ملخص
أتناول في هذه الورقة صورة الفلسطيني في الرواية العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من خلال التركيز على روايتين هما " العاطل " للكاتب المصري ناصر عراق ، و "النبيذة " للكاتبة العراقية أنعام كجه جي ، وألقي نظرةعلى الروايات العربية التي التفت فيها إلى الفلسطيني ، وهذه الروايات هي موضع دراسة أشمل .
الالتفات إلى الموضوع الفلسطيني في الأدب العربي الحديث بدأت منذ بدأ الموضوع الفلسطيني يشغل العرب ، وقد التفت إليه في الأدب دارسون عرب وفلسطينيون منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ، فكتب فيه صبري حافظ وحسام الخطيب وآخرون .
أول رواية تناولت حياة الفلسطينيين بعد ١٩٤٨ كتبها اللبناني جورج حنا " لاجئة " 1 في بداية خمسينات القرن العشرين ، وعالبا ما يذكرها الدارسون حين يدرسون الأدب العربي في ظل الحرب ذكرا عابرا دون أن يتوقفوا أمامها ، فلم يأت عليها شمعون بلاص في دراسته إتيانا تفصيليا .
بعد هزيمة ١٩٦٧ قارب روائيون ، مثل السوريين حليم بركات في " عودة الطائر إلى البحر " 2 ، وأديب نحوي في " عرس فلسطيني " 3 الموضوع الفلسطيني ، وقد حفلت هاتان الروايتان بتلق نقدي بارز وأعيدت طباعة رواية نحوي في فلسطين ، ربما لدال العنوان ، وربما للصورة الإيجابية للفلسطيني فيها ، ويبدو أن الموضوع هو ما لفت نظر الدارسين في الروايتين .
استحوذ الموضوع على اهتمام الروائيين وطغى أكثر من التفاتهم إلى الشخصية اليهودية ، فقد ظل الكتاب العرب على مسافة من الكتابة عن اليهود لأسباب ؛ ربما سياسية بالدرجة الأولى ، وربما لأن صلتهم باليهود كانت ضعيفة بعد أن ترك يهود البلدان العربية بلادهم مهاجرين أو مهجرين منها .4
ويمكن القول إنه قبل جهود غسان كنفاني في كتابه " في الأدب الصهيوني "5 ، و كتابته عن اليهود في روايته " عائد إلى حيفا "6 ، ومعين بسيسو في دراسته " في الأدب الإسرائيلي " 7 و في مسرحيته " شمشون ودليلة "8 وبعض قصائده ، نادرا ما قارب الروائيون العرب الشخصية اليهودية ، ولكنهم بدأوا يكتبون عن الفلسطينيين ، ما لفت أنظار الدكتور الإسرائيلي شمعون بلاص ذي الأصول العربية العراقية ، فدرسهم في رسالة الدكتوراه التي أنجزها في فرنسا ونقلها إلى العربية القاص زكي درويش " الأدب العربي في ظل الحرب ١٩٤٨ - ١٩٧٣ "9 ، فالتفت إلى صورة اليهود ، وأفرد جزءا لصورة الفدائي الذي عده أديب نحوي بطلا أسطوريا ، فكتب بلاص تحت عنوان " الفدائي كبطل أسطوري " 10.
حتى ١٩٩٣ نادرا ما كتب الروائيون العرب كتابة إيجابية عن اليهود ، وظلوا ينظرون إليهم غالبا على أنهم أعداء .
بعد العام ٢٠٠٠ اختلف الأمر .
كان الروائيون يكتبون عن الفلسطينيين ويصورونهم على أنهم ضحايا ، ولهذا تعاطفوا مع اللاجيء وأعجبوا بالفدائي . تلخص هذا الإعجاب عبارة قالها الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي رأى في المقاومة الفلسطينية أنبل ظاهرة عربية في القرن العشرين . وما كثرة دراسات الدارسين العرب للأدب الفلسطيني وإعادة دور النشر العربية طباعته ، سوى تعبير واضح عن مقدار حب الجماهير العربية ومثقفيها وكتابها وأدبائها للفلسطيني .
يستطيع المرء أن يوازن بين الاهتمام بالأدبين الفلسطيني والإسرائيلي ، قبل العام ٢٠٠٠ وبعده ، ليرى الفارق .
بعد ٢٠٠٠ كثرت الكتابة عن اليهود وطغى عليها ضرب من التصالح ، فلم يعد اليهود ينعتون بالصهيونيين الغاصبين . لقد نظر إليهم على أنهم ضحايا وبشر يمكن التفاهم معهم وتفهم معاناتهم . صار اليهود يتسيدون عناوين الروايات ، وارتفعت الأصوات التي تدعو إلى ترجمة أدبهم وأقبلت دور النشر على طباعته . بل وأخذ بعض الروائيين يكتب عن اليهود وعلاقتهم بالمسلمين في الفترات التي ساد فيها الوئام ، للقول إننا لسنا ضد اليهود وإن التعايش معهم ممكن ، فقد تحقق من قبل .11
مقابل تسيد دال اليهودي ، لم نقرأ عناوين روايات عربية يظهر فيها دال الفلسطيني . لقد حفلت روايات فلسطينيين بمفردات " فلسطيني " في العنوان ، مثل " الفلسطيني الطيب "12 ( ق 20 ) لعلي فودة و" لعنة الفلسطيني " 13( 2016 ) لمحمد عبدالله القواسمة . هنا أشير ثانية إلى رواية أديب نحوي "عرس فلسطيني " فقد كانت استثناء 14 .
لا يعني ما سبق أن الروائيين العرب لم يحتفلوا بالفلسطيني ولم يبرزوا له صورة إيجابية . على العكس فإن هناك روايات كان حضوره فيها لافتا ، وبدت صورته إيجابية ، وهو ما يظهر في روايات السوري حيدر حيدر 15 الذي كتب عن خلية فدائية أبعدت إلى الأردن بعد أن اعترف عليهم فلسطيني ، و السوري حليم بركات في " عودة الطائر إلى البحر "16 ، واللبناني الياس خوري في رواياته " باب الشمس " و" سينالكول " و " أولاد الغيتو : اسمي آدم " و " أولاد الغيتو : نجمة البحر "17 و المصرية رضوى عاشور " الطنطورية " 18 والعراقية انعام كجه جي " النبيذة " 19 و السوري ممدوح عدوان " أعدائي " 20 و السورية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " 21 والجزائرية أحلام مستغانمي " ذاكرة الجسد " و " عابر سرير " 22 والجزائري واسيني الأعرج " سوناتا لأشباح القدس "23 - وربما هنا نذكر روايته " مي ، ليالي ايزيس كوبيا " - و الأردني أمجد ناصر في روايته " حيث لا تسقط الأمطار " 24، وإن اختلفت صورته لدى آخرين .
أصدر محمد القواسمة، وهو يقيم في الأردن ، روايته التي
تجري أحداثها في قرية " عروبة " قرب مدينة " الرجيع " ، وكلا الاسمين افتراضي ، وصورت معاناة الفلسطيني في العالم العربي في زمن الربيع العربي . ولما كان الفلسطيني دكتورا ونشيطا اجتماعيا وسياسيا ، فإنه يفصل من عمله ثم يختطف ويقتل .
تظهر الرواية موقفين متناقضين في " عروبة " من الفلسطيني .
يقيم الفلسطيني علاقة مع شابة ويخطبها ، وحين تعلم صديقتها أنها ارتبطت بفلسطيني تبدي دهشتها ، معبرة عن موقف سلبي من شعبه ، وهذا لا يروق للفتاة . إنها معجبة بخطيبها كونه لا يتنكر لفلسطينيته ، وتقول لصديقتها إنه لو تنكر لأصله لما احترمته ، وأنه إنما كبر في عينها لاعتزازه بفلسطينيته .
يختطف النظام الحاكم في " الرجيع " الدكتور أنس الفلسطيني حين يكون مع خطيبته التي لا تمس بسوء ، ويقتله .
ولهذا فإن " عروبة " لا تنجو .
تنتهي الرواية بطوفان يغرق القرية فلا يبقى منها أثر عقابا لأهلها ، فقد ظلموا الفلسطيني وعائلته على الرغم من إسهامه في تطور المكان . الطوفان في الرواية يذكرنا بطوفان نوح .
حين يمر جواد بالقرية لا يرى من بقاياها إلا لافتة مكتوب عليها " عروبة ترحب بكم " وحين ينتزعها من مكانها ، بمساعدة الشباب ، وينصبها على مرتفع يتناول أحد الشباب قلما " غليظا " ويكتب مكان عبارة " عروبة ترحب بكم " عبارة " لعنة الفلسطيني " .
وإذا ما تأملنا في الروايات التي صدرت في ق 21 فإننا لا نعثر على صورة مشرقة دائما للفلسطيني ، كما لدى الروائية العراقية أنعام كجه جي في روايتها " النبيذة " ، والأكثر أننا نعثر على صورته كما تتجسد في واقعه ، وهي صورة لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا .
يكتب ممدوح عدوان عن الواقع العربي في الحرب العالمية الأولى وينهزم الفلسطيني عارف النابلسي فيم ينتصر غريمه الصهيوني . يلام الأول على إخلاصه ويطلق سراح الثاني مع تآمره . وتصور رضوى عاشور مجازر " الطنطورة " في 1948 وما يعقبها من مجازر في لبنان ، ويفعل الياس خوري الشيء ذاته فيكتب عن ابن النكبة اللقيط الذي ينتهي به المطاف في نيويورك ، كما ينتهي مشوار شخصية رواية جنى الحسن " طابق 99 " أيضا هناك بعد أن نجا من مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982.
في الأعمال السابقة نقرأ عن مآل الفدائي وما صار إليه الشعب الفلسطيني ، وهو مآل كئيب وحزين يستحق الرثاء ، وتبلغ ذروة بؤس هذا الواقع في رواية فواز حداد " المترجم الخائن "25 .
لم أتابع الروايات كلها التي صدرت في الخليج وأتى أصحابها على الفلسطيني متابعة حثيثة . لقد قرأت لزينب حفني السعودية " سيقان ملتوية " 26 وفيها أبرزت صورة مشرقة للفلسطيني زياد ، وقرأت لليلى العثمان التي أبرزت للفلسطيني الصورة المشرقة نفسها 27 ، وقرأت مراجعات عن روايات لاسماعيل فهد تبرز أيضا الصورة ذاتها ، إلا أنني أعتقد أن هناك روائيين آخرين قاربوا الصورة .
من الروايات التي أبرزت صورة سلبية لنا في ق 21 رواية المصري ناصر عراق " العاطل " 28 وتجري أحداثها في بلد خليجي . الفلسطيني فيها انتهازي ولا يطاق .
قبل " العاطل " صدرت رواية فواز حداد الروائي السوري وتبدو صورة الفلسطيني فيها مأساوية جدا ، وهو أصلا ما يلخصه عنوان فرعي من عناوين الرواية ، وهذا ما سوف أتوسع به .
وتبقى الأسئلة الآتية مهمة في دراسة موضوع مثل هذا :
- من هو السارد في الروايات السابقة ؟
- وما هي صلته بالمؤلف ؟
- وما صلة المؤلف بالفلسطينيين ؟
- وعن أية فترة زمنية يكتب الروائي وما الصورة التي كان عليها الفلسطينيون فيها ؟
ونظرا لكثرة الروايات ، وقد توقفت أمام صورة الفلسطيني فيها ، وإن بإيجاز ، فإنني سوف أتوقف في هذه الورقة أمام روايتين هما " العاطل " 2011 و " النبيذة " ، ولسوف أركز على ما تقوله الروايتان ، علما بأن ما هو مجد أكثر هو التوقف أمام الأسئلة المثارة سابقا ، ولعلني أفعل هذا في فترة لاحقة .
1 - صورة الفلسطيني في رواية الكاتب المصري ناصر عراق " العاطل " :
ناصر عراق روائي مصري درس الأدب في جامعات القاهرة ثم ترك مصر واستقر في أثناء صدور الرواية في دبي وعمل في صحافتها .
صدرت روايته " العاطل " في العام ٢٠١١ ، وهي تروي بضمير المتكلم قصة مواطن مصري هو محمد الزبال الذي يقر بأنه مأزوم نفسيا وجنسيا واجتماعيا ومحبط ومهان وشبه فاشل ويعاني من عقدة كراهية الأب ، فقد كان الأب الجندي المتقاعد قاسيا جدا في تربية أبنائه ويتصرف معهم باستبداد واضح ، ولا يتوانى عن ضربهم وشتمهم وتحقيرهم ، وهذا ولد لديهم كراهية عميقة نحوه لدرجة أن أبناءه ، ومنهم محمد السارد والشخصية الرئيسة ، تمنوا موته ، وحين مات لم يحزنوا بل شعروا بالرضا .
يسافر محمد إلى الخليج ليعمل هناك مع أخيه حسن الذي ساعده في الحصول على الوظيفة ، وفي الشركة التي يكون مديره فيها موسى الوحش الفلسطيني القادم من غزة يظل محمد يسرح ولا يركز ما يدفع الفلسطيني في نهاية الأمر إلى فصله من عمله .
محمد الزبال ، هذا الذي هو في الثلاثين من العمر ، يقيم علاقات عديدة مع غير امرأة ويفشل في علاقاته الحميمة معهن كما يفشل مع زوجته ، على الرغم من أنه ليس عاجزا جنسيا ، فهو يمارس العادة السرية ، وعضوه الذكري في أقوى حالاته .
لا نصغي في الرواية إلى الفلسطيني لكي نعرف وجهة نظره ، فالرواية كما ذكرت مصوغة بضمير المتكلم ، وهكذا نعرف تصور أنا المتكلم محمد الزبال للآخرين ، وما ينطق به الآخرون قليل ، بل إنه كلام معاد نقله من أنا المتكلم .
في الرواية يتعرف محمد الزبال إلى فلسطينيين اثنين هما مديره في الشركة موسى الوحش والموظف نائل أبو شمالة ، وكلاهما نشأ في غزة ودرس في القاهرة وسافر إلى دبي . وتبدو صورة هذين سلبية في المطلق ، لا من وجهة نظر محمد فقط ، بل من وجهة نظر ابن خالته منصور وهو مصري يساري ومثقف ، ومن هند المغربية الموظفة في الشركة وهي تحذره من الفلسطينيين .
ببساطة يبدو الفلسطينيون متعصبين لأبناء جلدتهم ويكرهون الآخرين ومتعالين ، ومع ذلك فإن المرء يستطيع أن يستخرج من هذه الصورة السلبية للفلسطيني صورة إيجابية لم يظهرها محمد ولم يرد إظهارها أصلا ، ولكن المرء يستشفها ، فمن الصورة السلبية يمكن استخراج صورة إيجابية .
إن ما رآه محمد كريها في الفلسطيني يراه القاريء إيجابيا ، فموسى مدير محمد جاد ومسؤول ويحاسب المقصرين ومحمد منهم . إنه لا يتسامح مع غير الملتزمين الكذابين ، ومحمد يقر بأنه بارع في الكذب . ثم إن أحد أسباب فصله من عمله ، عدا تركيزه على النساء ومؤخراتهن ، أنه لا يجيد الانجليزية ، والعمل في الشركة يتطلب إتقان هذه اللغة .
علاقة موسى الوحش الفلسطيني سيئة مع الموظفين كلهم باستثناء الفلسطينيين وهو مرتش ، وأما نائل أبو شمالة فابتسامته صفراء ، وهو يلاحق هند المغربية ولكنها ترفضه وتميل إلى محمد .
يخصص ناصر عراق عنوانا فرعيا لموسى الوحش هو العنوان الذي يدرج تحت الرقم 15 ولكنه لا يتركه يعبر عن وجهة نظره . إن راويه وبطله هو من يروي عن موسى :
" فالرجل يتسم بخصال انتقامية تغذيها دوما رغبة متأججة في السخربة من الآخرين وتسفيههم " و " لا أعرف من أين جاء بهذه النفس الشريرة ؟ " و " لكن من أين تمتليء نفسه بكل هذا السواد ؟" .
في المكان نفسه يتحدث محمد عن زوجة الفلسطيني ويورد ما سمعه من صديق له :
" يقول أمجد إنه رآه مرة مصطحبا زوجته وابنه في مول " بورجمان " ، وإن زوجته آية في الجمال ، وأطول منه ، وتصبغ شعرها بلون ذهبي ، وإنها تعمل في العلاقات العامة بإحدى الشركات ، كما سمع من أحدهم ! " ويمكن أن تقرأ الفقرة السابقة غير قراءة ، فهل كان موسى يعاني من عقدة ما في علاقته بزوجته ، وكان هذا وراء سوء علاقته بالآخرين أم أن ما أوردته عن انضباطه وجديته هو الأصح ؟
وأما نائل أبو شمالة فيبدو ناقل أخبار - أي مفسدا وجاسوسا للإدارة حيث يشي بالآخرين ومنهم محمد ويعرف محمد هذا من صديقته المغربية هند .
طبعا لا يستطيع الدارس أن يقول إن ناصر عراق له تصور سلبي للفلسطيني ، فالتصور صادر عن محمد ، والأقرب إلى ناصر هو منصور المصري المثقف اليساري الذي سيكون له دور في إعادة صياغة الرواية التي يكتبها محمد عن تجربته .
والطريف أن منصور يرى أن الفلسطينيين متعصبون لبعضهم .
ربما ما يجدر ملاحظته في أثناء متابعة تصور محمد للفلسطيني هو نظرته إلى المصريين أنفسهم .
ليس ثمة صورة إيجابية بالمطلق للمصري ، فهناك مصريون تبدو صورتهم منفرة وأولهم والد الراوي ، وهناك وصف منفر لأحد المصريين " له رائحة نتنة ينفق أمواله على الروسيات العاهرات " وهو يصلي ويزني ، تماما كما أن ابن خالة محمد - أعني منصور - ماركسي ويقرأ القرآن .
هند المغربية التي يعجب بها محمد تنظر إلى الفلسطينيين على أنهم اوباش ، وهي تقف إلى جانب محمد ، والطريف أن هندا هذه ترحل من دبي لاضطلاعها بتهريب المخدرات .
وحين نقرأ رأي محمد في شخصيته هو فلن نفاجأ من نظرته للفلسطيني . في الصفحات الأخيرة من الرواية يخبرنا محمد أنه سيكتب قصة حياته ويقر بأنه ليس موهوبا ليكتب ، ولكنه سيكتب وسيعطي ما يكتبه لابن خالته منصور :
" هل أنا متحمس لأن أريح همومي من صدري ؟ هل أنا فعلا راغب في تخطي ازماتي النفسية والجنسية التي لازمتني طويلا ؟ نعم .. فضلك يا عزة لا ينكر وحضورك البهي في فؤادي نعمة احمد أحمد الله علينا وأشكرك .
2- أنعام كجه جي " النبيذة " :
تعد أنعام كجه جي صوتا روائيا معروفا فقد أصدرت أربع روايات وصلت ثلاث منهن إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية العالمية ( بوكر ) ، وهي تقارب الموضوع العراقي في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين .
في روايتها " النبيذة " 2018 تروي عن صحفية عراقية تمنحها في الرواية اسم تاجي عبد المجيد وتأتي على حياتها منذ ولدت لأم عراقية وأب فارسي من أسرة عريقة ، وحياتها في ظل زوج أمها العراقي ، وعملها صحفية في العراق ، ثم إصدارها مجلة " الرحاب " ، ومعرفتها بكبار رجال أربعينيات وخمسينيات العراق ومقابلتهم ، ومقابلة أبرز الحكام العرب في تينك العقدين ومنهم الحبيب بورقيبة قبل صيرورته رئيسا ، ثم غضب القصر عليها لمشاركتها في مظاهرة جماهيرية ضد معاهدة وقعها القصر مع الانجليز ، إذ رأى الزعيم الذي تبناها أنها عضت اليد التي ساعدتها وبصقت في الصحن الذي أكلت منه .
تسافر تاجي إلى كراتشي لتعمل هناك في الإذاعة العربية ، وهناك تلتقي بالفلسطيني منصور البادي .
منصور البادي فلسطيني مقدسي ولد في العام ١٩٢٩ في البقعة الفوقا في القدس الجديدة ، وأكمل دراسته الجامعية في لندن ، ولما عاد وحدثت النكبة هاجر أهله إلى بيروت ، وذهب هو إلى بغداد لفترة قصيرة ، ثم استقر في كراتشي لمدة عام ونصف يقرأ الأخبار بالعربية في الإذاعة الجديدة بصوت ذي نغمة لافتة ، وفي الإذاعة يلتقي بتاجي عبد المجيد ويتعارفان ويعجبان ببعضهما ، ولكنهما بعد عام ونصف يطردان من الإذاعة ويفترقان ، والسبب يكمن في غيرة رئيس الإذاعة من العلاقة بين منصور وتاجي ، ما دفعه إلى تأليب المسؤولين عليهما بحجة الخلاعة ، وهكذا تم طردهما " وبحسب العقلية الشرقية ، أصبح من الوارد أن يظن البعض أن بيني وبين الآنسة تاجي تفاهما خفيا وعلاقة نتستر عليها . ما دخل هذا الفلسطيني لكي ينصب نفسه محاميا لها " .
في " النبيذة " لا نصغي إلى سارد واحد يروي ، إذ يتعدد الرواة : تاجي عبد المجيد ومنصور البادي ووديان الملاح ، وهكذا تترك أنعام كجه جي الشخصية الفلسطينية تعبر عن نفسها وتقص عن حياتها ، ولا يحتكر السرد سارد آخر غير هؤلاء . إن الثلاثة هم الساردون الأساسيون ويسرد منصور الفلسطيني صفحات لا بأس بها .
من مذيع في إذاعة كراتشي إلى أستاذ جامعي ناجح ومؤلف كتب وكاتب أبحاث إلى صديق للرئيس ( هوغو شافيز ) الذي يعجب بكتابات منصور لدرجة أنه لا يقرأ " كتاب البروفيسور الفلسطيني فحسب ، بل حفظ عباراته عن ظهر قلب أيضا " ، ثم يغدو منصور الناطق الرسمي لوفد الرئاسة الفنزويلية في باريس وعضوا في الخارجية إلى سفير لفنزويلا في تركيا . هذا هو الفلسطيني في رواية أنعام كجه جي هذه .
حين تعرفت تاجي إلى منصور كان شابا أصغر منها بسبع سنوات ، وهي التي أسرت لب الرجال وجعلتهم يخضعون لها " حافظت عليه بمنأى من لهيبي " خلافا لهم " فكلهم كانوا مجانين تاجي " وكلهم تعني السياسيين وكبار رجال المجتمع والقادة والقوادين وضباط المخابرات الفرنسيين الذين طلبوا من ضابط فرنسي أن يتزوجها لتوظيفها في خدمة المخابرات الفرنسية ، وهذا ما تم ولهذا استقرت في باريس . ويظل هذا الفلسطيني الذي تعرفت إليه لمدة عام ونصف خالدا حيا في ذاكرتها ، وحين يزور باريس بعد بضع عقود بصحبة الرئيس الفنزويلي( شافيز ) وتلتقي به وديان المالح وتخبر تاجي التي تقيم معها ، حيث استضافتها في شقتها الباريسية ، عن فلسطيني في الوفد هو منصور البادي . تدهش وديان لأن تاجي مازالت تذكر اسم الفلسطيني :
" - هل تذكرين اسمه؟
- منصور البادي . أنسى اسمه ولا أنساه " .
ويفكر منصور بعد مغادرة كراتشي بمواصلة علاقته بتاجي ويطل يراسلها مدة عام ونصف ، وحين يعرف أنها ، بعد مغادرتها كراتشي ، أقامت علاقة جنسية في عبدان ، مع إيراني من أسرة تنتمي إلى السلالات الحاكمة التي خسرت الحكم ، وأنها أنجبت طفلة ثمرة تلك العلاقة العابرة ، ينقطع عن مراسلتها .
يؤلف منصور كتابا عن ( سيمون بوليفار ) وكتبا أخرى ، تروق ل ( شافيز ) وهو في السجن ، وحين يغدو رئيسا يقربه منه .
يلخص منصور البادي حياته التي عاشها في بضع كلمات :
" في ثلاث كلمات يمكن وصف حياتي بأنها تاريخ مضغوط في مذكرات . كراسات صغيرة أكتب فيها مواجيز حياتي "
و
" دفاتر مذكراتي هي كنزي المتراكم "
تزوج منصور من أرجنتينية وخلف منها ابنتين ثم انفصلا ، وتزوج من فنزويلية.
هذا الفلسطيني الأب اللبناني الأم الفنزويلي الجنسية لم يفارقه إحساسه الكامل بانتمائه وأصله ، فقد ظل حتى حزيران ١٩٦٧ عروبيا لدرجة أنه تساءل إن كان مجنونا من مجانين العروبة ؟!
" توهمت أننا سنستعيد الأرض وستعود نعيمة ديوانحي ، أمي ، إلى بيتها في فلسطين ، توهمت وما نسيت " .
بعد شعوره بالخيبة يندمج في المجتمع الفنزويلي ويغدو انسانا ناجحا ، وبعد تجاربه يكتب مذكراته بالانجليزية لا بالعربية " حتى تقرأ الأجيال التي ولدت في المنافي ولا تعرف العربية " تاريخها .
يبدو الفلسطيني منصور عزيز النفس إذ يرفض زيارة القدس ، وهو سفير ، في تركيا ، حتى لا يختم جواوه بختم دولة إسرائيل .
إن منصور البادي في الرواية يذكرنا بفلسطينيي جبرا ابراهيم جبرا الفلسطيني في رواياته العديدة ، وفلسطيني جبرا في رواياته كان على صورة جبرا نفسه : الفلسطيني المثقف اللامع المعشوق من النساء الذي يظل يحلم بالعودة إلى فلسطين والقدس مهما طال الزمن ، فهل خرج منصور البادي في رواية أنعام كجه جي من معطف روايات جبرا أم أننا يمكن أن نعثر في الواقع على شبيه به ؟
في مراسلاتي مع الكاتبة أوضحت لي أنها استمدت شخصية منصور من شخصية فلسطينية حقيقية ما زالت على قيد الحياة وما زالت تقيم في ( كراكاس ) .
إن البحث عن واقعية شخصية منصور قد يعيدنا أيضا إلى شخصية تاجي عبد المجيد وإلى تاريخ الصحافة في العراق وإلى مجلة " الرحاب " والبحث عن صاحبتها ومدى توافقها مع الشخصية الروائية ، وليس غريبا أن يخمن بعض القراء شخصية تاجي في الواقع . حقا إن التطابق قد لا يكون كاملا وأن يد الروائية ومخيلتها لهما دور كبير في رسم ملامح الشخصية الروائية ، ولكن ما لا يستطيع المرء تجاهله هو الأصول الواقعية لكل من منصور البادي وتاجي عبد المجيد ، والرواية عموما لا تخلو من ذكر رموز سياسية عراقية بأسمائها الحقيقية ، وإن جنحت في قسم منها إلى التلميح لا إلى التصريح حين كتبت عن حقبة حكم صدام حسين .
الهوامش :
1 - صدرت رواية "لاجئة " في العام 1952 وغالبا ما أشير إليها ، ونادرا ما درست دراسة مفصلة ، وهي مذكرات مصوغة بقالب روائي كما كتب في التعريف بها .
2 - حول رواية حليم بركات وبطلها الفلسطيني الأستاذ الجامعي المحبط أنظر جميل كتاني " دراسات وأبحاث في الرواية العربية المعاصرة " ، 2014 دار الهدى ، ص 120 - 147 وفيها اتكأ على الدراسات السابقة للرواية وتوقف أمام شخصية الفلسطيني .
3 - حول رواية " عرس فلسطيني " انظر شمعون بلاص " الأدب العربي في ظل الحرب 1948 - 1973 " ترجمة زكي درويش ، حيفا 1984 . ص61 وما بعدها.
4 - مجلة " الجديد " لندن عدد 60 كانون الأول ، وانظر بلاص ، ص 93 وما بعدها ، وعادل الأسطة "جدل الذات والآخر : لليهود في الرواية " رام الله ،2012 .
5 - يعد كتاب كنفاني كتابا رائدا في مجاله ، وهو كتاب تأسيسي اعتمد عليه الدارسون اللاحقون ، وقد صدر في العام 1966 .
6 - " عائد إلى حيفا " 1969 وحول صورة اليهود فيها هناك دراسات ومقالات أكثر من أن تعد . على سبيل المثال انظر الأسطة "جدل الذات والآخر : صورة اليهود في " عائد إلى حيفا " على ضوء صورتهم في رواية ( هرتسل ) "، أرض قديمة - جديدة " .
7 - نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة ، دار الفارابي ، بيروت (ط 2/2014 وصدرت الطبعة الأولى في 1970 ).
8 - حول اليهود في المسرحية كتب بلاص في كتابه ( ص 76 ) وعادل الاسطة في كتابه " اليهود في الأدب الفلسطيني " القدس 1992 ( ص 120 - 125 )
9 - صدر كتاب بلاص بالعربية ، من ترجمة زكي درويش ، عن دار المشرق في 1984 ، وهو في الأصل رسالة دكتوراه بالفرنسية ونقل إلى العبرية وعن الأخيرة نقل إلى العربية.
10 - انظر : بلاص نحوي ص 61 وما بعدها .
11 - مثلا روايات أفنان القاسم في الأدب الفلسطيني وروايتي واسيني الأعرج " البيت الأندلسي " و " سوناتا لأشباح القدس " وقد تتبعت صورة اليهودي فيهما في زاويتي في جريدة الأيام الفلسطينية.
12 - صدرت رواية " الفلسطيني الطيب " في بيروت عن دار ابن خلدون في العام 1979 ، ولم تتم لها مراجعات نقدية لافتة فيما أعرف ، وهي أشبه بسيرة روائية لكاتبها .
13 - لعنة الفلسطيني ، وقد صدرت في عمان في 2015 .
14 - احتفل الفلسطينيون بهذه الرواية ، فأعادوا طباعتها في الأرض المحتلة حال صدورها . وحول الرواية انظر شمعون بلاص ص 61 وما بعدها .
15 - حيدر حيدر ، وذكر في روايته أسماء حقيقية لخلية فدائية فلسطينية أبعدت إلى الأردن ، وكان فلسطيني متعاون اعترف على الخلية الفدائية .
16 - حليم بركات " عودة الطائر إلى البحر " انظر هامش 2 .
17 - أنجزت عن روايات الياس خوري وصورة اليهود فيها العديد من الدراسات ، وحتى اللحظة لم تكتب دراسة مفصلة فيها عن صورة الفلسطيني . انظر كتابي " اليهود في الرواية العربية " وكتابي " أسئلة الرواية العربية " الصادر عن دار الآداب في بيروت 2018 .
18 - الطنطورية لرضوى عاشور ، وقد صدرت في 2011 عن دار الشروق المصرية في القاهرة .
19 - صدرت النبيذة في بيروت في العام 2018 عن دار الجديد .
20 - صدرت رواية ممدوح عدوان في العام 2000 في بيروت عن منشورات رياض الريس ، وحول صورة اليهود فيها ومرايا الذات والآخر أنظر كتابي " اليهود في الرواية العربية " .
21 - جنى فواز الحسن " طابق 99 " وقد صدرت في العام 2014 في بيروت عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف .
22 - ثلاثية أحلام مستغانمي حازت على شهرة واسعة وأنجزت عنها كتب ورسائل علمية ، وتلفت شخصية زياد الخليل الفلسطيني فيها النظر .
23 - صدرت الطبعة الأولى لرواية واسيني الأعرج " سوناتا لأشباح القدس " عن دار الآداب في بيروت في العام 2009 .
24 - رواية أمجد ناصر " حيث لا تسقط الأمطار " وقد صدرت في بيروت
25 - صدرت رواية فواز حداد " المترجم الخائن " عن منشورات رياض الريس في بيروت في العام 2008 وحول صورة الفلسطيني فيها أنظر مقالتي في جريدة الايام الفلسطينية بتاريخ 12 / 1/ 2020 وقد توسعت فيه على صفحتي في الفيسبوك .
26 - صدرت الطبعة الأولى من " سيقان ملتوية " في العام 2008 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر . وصورة الفلسطيني فيها موضع دراسة في مقال قد ينشر في جريدة الأيام الفلسطينية 19 / 1 / 2020 .
27 - صدرت رواية ناصر عراق " العاطل " في القاهرة في العام 2011 عن الدار المصرية اللبنانية .حول الرواية انظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية 26 / 2 / 2012 .
28 - انظر هامش 19 . وانظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية 17 / 11 /2019 .
الجمعة والسبت ٢٧ و ٢٨ كانون الأول ٢٠١٩
أتناول في هذه الورقة صورة الفلسطيني في الرواية العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من خلال التركيز على روايتين هما " العاطل " للكاتب المصري ناصر عراق ، و "النبيذة " للكاتبة العراقية أنعام كجه جي ، وألقي نظرةعلى الروايات العربية التي التفت فيها إلى الفلسطيني ، وهذه الروايات هي موضع دراسة أشمل .
الالتفات إلى الموضوع الفلسطيني في الأدب العربي الحديث بدأت منذ بدأ الموضوع الفلسطيني يشغل العرب ، وقد التفت إليه في الأدب دارسون عرب وفلسطينيون منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ، فكتب فيه صبري حافظ وحسام الخطيب وآخرون .
أول رواية تناولت حياة الفلسطينيين بعد ١٩٤٨ كتبها اللبناني جورج حنا " لاجئة " 1 في بداية خمسينات القرن العشرين ، وعالبا ما يذكرها الدارسون حين يدرسون الأدب العربي في ظل الحرب ذكرا عابرا دون أن يتوقفوا أمامها ، فلم يأت عليها شمعون بلاص في دراسته إتيانا تفصيليا .
بعد هزيمة ١٩٦٧ قارب روائيون ، مثل السوريين حليم بركات في " عودة الطائر إلى البحر " 2 ، وأديب نحوي في " عرس فلسطيني " 3 الموضوع الفلسطيني ، وقد حفلت هاتان الروايتان بتلق نقدي بارز وأعيدت طباعة رواية نحوي في فلسطين ، ربما لدال العنوان ، وربما للصورة الإيجابية للفلسطيني فيها ، ويبدو أن الموضوع هو ما لفت نظر الدارسين في الروايتين .
استحوذ الموضوع على اهتمام الروائيين وطغى أكثر من التفاتهم إلى الشخصية اليهودية ، فقد ظل الكتاب العرب على مسافة من الكتابة عن اليهود لأسباب ؛ ربما سياسية بالدرجة الأولى ، وربما لأن صلتهم باليهود كانت ضعيفة بعد أن ترك يهود البلدان العربية بلادهم مهاجرين أو مهجرين منها .4
ويمكن القول إنه قبل جهود غسان كنفاني في كتابه " في الأدب الصهيوني "5 ، و كتابته عن اليهود في روايته " عائد إلى حيفا "6 ، ومعين بسيسو في دراسته " في الأدب الإسرائيلي " 7 و في مسرحيته " شمشون ودليلة "8 وبعض قصائده ، نادرا ما قارب الروائيون العرب الشخصية اليهودية ، ولكنهم بدأوا يكتبون عن الفلسطينيين ، ما لفت أنظار الدكتور الإسرائيلي شمعون بلاص ذي الأصول العربية العراقية ، فدرسهم في رسالة الدكتوراه التي أنجزها في فرنسا ونقلها إلى العربية القاص زكي درويش " الأدب العربي في ظل الحرب ١٩٤٨ - ١٩٧٣ "9 ، فالتفت إلى صورة اليهود ، وأفرد جزءا لصورة الفدائي الذي عده أديب نحوي بطلا أسطوريا ، فكتب بلاص تحت عنوان " الفدائي كبطل أسطوري " 10.
حتى ١٩٩٣ نادرا ما كتب الروائيون العرب كتابة إيجابية عن اليهود ، وظلوا ينظرون إليهم غالبا على أنهم أعداء .
بعد العام ٢٠٠٠ اختلف الأمر .
كان الروائيون يكتبون عن الفلسطينيين ويصورونهم على أنهم ضحايا ، ولهذا تعاطفوا مع اللاجيء وأعجبوا بالفدائي . تلخص هذا الإعجاب عبارة قالها الزعيم المصري جمال عبد الناصر الذي رأى في المقاومة الفلسطينية أنبل ظاهرة عربية في القرن العشرين . وما كثرة دراسات الدارسين العرب للأدب الفلسطيني وإعادة دور النشر العربية طباعته ، سوى تعبير واضح عن مقدار حب الجماهير العربية ومثقفيها وكتابها وأدبائها للفلسطيني .
يستطيع المرء أن يوازن بين الاهتمام بالأدبين الفلسطيني والإسرائيلي ، قبل العام ٢٠٠٠ وبعده ، ليرى الفارق .
بعد ٢٠٠٠ كثرت الكتابة عن اليهود وطغى عليها ضرب من التصالح ، فلم يعد اليهود ينعتون بالصهيونيين الغاصبين . لقد نظر إليهم على أنهم ضحايا وبشر يمكن التفاهم معهم وتفهم معاناتهم . صار اليهود يتسيدون عناوين الروايات ، وارتفعت الأصوات التي تدعو إلى ترجمة أدبهم وأقبلت دور النشر على طباعته . بل وأخذ بعض الروائيين يكتب عن اليهود وعلاقتهم بالمسلمين في الفترات التي ساد فيها الوئام ، للقول إننا لسنا ضد اليهود وإن التعايش معهم ممكن ، فقد تحقق من قبل .11
مقابل تسيد دال اليهودي ، لم نقرأ عناوين روايات عربية يظهر فيها دال الفلسطيني . لقد حفلت روايات فلسطينيين بمفردات " فلسطيني " في العنوان ، مثل " الفلسطيني الطيب "12 ( ق 20 ) لعلي فودة و" لعنة الفلسطيني " 13( 2016 ) لمحمد عبدالله القواسمة . هنا أشير ثانية إلى رواية أديب نحوي "عرس فلسطيني " فقد كانت استثناء 14 .
لا يعني ما سبق أن الروائيين العرب لم يحتفلوا بالفلسطيني ولم يبرزوا له صورة إيجابية . على العكس فإن هناك روايات كان حضوره فيها لافتا ، وبدت صورته إيجابية ، وهو ما يظهر في روايات السوري حيدر حيدر 15 الذي كتب عن خلية فدائية أبعدت إلى الأردن بعد أن اعترف عليهم فلسطيني ، و السوري حليم بركات في " عودة الطائر إلى البحر "16 ، واللبناني الياس خوري في رواياته " باب الشمس " و" سينالكول " و " أولاد الغيتو : اسمي آدم " و " أولاد الغيتو : نجمة البحر "17 و المصرية رضوى عاشور " الطنطورية " 18 والعراقية انعام كجه جي " النبيذة " 19 و السوري ممدوح عدوان " أعدائي " 20 و السورية جنى فواز الحسن " طابق ٩٩ " 21 والجزائرية أحلام مستغانمي " ذاكرة الجسد " و " عابر سرير " 22 والجزائري واسيني الأعرج " سوناتا لأشباح القدس "23 - وربما هنا نذكر روايته " مي ، ليالي ايزيس كوبيا " - و الأردني أمجد ناصر في روايته " حيث لا تسقط الأمطار " 24، وإن اختلفت صورته لدى آخرين .
أصدر محمد القواسمة، وهو يقيم في الأردن ، روايته التي
تجري أحداثها في قرية " عروبة " قرب مدينة " الرجيع " ، وكلا الاسمين افتراضي ، وصورت معاناة الفلسطيني في العالم العربي في زمن الربيع العربي . ولما كان الفلسطيني دكتورا ونشيطا اجتماعيا وسياسيا ، فإنه يفصل من عمله ثم يختطف ويقتل .
تظهر الرواية موقفين متناقضين في " عروبة " من الفلسطيني .
يقيم الفلسطيني علاقة مع شابة ويخطبها ، وحين تعلم صديقتها أنها ارتبطت بفلسطيني تبدي دهشتها ، معبرة عن موقف سلبي من شعبه ، وهذا لا يروق للفتاة . إنها معجبة بخطيبها كونه لا يتنكر لفلسطينيته ، وتقول لصديقتها إنه لو تنكر لأصله لما احترمته ، وأنه إنما كبر في عينها لاعتزازه بفلسطينيته .
يختطف النظام الحاكم في " الرجيع " الدكتور أنس الفلسطيني حين يكون مع خطيبته التي لا تمس بسوء ، ويقتله .
ولهذا فإن " عروبة " لا تنجو .
تنتهي الرواية بطوفان يغرق القرية فلا يبقى منها أثر عقابا لأهلها ، فقد ظلموا الفلسطيني وعائلته على الرغم من إسهامه في تطور المكان . الطوفان في الرواية يذكرنا بطوفان نوح .
حين يمر جواد بالقرية لا يرى من بقاياها إلا لافتة مكتوب عليها " عروبة ترحب بكم " وحين ينتزعها من مكانها ، بمساعدة الشباب ، وينصبها على مرتفع يتناول أحد الشباب قلما " غليظا " ويكتب مكان عبارة " عروبة ترحب بكم " عبارة " لعنة الفلسطيني " .
وإذا ما تأملنا في الروايات التي صدرت في ق 21 فإننا لا نعثر على صورة مشرقة دائما للفلسطيني ، كما لدى الروائية العراقية أنعام كجه جي في روايتها " النبيذة " ، والأكثر أننا نعثر على صورته كما تتجسد في واقعه ، وهي صورة لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا .
يكتب ممدوح عدوان عن الواقع العربي في الحرب العالمية الأولى وينهزم الفلسطيني عارف النابلسي فيم ينتصر غريمه الصهيوني . يلام الأول على إخلاصه ويطلق سراح الثاني مع تآمره . وتصور رضوى عاشور مجازر " الطنطورة " في 1948 وما يعقبها من مجازر في لبنان ، ويفعل الياس خوري الشيء ذاته فيكتب عن ابن النكبة اللقيط الذي ينتهي به المطاف في نيويورك ، كما ينتهي مشوار شخصية رواية جنى الحسن " طابق 99 " أيضا هناك بعد أن نجا من مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982.
في الأعمال السابقة نقرأ عن مآل الفدائي وما صار إليه الشعب الفلسطيني ، وهو مآل كئيب وحزين يستحق الرثاء ، وتبلغ ذروة بؤس هذا الواقع في رواية فواز حداد " المترجم الخائن "25 .
لم أتابع الروايات كلها التي صدرت في الخليج وأتى أصحابها على الفلسطيني متابعة حثيثة . لقد قرأت لزينب حفني السعودية " سيقان ملتوية " 26 وفيها أبرزت صورة مشرقة للفلسطيني زياد ، وقرأت لليلى العثمان التي أبرزت للفلسطيني الصورة المشرقة نفسها 27 ، وقرأت مراجعات عن روايات لاسماعيل فهد تبرز أيضا الصورة ذاتها ، إلا أنني أعتقد أن هناك روائيين آخرين قاربوا الصورة .
من الروايات التي أبرزت صورة سلبية لنا في ق 21 رواية المصري ناصر عراق " العاطل " 28 وتجري أحداثها في بلد خليجي . الفلسطيني فيها انتهازي ولا يطاق .
قبل " العاطل " صدرت رواية فواز حداد الروائي السوري وتبدو صورة الفلسطيني فيها مأساوية جدا ، وهو أصلا ما يلخصه عنوان فرعي من عناوين الرواية ، وهذا ما سوف أتوسع به .
وتبقى الأسئلة الآتية مهمة في دراسة موضوع مثل هذا :
- من هو السارد في الروايات السابقة ؟
- وما هي صلته بالمؤلف ؟
- وما صلة المؤلف بالفلسطينيين ؟
- وعن أية فترة زمنية يكتب الروائي وما الصورة التي كان عليها الفلسطينيون فيها ؟
ونظرا لكثرة الروايات ، وقد توقفت أمام صورة الفلسطيني فيها ، وإن بإيجاز ، فإنني سوف أتوقف في هذه الورقة أمام روايتين هما " العاطل " 2011 و " النبيذة " ، ولسوف أركز على ما تقوله الروايتان ، علما بأن ما هو مجد أكثر هو التوقف أمام الأسئلة المثارة سابقا ، ولعلني أفعل هذا في فترة لاحقة .
1 - صورة الفلسطيني في رواية الكاتب المصري ناصر عراق " العاطل " :
ناصر عراق روائي مصري درس الأدب في جامعات القاهرة ثم ترك مصر واستقر في أثناء صدور الرواية في دبي وعمل في صحافتها .
صدرت روايته " العاطل " في العام ٢٠١١ ، وهي تروي بضمير المتكلم قصة مواطن مصري هو محمد الزبال الذي يقر بأنه مأزوم نفسيا وجنسيا واجتماعيا ومحبط ومهان وشبه فاشل ويعاني من عقدة كراهية الأب ، فقد كان الأب الجندي المتقاعد قاسيا جدا في تربية أبنائه ويتصرف معهم باستبداد واضح ، ولا يتوانى عن ضربهم وشتمهم وتحقيرهم ، وهذا ولد لديهم كراهية عميقة نحوه لدرجة أن أبناءه ، ومنهم محمد السارد والشخصية الرئيسة ، تمنوا موته ، وحين مات لم يحزنوا بل شعروا بالرضا .
يسافر محمد إلى الخليج ليعمل هناك مع أخيه حسن الذي ساعده في الحصول على الوظيفة ، وفي الشركة التي يكون مديره فيها موسى الوحش الفلسطيني القادم من غزة يظل محمد يسرح ولا يركز ما يدفع الفلسطيني في نهاية الأمر إلى فصله من عمله .
محمد الزبال ، هذا الذي هو في الثلاثين من العمر ، يقيم علاقات عديدة مع غير امرأة ويفشل في علاقاته الحميمة معهن كما يفشل مع زوجته ، على الرغم من أنه ليس عاجزا جنسيا ، فهو يمارس العادة السرية ، وعضوه الذكري في أقوى حالاته .
لا نصغي في الرواية إلى الفلسطيني لكي نعرف وجهة نظره ، فالرواية كما ذكرت مصوغة بضمير المتكلم ، وهكذا نعرف تصور أنا المتكلم محمد الزبال للآخرين ، وما ينطق به الآخرون قليل ، بل إنه كلام معاد نقله من أنا المتكلم .
في الرواية يتعرف محمد الزبال إلى فلسطينيين اثنين هما مديره في الشركة موسى الوحش والموظف نائل أبو شمالة ، وكلاهما نشأ في غزة ودرس في القاهرة وسافر إلى دبي . وتبدو صورة هذين سلبية في المطلق ، لا من وجهة نظر محمد فقط ، بل من وجهة نظر ابن خالته منصور وهو مصري يساري ومثقف ، ومن هند المغربية الموظفة في الشركة وهي تحذره من الفلسطينيين .
ببساطة يبدو الفلسطينيون متعصبين لأبناء جلدتهم ويكرهون الآخرين ومتعالين ، ومع ذلك فإن المرء يستطيع أن يستخرج من هذه الصورة السلبية للفلسطيني صورة إيجابية لم يظهرها محمد ولم يرد إظهارها أصلا ، ولكن المرء يستشفها ، فمن الصورة السلبية يمكن استخراج صورة إيجابية .
إن ما رآه محمد كريها في الفلسطيني يراه القاريء إيجابيا ، فموسى مدير محمد جاد ومسؤول ويحاسب المقصرين ومحمد منهم . إنه لا يتسامح مع غير الملتزمين الكذابين ، ومحمد يقر بأنه بارع في الكذب . ثم إن أحد أسباب فصله من عمله ، عدا تركيزه على النساء ومؤخراتهن ، أنه لا يجيد الانجليزية ، والعمل في الشركة يتطلب إتقان هذه اللغة .
علاقة موسى الوحش الفلسطيني سيئة مع الموظفين كلهم باستثناء الفلسطينيين وهو مرتش ، وأما نائل أبو شمالة فابتسامته صفراء ، وهو يلاحق هند المغربية ولكنها ترفضه وتميل إلى محمد .
يخصص ناصر عراق عنوانا فرعيا لموسى الوحش هو العنوان الذي يدرج تحت الرقم 15 ولكنه لا يتركه يعبر عن وجهة نظره . إن راويه وبطله هو من يروي عن موسى :
" فالرجل يتسم بخصال انتقامية تغذيها دوما رغبة متأججة في السخربة من الآخرين وتسفيههم " و " لا أعرف من أين جاء بهذه النفس الشريرة ؟ " و " لكن من أين تمتليء نفسه بكل هذا السواد ؟" .
في المكان نفسه يتحدث محمد عن زوجة الفلسطيني ويورد ما سمعه من صديق له :
" يقول أمجد إنه رآه مرة مصطحبا زوجته وابنه في مول " بورجمان " ، وإن زوجته آية في الجمال ، وأطول منه ، وتصبغ شعرها بلون ذهبي ، وإنها تعمل في العلاقات العامة بإحدى الشركات ، كما سمع من أحدهم ! " ويمكن أن تقرأ الفقرة السابقة غير قراءة ، فهل كان موسى يعاني من عقدة ما في علاقته بزوجته ، وكان هذا وراء سوء علاقته بالآخرين أم أن ما أوردته عن انضباطه وجديته هو الأصح ؟
وأما نائل أبو شمالة فيبدو ناقل أخبار - أي مفسدا وجاسوسا للإدارة حيث يشي بالآخرين ومنهم محمد ويعرف محمد هذا من صديقته المغربية هند .
طبعا لا يستطيع الدارس أن يقول إن ناصر عراق له تصور سلبي للفلسطيني ، فالتصور صادر عن محمد ، والأقرب إلى ناصر هو منصور المصري المثقف اليساري الذي سيكون له دور في إعادة صياغة الرواية التي يكتبها محمد عن تجربته .
والطريف أن منصور يرى أن الفلسطينيين متعصبون لبعضهم .
ربما ما يجدر ملاحظته في أثناء متابعة تصور محمد للفلسطيني هو نظرته إلى المصريين أنفسهم .
ليس ثمة صورة إيجابية بالمطلق للمصري ، فهناك مصريون تبدو صورتهم منفرة وأولهم والد الراوي ، وهناك وصف منفر لأحد المصريين " له رائحة نتنة ينفق أمواله على الروسيات العاهرات " وهو يصلي ويزني ، تماما كما أن ابن خالة محمد - أعني منصور - ماركسي ويقرأ القرآن .
هند المغربية التي يعجب بها محمد تنظر إلى الفلسطينيين على أنهم اوباش ، وهي تقف إلى جانب محمد ، والطريف أن هندا هذه ترحل من دبي لاضطلاعها بتهريب المخدرات .
وحين نقرأ رأي محمد في شخصيته هو فلن نفاجأ من نظرته للفلسطيني . في الصفحات الأخيرة من الرواية يخبرنا محمد أنه سيكتب قصة حياته ويقر بأنه ليس موهوبا ليكتب ، ولكنه سيكتب وسيعطي ما يكتبه لابن خالته منصور :
" هل أنا متحمس لأن أريح همومي من صدري ؟ هل أنا فعلا راغب في تخطي ازماتي النفسية والجنسية التي لازمتني طويلا ؟ نعم .. فضلك يا عزة لا ينكر وحضورك البهي في فؤادي نعمة احمد أحمد الله علينا وأشكرك .
2- أنعام كجه جي " النبيذة " :
تعد أنعام كجه جي صوتا روائيا معروفا فقد أصدرت أربع روايات وصلت ثلاث منهن إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية العالمية ( بوكر ) ، وهي تقارب الموضوع العراقي في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين .
في روايتها " النبيذة " 2018 تروي عن صحفية عراقية تمنحها في الرواية اسم تاجي عبد المجيد وتأتي على حياتها منذ ولدت لأم عراقية وأب فارسي من أسرة عريقة ، وحياتها في ظل زوج أمها العراقي ، وعملها صحفية في العراق ، ثم إصدارها مجلة " الرحاب " ، ومعرفتها بكبار رجال أربعينيات وخمسينيات العراق ومقابلتهم ، ومقابلة أبرز الحكام العرب في تينك العقدين ومنهم الحبيب بورقيبة قبل صيرورته رئيسا ، ثم غضب القصر عليها لمشاركتها في مظاهرة جماهيرية ضد معاهدة وقعها القصر مع الانجليز ، إذ رأى الزعيم الذي تبناها أنها عضت اليد التي ساعدتها وبصقت في الصحن الذي أكلت منه .
تسافر تاجي إلى كراتشي لتعمل هناك في الإذاعة العربية ، وهناك تلتقي بالفلسطيني منصور البادي .
منصور البادي فلسطيني مقدسي ولد في العام ١٩٢٩ في البقعة الفوقا في القدس الجديدة ، وأكمل دراسته الجامعية في لندن ، ولما عاد وحدثت النكبة هاجر أهله إلى بيروت ، وذهب هو إلى بغداد لفترة قصيرة ، ثم استقر في كراتشي لمدة عام ونصف يقرأ الأخبار بالعربية في الإذاعة الجديدة بصوت ذي نغمة لافتة ، وفي الإذاعة يلتقي بتاجي عبد المجيد ويتعارفان ويعجبان ببعضهما ، ولكنهما بعد عام ونصف يطردان من الإذاعة ويفترقان ، والسبب يكمن في غيرة رئيس الإذاعة من العلاقة بين منصور وتاجي ، ما دفعه إلى تأليب المسؤولين عليهما بحجة الخلاعة ، وهكذا تم طردهما " وبحسب العقلية الشرقية ، أصبح من الوارد أن يظن البعض أن بيني وبين الآنسة تاجي تفاهما خفيا وعلاقة نتستر عليها . ما دخل هذا الفلسطيني لكي ينصب نفسه محاميا لها " .
في " النبيذة " لا نصغي إلى سارد واحد يروي ، إذ يتعدد الرواة : تاجي عبد المجيد ومنصور البادي ووديان الملاح ، وهكذا تترك أنعام كجه جي الشخصية الفلسطينية تعبر عن نفسها وتقص عن حياتها ، ولا يحتكر السرد سارد آخر غير هؤلاء . إن الثلاثة هم الساردون الأساسيون ويسرد منصور الفلسطيني صفحات لا بأس بها .
من مذيع في إذاعة كراتشي إلى أستاذ جامعي ناجح ومؤلف كتب وكاتب أبحاث إلى صديق للرئيس ( هوغو شافيز ) الذي يعجب بكتابات منصور لدرجة أنه لا يقرأ " كتاب البروفيسور الفلسطيني فحسب ، بل حفظ عباراته عن ظهر قلب أيضا " ، ثم يغدو منصور الناطق الرسمي لوفد الرئاسة الفنزويلية في باريس وعضوا في الخارجية إلى سفير لفنزويلا في تركيا . هذا هو الفلسطيني في رواية أنعام كجه جي هذه .
حين تعرفت تاجي إلى منصور كان شابا أصغر منها بسبع سنوات ، وهي التي أسرت لب الرجال وجعلتهم يخضعون لها " حافظت عليه بمنأى من لهيبي " خلافا لهم " فكلهم كانوا مجانين تاجي " وكلهم تعني السياسيين وكبار رجال المجتمع والقادة والقوادين وضباط المخابرات الفرنسيين الذين طلبوا من ضابط فرنسي أن يتزوجها لتوظيفها في خدمة المخابرات الفرنسية ، وهذا ما تم ولهذا استقرت في باريس . ويظل هذا الفلسطيني الذي تعرفت إليه لمدة عام ونصف خالدا حيا في ذاكرتها ، وحين يزور باريس بعد بضع عقود بصحبة الرئيس الفنزويلي( شافيز ) وتلتقي به وديان المالح وتخبر تاجي التي تقيم معها ، حيث استضافتها في شقتها الباريسية ، عن فلسطيني في الوفد هو منصور البادي . تدهش وديان لأن تاجي مازالت تذكر اسم الفلسطيني :
" - هل تذكرين اسمه؟
- منصور البادي . أنسى اسمه ولا أنساه " .
ويفكر منصور بعد مغادرة كراتشي بمواصلة علاقته بتاجي ويطل يراسلها مدة عام ونصف ، وحين يعرف أنها ، بعد مغادرتها كراتشي ، أقامت علاقة جنسية في عبدان ، مع إيراني من أسرة تنتمي إلى السلالات الحاكمة التي خسرت الحكم ، وأنها أنجبت طفلة ثمرة تلك العلاقة العابرة ، ينقطع عن مراسلتها .
يؤلف منصور كتابا عن ( سيمون بوليفار ) وكتبا أخرى ، تروق ل ( شافيز ) وهو في السجن ، وحين يغدو رئيسا يقربه منه .
يلخص منصور البادي حياته التي عاشها في بضع كلمات :
" في ثلاث كلمات يمكن وصف حياتي بأنها تاريخ مضغوط في مذكرات . كراسات صغيرة أكتب فيها مواجيز حياتي "
و
" دفاتر مذكراتي هي كنزي المتراكم "
تزوج منصور من أرجنتينية وخلف منها ابنتين ثم انفصلا ، وتزوج من فنزويلية.
هذا الفلسطيني الأب اللبناني الأم الفنزويلي الجنسية لم يفارقه إحساسه الكامل بانتمائه وأصله ، فقد ظل حتى حزيران ١٩٦٧ عروبيا لدرجة أنه تساءل إن كان مجنونا من مجانين العروبة ؟!
" توهمت أننا سنستعيد الأرض وستعود نعيمة ديوانحي ، أمي ، إلى بيتها في فلسطين ، توهمت وما نسيت " .
بعد شعوره بالخيبة يندمج في المجتمع الفنزويلي ويغدو انسانا ناجحا ، وبعد تجاربه يكتب مذكراته بالانجليزية لا بالعربية " حتى تقرأ الأجيال التي ولدت في المنافي ولا تعرف العربية " تاريخها .
يبدو الفلسطيني منصور عزيز النفس إذ يرفض زيارة القدس ، وهو سفير ، في تركيا ، حتى لا يختم جواوه بختم دولة إسرائيل .
إن منصور البادي في الرواية يذكرنا بفلسطينيي جبرا ابراهيم جبرا الفلسطيني في رواياته العديدة ، وفلسطيني جبرا في رواياته كان على صورة جبرا نفسه : الفلسطيني المثقف اللامع المعشوق من النساء الذي يظل يحلم بالعودة إلى فلسطين والقدس مهما طال الزمن ، فهل خرج منصور البادي في رواية أنعام كجه جي من معطف روايات جبرا أم أننا يمكن أن نعثر في الواقع على شبيه به ؟
في مراسلاتي مع الكاتبة أوضحت لي أنها استمدت شخصية منصور من شخصية فلسطينية حقيقية ما زالت على قيد الحياة وما زالت تقيم في ( كراكاس ) .
إن البحث عن واقعية شخصية منصور قد يعيدنا أيضا إلى شخصية تاجي عبد المجيد وإلى تاريخ الصحافة في العراق وإلى مجلة " الرحاب " والبحث عن صاحبتها ومدى توافقها مع الشخصية الروائية ، وليس غريبا أن يخمن بعض القراء شخصية تاجي في الواقع . حقا إن التطابق قد لا يكون كاملا وأن يد الروائية ومخيلتها لهما دور كبير في رسم ملامح الشخصية الروائية ، ولكن ما لا يستطيع المرء تجاهله هو الأصول الواقعية لكل من منصور البادي وتاجي عبد المجيد ، والرواية عموما لا تخلو من ذكر رموز سياسية عراقية بأسمائها الحقيقية ، وإن جنحت في قسم منها إلى التلميح لا إلى التصريح حين كتبت عن حقبة حكم صدام حسين .
الهوامش :
1 - صدرت رواية "لاجئة " في العام 1952 وغالبا ما أشير إليها ، ونادرا ما درست دراسة مفصلة ، وهي مذكرات مصوغة بقالب روائي كما كتب في التعريف بها .
2 - حول رواية حليم بركات وبطلها الفلسطيني الأستاذ الجامعي المحبط أنظر جميل كتاني " دراسات وأبحاث في الرواية العربية المعاصرة " ، 2014 دار الهدى ، ص 120 - 147 وفيها اتكأ على الدراسات السابقة للرواية وتوقف أمام شخصية الفلسطيني .
3 - حول رواية " عرس فلسطيني " انظر شمعون بلاص " الأدب العربي في ظل الحرب 1948 - 1973 " ترجمة زكي درويش ، حيفا 1984 . ص61 وما بعدها.
4 - مجلة " الجديد " لندن عدد 60 كانون الأول ، وانظر بلاص ، ص 93 وما بعدها ، وعادل الأسطة "جدل الذات والآخر : لليهود في الرواية " رام الله ،2012 .
5 - يعد كتاب كنفاني كتابا رائدا في مجاله ، وهو كتاب تأسيسي اعتمد عليه الدارسون اللاحقون ، وقد صدر في العام 1966 .
6 - " عائد إلى حيفا " 1969 وحول صورة اليهود فيها هناك دراسات ومقالات أكثر من أن تعد . على سبيل المثال انظر الأسطة "جدل الذات والآخر : صورة اليهود في " عائد إلى حيفا " على ضوء صورتهم في رواية ( هرتسل ) "، أرض قديمة - جديدة " .
7 - نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة ، دار الفارابي ، بيروت (ط 2/2014 وصدرت الطبعة الأولى في 1970 ).
8 - حول اليهود في المسرحية كتب بلاص في كتابه ( ص 76 ) وعادل الاسطة في كتابه " اليهود في الأدب الفلسطيني " القدس 1992 ( ص 120 - 125 )
9 - صدر كتاب بلاص بالعربية ، من ترجمة زكي درويش ، عن دار المشرق في 1984 ، وهو في الأصل رسالة دكتوراه بالفرنسية ونقل إلى العبرية وعن الأخيرة نقل إلى العربية.
10 - انظر : بلاص نحوي ص 61 وما بعدها .
11 - مثلا روايات أفنان القاسم في الأدب الفلسطيني وروايتي واسيني الأعرج " البيت الأندلسي " و " سوناتا لأشباح القدس " وقد تتبعت صورة اليهودي فيهما في زاويتي في جريدة الأيام الفلسطينية.
12 - صدرت رواية " الفلسطيني الطيب " في بيروت عن دار ابن خلدون في العام 1979 ، ولم تتم لها مراجعات نقدية لافتة فيما أعرف ، وهي أشبه بسيرة روائية لكاتبها .
13 - لعنة الفلسطيني ، وقد صدرت في عمان في 2015 .
14 - احتفل الفلسطينيون بهذه الرواية ، فأعادوا طباعتها في الأرض المحتلة حال صدورها . وحول الرواية انظر شمعون بلاص ص 61 وما بعدها .
15 - حيدر حيدر ، وذكر في روايته أسماء حقيقية لخلية فدائية فلسطينية أبعدت إلى الأردن ، وكان فلسطيني متعاون اعترف على الخلية الفدائية .
16 - حليم بركات " عودة الطائر إلى البحر " انظر هامش 2 .
17 - أنجزت عن روايات الياس خوري وصورة اليهود فيها العديد من الدراسات ، وحتى اللحظة لم تكتب دراسة مفصلة فيها عن صورة الفلسطيني . انظر كتابي " اليهود في الرواية العربية " وكتابي " أسئلة الرواية العربية " الصادر عن دار الآداب في بيروت 2018 .
18 - الطنطورية لرضوى عاشور ، وقد صدرت في 2011 عن دار الشروق المصرية في القاهرة .
19 - صدرت النبيذة في بيروت في العام 2018 عن دار الجديد .
20 - صدرت رواية ممدوح عدوان في العام 2000 في بيروت عن منشورات رياض الريس ، وحول صورة اليهود فيها ومرايا الذات والآخر أنظر كتابي " اليهود في الرواية العربية " .
21 - جنى فواز الحسن " طابق 99 " وقد صدرت في العام 2014 في بيروت عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف .
22 - ثلاثية أحلام مستغانمي حازت على شهرة واسعة وأنجزت عنها كتب ورسائل علمية ، وتلفت شخصية زياد الخليل الفلسطيني فيها النظر .
23 - صدرت الطبعة الأولى لرواية واسيني الأعرج " سوناتا لأشباح القدس " عن دار الآداب في بيروت في العام 2009 .
24 - رواية أمجد ناصر " حيث لا تسقط الأمطار " وقد صدرت في بيروت
25 - صدرت رواية فواز حداد " المترجم الخائن " عن منشورات رياض الريس في بيروت في العام 2008 وحول صورة الفلسطيني فيها أنظر مقالتي في جريدة الايام الفلسطينية بتاريخ 12 / 1/ 2020 وقد توسعت فيه على صفحتي في الفيسبوك .
26 - صدرت الطبعة الأولى من " سيقان ملتوية " في العام 2008 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر . وصورة الفلسطيني فيها موضع دراسة في مقال قد ينشر في جريدة الأيام الفلسطينية 19 / 1 / 2020 .
27 - صدرت رواية ناصر عراق " العاطل " في القاهرة في العام 2011 عن الدار المصرية اللبنانية .حول الرواية انظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية 26 / 2 / 2012 .
28 - انظر هامش 19 . وانظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية 17 / 11 /2019 .
الجمعة والسبت ٢٧ و ٢٨ كانون الأول ٢٠١٩