، فالشخصيات نلتحق بالمقاومة وتقاتل في حين لم يفعل الكاتبان هذا وربما كان لهما من باب الأمنيات .
وأعتقد أن الإنجليز المتعاطفين في الرواية مع الفلسطينيين كانوا ينطقون بلسان الفلسطينيين بالدرجة الأولى وإن كنا أصغينا إلى سياسيين إنجليز ، مثل النائب ( جورج غالاوي ) ، نطق في السنوات الأخيرة بما نطقت به بعض شخصيات الرواية .
الخميس والسبت
٢٣ و ٢٥ كانون الأول ٢٠٢١


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى