(من كتاب في مهب المعركة)
إن بعض القيم لا تباع و لا تشترى، هكذا يقول مالك بن نبي و هو يتحدث عن الحضارة لا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع منها مثقالا واحدا، و لا يستطيع زائر قدم أوةراق اعتماده أن يعطي من محفظته أو من حقيبته الدبلوماسية درة واحدة منها، كان حلم مالك بن نبي أن يعيش الشباب العربي بصفة عامة و الشباب الجزائري بصفة خاصة واقع مختلف تقف فيه الحقيقة عارية للا غبار عليها، شباب ييلك السبيل الذي نشده المثقف الحر الواعي بقضية أمته ليخلصه من الأوهام و النقد الذاتي لا يعني تغيير الأفكار حسب الفصول و النقد الذاتي لا يعني التراجع بقدر ما يعني المراجعة، ما قيمة أفكار لا تعبر عن أحلام الشعب و طموحه، شعب غارق في بحر البحث عن الخبز و الحليب و الزيت المفقود ، يبحث عن قطعة قماش يستر بها عورته و سقف يقيه البرد و ماء الأمطار
"تفاهات جزائرية" عبارات أسقطت كل الأقنعة و كشفت الوجه الحقيقي لبعض الناس، الذين يدّعون أنهم من النخبة المثقفة أو ينتمون إلى الطبقة السياسية...، تفاهات جزائرية لست أنا قائلتها و لكن تحدث عنها مفكرٌ و فيلسوفٌ جزائري، لا يستطيع منافسته مفكر أو فيلسوف أو أديب في الجزائر، إنه مالك بن نبي المفكر المَنْسِيُّ وسط النخبة المثقفة الجزائرية، ورد هذا المقال في كتابه الذي حمل عنوان: "في مهب المعركة" ضم الكتاب مجموعة من المقالات كتبها مالك بن نبي في باريس في نهاية الأربعينات و بداية الخمسينات، نشرها في صحيفتين ناطقتين بالفرنسية و هما الشباب المسلم و الجمهورية الجزائرية، أسقط فيه الأقنعة و كشف الزيف الثقافي الجزائري ( كشخصية العالم الثالث) ، هو مقال دعا فيه مالك بن نبي هؤلاء إلى الرجوع للنفس بالنقد الذاتي، لفحص أيُّ قطعة محددة من نشاطهم الإجتماعي، كانت رسالة موجهة إلى النخبة المثقفة و النخبة السياسية في الجزائر .
يرى مالك بن نبي أن النخبة عندما تفقد موهبة النقد الذاتي على وجه الخصوص، فكأنها حققت الفشل دون أن تسعى في تفهم أسبابه ، و إنما تتمنى أن تكون قد شعرت بالفشل حين لم يكن لندائها صدى يُذْكَرُ، و يضيف بالقول: "لو أن النخبة درست هذا الفشل لاستفادت منه أكثر مِمَّا يفيدها نصف نجاح خداع، لأنها تدرك من خلال تلك الدراسة حقيقة الأمر، هذا الفشل - كما يقول هو- يتضمن جانبا سيكولوجيا و جنبا فنيا، أي النقص في التنظيم و في التخطيط و في توجيه العمل المشترك، و هذه العناصر تعتبر عمود القضية، ليس محليا فقط ، و إنما بالنسبة لحركات الإصلاح في العالم الإسلامي كله، هذه الحركات التي فشلت كلها، لأنها كما قال لم تدرس أرضها قبل الشروع في العمل، فكانت سببا في فقدان الجمهور الثقة و الأمل، و يرجع مالك بن نبي هذه التفاهات إلى الموقف الإجتماعي السلبي ، الذي لا يتسم بالإرادة المتصلة و الجهد المتواصل، و إذا ما أخضع هذا الجهد إلى التحليل فهو في نظره متفككُ الأجزاء كأنه مركب على صورة الخط المنقط، الخط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئا.
( صناعة الكتاب في الجزائر تحوّلت إلى بزنس business)
و المتأمل في موقف مالك بن نبي و رؤاه الفلسفية التحليلية التي شخص فيها واقع المجتمع (الثقافي) يقف على حقيقة أن الذين يتحدث عنهم هم في الحقيقة باعة السياسة وهم باعة الثقافة و هم باعة الإبداع وهم...وهم...وهم..، بل هم باعة الحضارة في كل صورها و أشكالها، حوّلوا مكاتبهم و دور النشر إلى دكاكين للتجارة، و لو بحثت عن الرصيد الفكري لكبار الكتاب و المفكرين تجده يباع على الأرض في الأماكن التي خصصت لبيع الكتب القديمة ( السويقة كعيّنة بمدينة قسنطينة شرق الجزائر )، لقد تحولت صناعة الكتاب في الجزائر على سبيل المثال إلى بزنس business ، و هم بذلك بعملون بشعار: " إن الوقت درهم" le temp c’est de l’argent، هي الأفكار الميتة التي تحدث عنها مالك بن نبي تمثل للمجتمع خطرا أشد عليه من خطر الأفكار القاتلة و قد تتمثلان الأفكار الميتة و الأفكار القاتلة في شخصية واحدة تمثل المظهرين ، لأنها تحمل الجرثومة الموروثة في كيانها ، ثم تمتص الجرثومة المستوردة و تزرعها في المجتمع.
مالك بن نبي.. "أكتب بضمير"
و لذا فمالك بن نبي يدعو النخبة في كل مجالتها ( الثقافة و الأدب و الإعلام) بأن تكتب بضمير و تقوم بعملها باحترافية و ضمير أيضا فلا تغلب كفة المال على كفة الإبداع، فلا يمكن أن يكون مجرد آلة كتابة أو آلة طباعة و دون أن يقدر للكلمات التي يكتبها أي نتيجة اجتماعية، يقول مالك بن نبي في مقاله المعنون : " أكتب بضميرك" : " إن على من يكتب واجبا إزاء الكلمات التي يكتبها"، لأن القارئ ( في الجزائر) غالبا ما يكون رجل الشعب لا رجل (النخبة)، فالكتاب سلاح يرمي إلى تحليل الأحداث، المشكل في النخبة في الجزائر كما يقول مالك بن نبي هو أنها لا تشعر بحاجة للمطالعة بعد تخرجها من الجامعة و عملها الفكري ينتهي لأسباب اجتماعية و نفسية موروثة، كما يوجد جمهور يتابع بنهم كل إنتاج ثقافي، يمارس الأفكار بقلبه و عقله معا، أي أنه ليس مجرد مستهلك سلبي، بينما لا يقرأ "المثقف" في الجزائر إلا بعقله، يقارن مالك بن نبي بين الثقافة في بلاد نهرو (الهند) و في باقي البلدان الأخرى لاسيما الجزائر، و يرى أن موضوع الفكر و الثقافة في الجزائر يستحق إعادة النظر فيه أي مناقشته و دراسته دراسة معمقة، في إطارها النفسي و الأخلاقي.
وقد قدم مالك بن نبي مثالا بشخصية ممتازة و متميزة، هو رجل الفكر و السلام غاندي الذي وجّه الهند بما أوتي من اتجاه روحي طبع بطابعه الشخصي رسالتها في العالم، كانت الهند الجديدة هي الهند القديمة لا في ظاهر الأشياء و لكن في جوهرها، هذه هي بلاد غاندي الذي بعث الروح الهندية من جديد في أذهان شبابها ، حتى بلاد الميكادو و الساموري التي استشهد بها مالك بن نبي ، البلاد التي تغلغل في نفسها الروح العسكري كافحت من أجل التخلص من سياسة الأحلاف و التسلح، فاين هي الجزائر اليوم و نحن نرى حضارة الغرب متفشية في أذهان بعض شبابنا ، هذا الشباب الذي عجز عن التلاءم مع واقعه، فهو بشبه إلى حد ما "الدون كيشوت"، أمامه "هاوية" و لا يدري أنه معرض للسقوط فيها، خلاصة القول أن مقالات مالك بن نبي و رغم أنها تناولت المشكلة الثقافية في مرحلة الإستعمار، لكنها لا تزال تحمل في طياتها نبض المشاكل و عمقها في جزائر 2022 ، لأن البطن الذي أنجب الوحش كما يقول برتولت بريشت لا يزال شديد الخصوبة.
علجية عيش بتصرف