أ. د. عادل الأسطة - العنوان الذي ضللني أربعين عاما: كتابة الواقع في لحظة جريانه "مفلح الغساني"

في العام ١٩٨١ أعادت دار الصوت في الناصرة طباعة رواية نجيب نصار " مفلح الغساني " بتقديم الكاتب حنا أبو حنا وتحقيقه ، وكنت اعتمادا على عنوانها أظنها رواية تاريخية ، ولأنني لا أحب قراءة هذا النوع من الروايات ، لاعتقادي أنها جافة ولا حياة فيها ولأنه يمكن لكاتبها أن يقول رأيه في الحقبة التي يكتب عنها ، أو في الشخصية التي يقدمها ، بمقال يغنينا عن قراءة مائتي صفحة أو أكثر ، لم أقتن الرواية ولم أقرأها ، وخسرت بذلك خسارة كبرى . وما عزز لدي أن الرواية تاريخية لا تنتمي إلى عصرها أن دارسي فن الرواية في الأدب الفلسطيني لم يدرسوها وإن أتى قسم منهم على ذكرها .
عندما أخبرني الناشر فؤاد العكليك أنه يعد للنشر رواية ثانية لنصار عنوانها " أسامة العدناني " وأنه يبحث عمن يدقق مخطوطتها التي استخرجها سليم تماري من مجلة نصار " الكرمل " أبديت استعدادي لإنجاز هذه المهمة ، فقرأت الرواية ودققتها وحققتها ولاحظت أنها تتناص مع رواية " مفلح الغساني " ، إذ يحيل نصار في روايته الثانية إليها ، فشعرت بالندم وأخذت أبحث عنها حتى حصلت عليها بعد شقاء .
قراءة " مفلح الغساني " جعلتني أكتشف أن دراساتي التي تناولت فيها موضوعات اليهود والإنجليز والأتراك كان يمكن أن تكون أثرى لو درست الرواية المذكورة التي لا تخلو من تصور للألمان أيضا ، وهو موضوع أفكر في الكتابة فيه أيضا " مع أنني كتبت مقالة عنوانها " صورة الألمان في بلاد العربان " متناولا رواية عيسى لوباني " شمس وقمر " .
قبل بضع سنوات اتصلت بي ابنة خالتي تسألني عن نصوص أدبية فلسطينية ورد فيها كتابة عن الأتراك ، والسبب أن ابنتها كانت تعد الدكتوراه في تركيا وسألها مشرفها عن النصوص الفلسطينية الوارد ذكر الأتراك فيها . ( كنت أتيت على هذا في أحد دفاتري في هذه الزاوية ) .
ما سبق ربما كان فيه ضرب من التكرار ، ولكن في الإعادة تذكير وإفادة ، وما دفعني لأن أكتب مجددا هو أنني في الأسبوع الأخير قرأت أيضا رواية الأكاديمي سميح مسعود " الكرملي "( ٢٠٢١ ) التي تتخذ من نصار ومجلته موضوعا لها ، وقد صدرها بالإهداء الآتي :
" حيفا جنة الخلد وأكثر " .
الإهداء هذا أعادني إلى رأي نصار في حيفا وأهلها وتفضيله أهل الناصرة عليهم :
" أصرت هيئة الحزب على أسامة أن يبقى إلى جانبها بالناصرة بضعة أسابيع ، ريثما تنظم أمور الحزب وتستأجر ناديه .... والحق يقال أن الإقامة طابت له في الناصرة ، لأنه رأى فيها من مكارم أخلاق الناصريين ؛ شيوخا وشبابا وسلامة نياتهم ، ما جعله يأمل أن فرع الناصرة سيكون أقوى الفروع وأنشطها في العمل ، ولم يكن يدور في خلده أن الشخصيات والأنانية في حيفا ستتغلب على كل شعور وطني ، وتعمل على تهديم الحزب وقتل الفكرة قبل نموها وتأصلها في النفوس " .
قراءة الروايات الثلاثة معا في الفترة نفسها مع وجود فترة زمنية تربو على التسعين عاما بين روايتي نصار ورواية مسعود ، عن الفترة نفسها والبيئة نفسها والشخصية عينها ، كان دافعا للتفكير ثانية في مقولة نظرية التلقي " إن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين " ؛ المقولة التي حورت فيها لتصبح كالآتي :
" إن كتابة كاتب لموضوع واحد في فترتين مختلفتين تؤدي إلى كتابتين مختلفتين " أو " إن كتابة كاتبين عاشا في فترتين مختلفتين عن فترة زمنية أو عن بيئة واحدة أو عن شخصية واحدة تؤدي إلى كتابتين مختلفتين " .
بل وكانت قراءة الروايات الثلاثة معا داعما لفكرة أدافع عنها تتمثل في أن كتابة كاتب عن بيئة لم يقم فيها أو عن فترة زمنية لم يكن شاهدا عليها غالبا ما توقعه في مزالق وأخطاء وتجعله يسقط معطيات عصره على تلك الحقبة أو تلك الشخصية التي يكتب عنها ، وقد أتيت في بعض كتاباتي التي عالجت فيها مثل تلك الأعمال بشواهد تعزز رأيي . ( ما كتبته عن رواية القدس بين كتاب عاشوا في المدينة مثل عارف الحسيني وكتاب لم يقيموا فيها ولم يكونوا قبل كتابتهم زاروها مثل الجزائري واسيني الأعرج والفلسطيني حسن حميد ، وما كتبته أيضا تحت عنوان " الروائي والتجربة : تمثل المكان والزمان ٢٠١٧ )
ماذا حين ننظر مثلا في روايتي نصار ورواية مسعود " الكرملي " عن نصار ؟
ما الصورة التي يقدمها نصار لنفسه ولبيئته وزمنه ، وما الصورة التي يقدمها مسعود لنصار وبيئته وزمنه ؟
ربما تتطلب الإجابة عن هذا السؤال كتابة مقالات عديدة لا يتسع لها المقام ، ولكن المرء يلاحظ الفارق الكبير بين ما كتبه كلا الكاتبين من حيث اللغة ودقة التفاصيل وتعدد الشخصيات وصلة نجيب نصار بالأتراك والإنجليز وقصة اختفائه وسجنه والحكم عليه بالإعدام وموقف أهل الناصرة منه وقصة تأليفه روايتيه التاريخيتين ، ولا يقرأ عن رشيد الذي أفاض مسعود في الكتابة عنه إلا بضعة أسطر . وإذا أردت أن تقرأ عن تسلل مفردات تركية إلى العربية فستلحظ تعددها في روايتي نصار وندرتها في رواية مسعود .
وتبقى الكتابة في الموضوع مشرعة .
الخميس والجمعة ٣٠ و٣١ / ١٢ / ٢٠٢١
والسبت ١ / ١/ ٢٠٢٢




https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/3013714258882123

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...