«وميض الكلام» هو عنوان المجموعة الشعرية الخامسة التي تصدر للشاعر محمّد الصّالح الغريسي. ومن بدائع الصدف الإبداعية أن تعقب هذه المجموعة سابقة لها بعنوان «تحت رماد الصّمت» ليومض الكلام من جديد ويلعلع شعرا وإبداعا ويفعم الصّمت بالحياة لأنّ الكلمة أساس الحياة وفي البدء كان الكلمة والكلمة قصيدة لا تنتهي يتوق من خلالها الإنسان إلى البحث عن قيم الحق والجمال والحريّة وهذا ما تفطّن إليه منذ غابر الأزمان فضمّن هذا البحث في ملاحم شعريّة كثيرة أقدمها وأشهرها ملحمة جلجامش ثمّ ملحمتا الالياذة والأوديسه للشاعر الاغريقي هوميروس وملحمة «الإنياذة» للشاعر اللاتيني فيرجيليوس إلى غير ذلك من الملاحم الهندية والصينية والفارسيّة...
وتحتوي هذه المجموعة الجديدة على أربعة وعشرين نصّا شعريا تجعلها تتميز عن سابقاتها لأنها تنتمي إلى قصيدة النثر أو الشعر النثري خلافا للأربعة السالفة التي جمعت بين الشعر العمودي الكلاسيكي وبين قصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ اللّذين برع فيهما الشاعر إلى حدّ لا يستهان به وأنتج من خلالهما نصوصا شعرية تتميّز بالمتانة وحسن الصياغة وجمال المعنى.
وبالتثبّت السّريع في تواريخ هذه النّصوص نكتشف أنّ الشاعر كان يكتب القصائد العمودية أو قصائد التفعيلة قبل هذه النصوص وبعدها وكذلك في نفس الفترة ممّا يجعلنا نستنتج أنّ هذه النصوص لا تمثّل مرحلة كتابية خَلُصَ إليها الشاعر وانتهى به المطاف عندها بعد تجريب في الكتابة الشعريّة يماثل الخط التاريخي لبروز مختلف هذه المدارس الشعريّة على مدى المسيرة التي قطعها الشعر العربي منذ الجاهلية إلى مختلف مدارس الشعر المعاصر...
إن محمّد الصالح الغريسي شاعر مبدع جاءه الشعر على كبر فقد نظم أولى قصائده في الخامسة والأربعين من عمره ليمثل ذلك النص بداية رحلة شعريّة طويلة ومضنية فاقت العقدين من الزّمن وسيطر فيها الشعر بمختلف اتجاهاته على حياته وأعطى معنى جديدا لوجودها إذ أصبح يرى الحياة من خلال الشعر ويعالج القضايا الرّاهنة أو الأزلية من خلال منظور شعري إبداعي بحت. ولم يتجسّم ذلك عبر الكتابة الشعرية فحسب بل تجاوزه ليحيط بالعملية الشعرية من كل الزوايا والاختصاصات فكتب مجموعة من عشرات القراءات النقدية يهتم أكثر من ثلثيها بالنصوص الشعرية لشعراء معاصرين من المغرب إلى المشرق ونشر ذلك على مختلف المواقع الالكترونية، كما أنّه انخرط في تجربة إبداعية أخرى تلتصق بالشعر وتسعى إلى إعادة كتابة عشرات النصوص المكتوبة بالفرنسية والانقليزية لشعراء غربيين أو لشعراء عرب يكتبون بتينك اللغتين من خلال تعريبها وصياغتها مجدّدا في نصوص شعرية عربية موزونة أحيانا أو نثرية في أحيان أخرى.
ولعلّ لتجربة الترجمة هذه أثرا في ميله إلى كتابة نصوص شعريّة نثريّة بعد أن أنتج قصائد عربية لأمثال طاغور وريمبو وإدقار بو وغيرهم من المشاهير أو من الأقلّ شهرة لم تعقهم عن إبداع نصوص جيّدة تستحق الاهتمام بها وتعريبها...
ولنا أن نتساءل هنا هل أثّر الشكل على المضمون في نصوص هذه المجموعة وهل تغيّرت المواضيع تبعا لتغيّر تقنيات الكتابة؟
إنّ معظم الأغراض المتناولة فيها تدور حول المرأة والحبّ والشعر والطفولة والحياة والموت ودوران عجلة الزّمن بسرعة فائقة. وقد تناول الشاعر معظم هذه المواضيع في قصائده العمودية والحرّة لكنّ طريقة التناول هي التي تختلف فنجده يُغرق في التساؤلات ويُمعن في الأسئلة والبحث إزاء مواضيع ذهنيّة تحاول أن تحدّد منزلة الإنسان في الكون وتترجم عن توقه إلى إيجاد أجوبة لمختلف المسائل الذهنية والفلسفية التي أرّقته منذ العصور البالية. ولعلّ هذا المنزع الذّهني يتلاءم مع هذه النصوص المنثورة لتنفذ الأسئلة مباشرة إلى الذّهن قبل أن تسكر بنشوة الأحاسيس واهتزازات المشاعر. ولهذا السبب نجد موضوعا عزيزا على الشاعر يكاد يختفي من هذه المجموعة وهو موضوع الوطن والانتماء إلى العروبة وما يتطلبانه من حماسة واستنهاض للهمم ودغدغة للمشاعر تزيد في إلهابها تفعيلات الشعر العروضي العمودي أو الحرّ وإيقاعات البحور الخليلية وهو ما تجنّبه الشاعر في هذه النصوص التي عمدت إلى استخدام مفردات يسيرة الفهم ولغة شفّافة تحمل في سلاستها عمق تلك الأسئلة الكونية التي طبعت كتابته بطابع إنساني رحب يلامس اهتمامات البشر ونزعاتهم وحيرتهم الذهنية حول قضايا لم تنفك الإنسانية تبحث لها عن حلول مهما اختلف المكان والزّمان. إنّ الإيغال في مخاطبة العواطف قد يعوق الذهن عن استيعاب أدقّ المسائل وهذا ما سعت هذه النصوص إلى تحقيقه.
إنّ هذه المجموعة من النصوص الشعرية النثرية لا تمثّل مرحلة كتابيّة بلغها الشاعر بعد أن مارس غيرها لأن محمّد الصالح الغريسي متمسّك بكتابة القصيد بأنواعه العمودية والحرّة والنثرية، والطريقة المعتمدة هي التي تفرض نفسها عليه حسب طبيعة الموضوع وحسب اللحظة الإبداعية التي تأتلق في ذاته الكتابية، وهي وإن لم تكن مرحلة واضحة الحدود وبارزة المعالم في مسيرته الإبداعية فإنها تمثل مقطعا طريفا من سمفونية عشق شعري
كبير أو مشهدا هامّا من فسيفساء شعرية متعدّدة الأشكال والألوان والأساليب ما فتئ الشاعر يثبّتها بكلّ تؤدة وتمعّن على جدار الزّمن.
حمام الأنف
06 جوان 2015
وتحتوي هذه المجموعة الجديدة على أربعة وعشرين نصّا شعريا تجعلها تتميز عن سابقاتها لأنها تنتمي إلى قصيدة النثر أو الشعر النثري خلافا للأربعة السالفة التي جمعت بين الشعر العمودي الكلاسيكي وبين قصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ اللّذين برع فيهما الشاعر إلى حدّ لا يستهان به وأنتج من خلالهما نصوصا شعرية تتميّز بالمتانة وحسن الصياغة وجمال المعنى.
وبالتثبّت السّريع في تواريخ هذه النّصوص نكتشف أنّ الشاعر كان يكتب القصائد العمودية أو قصائد التفعيلة قبل هذه النصوص وبعدها وكذلك في نفس الفترة ممّا يجعلنا نستنتج أنّ هذه النصوص لا تمثّل مرحلة كتابية خَلُصَ إليها الشاعر وانتهى به المطاف عندها بعد تجريب في الكتابة الشعريّة يماثل الخط التاريخي لبروز مختلف هذه المدارس الشعريّة على مدى المسيرة التي قطعها الشعر العربي منذ الجاهلية إلى مختلف مدارس الشعر المعاصر...
إن محمّد الصالح الغريسي شاعر مبدع جاءه الشعر على كبر فقد نظم أولى قصائده في الخامسة والأربعين من عمره ليمثل ذلك النص بداية رحلة شعريّة طويلة ومضنية فاقت العقدين من الزّمن وسيطر فيها الشعر بمختلف اتجاهاته على حياته وأعطى معنى جديدا لوجودها إذ أصبح يرى الحياة من خلال الشعر ويعالج القضايا الرّاهنة أو الأزلية من خلال منظور شعري إبداعي بحت. ولم يتجسّم ذلك عبر الكتابة الشعرية فحسب بل تجاوزه ليحيط بالعملية الشعرية من كل الزوايا والاختصاصات فكتب مجموعة من عشرات القراءات النقدية يهتم أكثر من ثلثيها بالنصوص الشعرية لشعراء معاصرين من المغرب إلى المشرق ونشر ذلك على مختلف المواقع الالكترونية، كما أنّه انخرط في تجربة إبداعية أخرى تلتصق بالشعر وتسعى إلى إعادة كتابة عشرات النصوص المكتوبة بالفرنسية والانقليزية لشعراء غربيين أو لشعراء عرب يكتبون بتينك اللغتين من خلال تعريبها وصياغتها مجدّدا في نصوص شعرية عربية موزونة أحيانا أو نثرية في أحيان أخرى.
ولعلّ لتجربة الترجمة هذه أثرا في ميله إلى كتابة نصوص شعريّة نثريّة بعد أن أنتج قصائد عربية لأمثال طاغور وريمبو وإدقار بو وغيرهم من المشاهير أو من الأقلّ شهرة لم تعقهم عن إبداع نصوص جيّدة تستحق الاهتمام بها وتعريبها...
ولنا أن نتساءل هنا هل أثّر الشكل على المضمون في نصوص هذه المجموعة وهل تغيّرت المواضيع تبعا لتغيّر تقنيات الكتابة؟
إنّ معظم الأغراض المتناولة فيها تدور حول المرأة والحبّ والشعر والطفولة والحياة والموت ودوران عجلة الزّمن بسرعة فائقة. وقد تناول الشاعر معظم هذه المواضيع في قصائده العمودية والحرّة لكنّ طريقة التناول هي التي تختلف فنجده يُغرق في التساؤلات ويُمعن في الأسئلة والبحث إزاء مواضيع ذهنيّة تحاول أن تحدّد منزلة الإنسان في الكون وتترجم عن توقه إلى إيجاد أجوبة لمختلف المسائل الذهنية والفلسفية التي أرّقته منذ العصور البالية. ولعلّ هذا المنزع الذّهني يتلاءم مع هذه النصوص المنثورة لتنفذ الأسئلة مباشرة إلى الذّهن قبل أن تسكر بنشوة الأحاسيس واهتزازات المشاعر. ولهذا السبب نجد موضوعا عزيزا على الشاعر يكاد يختفي من هذه المجموعة وهو موضوع الوطن والانتماء إلى العروبة وما يتطلبانه من حماسة واستنهاض للهمم ودغدغة للمشاعر تزيد في إلهابها تفعيلات الشعر العروضي العمودي أو الحرّ وإيقاعات البحور الخليلية وهو ما تجنّبه الشاعر في هذه النصوص التي عمدت إلى استخدام مفردات يسيرة الفهم ولغة شفّافة تحمل في سلاستها عمق تلك الأسئلة الكونية التي طبعت كتابته بطابع إنساني رحب يلامس اهتمامات البشر ونزعاتهم وحيرتهم الذهنية حول قضايا لم تنفك الإنسانية تبحث لها عن حلول مهما اختلف المكان والزّمان. إنّ الإيغال في مخاطبة العواطف قد يعوق الذهن عن استيعاب أدقّ المسائل وهذا ما سعت هذه النصوص إلى تحقيقه.
إنّ هذه المجموعة من النصوص الشعرية النثرية لا تمثّل مرحلة كتابيّة بلغها الشاعر بعد أن مارس غيرها لأن محمّد الصالح الغريسي متمسّك بكتابة القصيد بأنواعه العمودية والحرّة والنثرية، والطريقة المعتمدة هي التي تفرض نفسها عليه حسب طبيعة الموضوع وحسب اللحظة الإبداعية التي تأتلق في ذاته الكتابية، وهي وإن لم تكن مرحلة واضحة الحدود وبارزة المعالم في مسيرته الإبداعية فإنها تمثل مقطعا طريفا من سمفونية عشق شعري
كبير أو مشهدا هامّا من فسيفساء شعرية متعدّدة الأشكال والألوان والأساليب ما فتئ الشاعر يثبّتها بكلّ تؤدة وتمعّن على جدار الزّمن.
حمام الأنف
06 جوان 2015