"شريد المنازل" (2010) هي الرواية الخامسة للبناني جبور الدويهي، فقد أصدر من قبل "اعتدال الخريف" (1955) و"ريا النهر" (1998) و"عين وردة" (2002) و"مطر حزيران" (2006)، ولو لم يرشح لقائمة (بوكر) القصيرة للعام 2012 لربما ما قرأت له أو سمعت باسمه، من فضائل (بوكر) أنها تجعلنا نقرأ لروائيين عرب مختلفين لم نقرأ لهم من قبل ـ وروايته "شريد المنازل" هي الوحيدة التي لم أخصها بزاوية من زوايا "دفاتر الأيام" العام المنصرم، فلم أعثر على نسخة منها في كانون الثاني حين زرت عمان، وظل الأمر على ما هو عليه حتى حزيران 2012 حيث اقتنيت نسخة لم أقرأها إلاّ بداية هذا الشهر، وحين فرغت من قراءتها شعرت بالندم لأنني تأخرت في قراءتها.
الروايات الخمس لبوكر 2012 كانت للمصريَيْن ناصر عراق وعز الدين شكري فشير "العاطل" و"عناق عند جسر بروكلين" وللتونسي الحبيب السالمي "نساء البساتين" وللجزائري بشير مفتي "دمية النار" وللبناني ربيع جابر "دروز بلغراد" والأخيرة هي التي فازت، ولو كان الأمر عائداً لي لفوزت "شريد المنازل" بلا أدنى تفكير. عبثاً حاولت قراءة "دروز بلغراد"، وبمتعة كبيرة أقدمت على "شريد المنازل" وأنهيتها في يومين متتاليين.
كتب ناصر عراق عن مواطن مصري يعاني من أبيه يسافر إلى دبي، وأتى فشير على أستاذ تاريخ مصري أقام في أميركا ولم ترق له بلاده مصر، بل لم يرق له العرب لبؤسهم، فيما كان بطلُ الحبيب السالمي مواطناً تونسياً استقر في باريس وأخذ يزور تونس في الإجازات، وأما بشير مفتي فنقد الحكم في الجزائر وتسلط الطبقة الحاكمة، وعاد ربيع جابر إلى التاريخ، فخص روايته بالكتابة عن مواطن لبناني بسيط وجد نفسه على ظهر باخرة نيابة عن آخر، وعانى ما عانى كأنه يوسف . ث في رواية (فرانز كافكا) "المحاكمة". وسيكتب جبور الدويهي عن الحرب الأهلية اللبنانية، وهي موضوع لطالما خاض فيه الكتاب اللبنانيون، حتى أن رفيف رضا صيداوي كتب في الموضوع رسالة دكتوراه عنوانها "النظرة الروائية إلى الحرب اللبنانية 1975ـ1995" (دار الفارابي 2003)، وبعد كتابه الذي درس روايات كثيرة صدرت روايات عديدة عن الحرب اللبنانية منها رواية الياس خوري "يالو" وروايته ""سينالكول"" ورواية نجوى بركات "يا سلام" ورواية ربيع جابر "اعترافات" ورواية علوية صبح "مريم الحكايا". هل رواية جبور دويهي "شريد المنازل" هي آخر الروايات اللبنانية عن الحرب الأهلية؟ بالتأكيد لا، فرواية "سينالكول" أنجزت بعدها، وهي مرشحة هذا العام لقائمة (بوكر) الطويلة، وربما فازت بالجائزة! ربما!
شريد المنازل:
من هو شريد المنازل في رواية جبور الدويهي، الرواية التي يرويها راوٍ شبه كلي المعرفة، فأحياناً يبدو غير كليّ المعرفة؟ إنه نظام محمود العلمي الذي يقتل في الحرب الأهلية عن عمر يناهز الثالثة والعشرين. ونظام هو مسلم سني لوالده محمود بيت في الشام، وكان في 50 ق20 يذهب إلى حورا في لبنان، قرب طرابلس، وليصطاف، مثله مثل عشرات العرب الذين كان لبنان مصيفاً لهم. وكان سكان حورا ـ المسيحيون ـ يؤجرون المصطافين بيوتهم المعدّة لذلك، دون أن ينظروا في هويتهم الدينية، فقد كان الوطن للجميع، ولم يكن سؤال الهوية الديني يبرز كثيراً، كما أخذ يبرز منذ حادثة عين الرمانة التي فجرت الحرب الأهلية.
يرعى والد نظام محمود العلمي وزوجته صباح ابنهما نظاماً وأخته ميسلون، ولكنهما يتركانه ينفق وقتاً طويلاً في بستان توما ورخيمة مع هذين اللذين يفرحان بالطفل، فهما لا ينجبان الأطفال، وهكذا يغدوان له والدين آخرين، ومع انشغال محمود العلمي بالتجارة والتهريب والسفر والعودة إلى حمص يولى توما ورخيمة نظاماً عنايتهما، ويربيانه كما لو أنه ولدهما، ومع مرور الأيام يحرصان عليه كل الحرص حتى أنهما لا يمانعان في أن ينفقا عليه بسعة وبذخ، بل ويرضخان لمطالبه، فحين يقرر الإقامة في بيروت لدراسة الحقوق لا يمانعان شرط أن يتعمد، ويوافق هو على ذلك، ومع بداية إقامته في بيروت تبدأ الحرب الأهلية التي يقتل فيها المواطن بناء على ديانته.
"هل أنت مسلم أم مسيحي؟" سيسأل نظام هذا السؤال مراراً، وسيحتار أهله أيضاً في أمره، فأخواه التوأمان؛ خالد وبلال ـ ولم ينشأ معهما كما نشأ مع أخته ميسلون ـ حين يموت أبوهما محمود، لا يدرجان اسم أخيهما الكبير في بيان النعوة، ويفكران في حرمانه من الميراث، لظنهما أنه ما عاد مسلماً، فقد تعمّد، حين يعود إليهما ميتاً، حيث تأخذ جثته أخته ميسلون ليدفن في طرابلس، إلى جانب أبيه، يريدان إنجاز الدفن بأسرع ما يكون، فالقتيل عبء عليهما، إذ كيف سيدفنان مسيحياً في مقبرة المسلمين، وتختلف أختهما ميسلون عنهما، فهو شقيقها الذي نشأت معه قبل أن يكون مسلماً أو مسيحياً. والطريف أنها، بعد أن يصلي عليه أخواها وآخرون، تتفق مع كاسترو الذي أحبها ولم يتزوجها على أن يقل جثمانه بسيارة الإسعاف لتدفنه في حورا ببستان والده الذي تبناه: توما، هذا الذي لم ير في نظام عبئاً عليه، كما رأى أخوا نظام نظاماً عبئاً عليهما. وربما تذكر المرء وهو يقرأ الرواية حكاية سيدنا سليمان مع المرأتين؛ الأم التي أنجبت والأم التي ربت، وربما تذكر المرء مسرحية (برتولد بريخت) "دائرة الطباشير القوقازية" ورواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" ورواية ربيع جابر "اعترافات".
سيتكرر سؤال الهوية في "شريد المنازل" مراراً، وسيسأله غير واحد. أخته وأخواه والكتائبي جورج الذي كاد يقتله أيضاً، وسيكون الختان سؤال هوية أيضاً، فنظام طهر في طفولته، وظل يحمل آية الكرسي وايقونة "حبل بلاذس"، فهل هو مسلم أم مسيحي؟ (ص57/ 58/ 61/ 81/ 103/ 152ـ154/ 239/ 242/ 244/ 251)، ولقد صار عدواً مستباحاً، لا حدود له، وهذه عبارة دالة، فهو الذي انتمى إلى الجبهة الديمقراطية وتدرب في مخيم تل الزعتر قبل تدميره قتل، للامبالاته، من القوى الوطنية.
ولنظام غير اسم: نظام محمود العلمي ونانو وغافروش (105)، وسيقيم في شقة (أولغا) الروسية، الشقة التي تغدو سكناً شيوعياً لخلية فرج الله الحلو الشيوعية، حيث يقيم فيها المسلم والمسيحي واليهودي و.. و.. وحين يأخذ جورج الكتائبي منه هويته التي كانت خانة الدين فيها فارغة، حيث تعمّد توما إسقاط ديانة نظام، سيخرج له والد الرسامة جنان سالم هوية باسم جوزف صافي، وسيقتل عليها اعتقاداً من الآخرين أنه يتجسس لصالح القوات اللبنانية.
كم من منزل أقام فيه نظام الذي قتل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، حتى يستحق لقب "شريد" المنازل؟
من الشام حيث أهل أبيه إلى بيت أبيه في الميناء في طرابلس إلى شقة الاصطياف في حورا إلى بيت توما ورخيمة إلى فندق زهرة الشمال في بيروت إلى شقة (أولغا) شقة المنارة إلى شقة/ محترف جنان سالم، والعودة إلى حورا ثم مغادرتها خوفاً من القتل لأن أهلها يعرفون أنه مسلم ولادة، إلى بيروت حيث يقتل هناك.
"شريد المنازل" إلى جانب "مريم الحكايا" و"سينالكول" و"يا سلام" روايات يرى فيها دارس الأدب دراسة اجتماعية مجالاً خصباً له، ويقرؤها قارئ الرواية الاجتماعية بمتعة، فكيف إذا كان القارئ شريد منازل أيضاً؟ "شريد المنازل" رواية تستحق أن تقرأ!!
أ. د. عادل الأسطة
2013-01-13
الروايات الخمس لبوكر 2012 كانت للمصريَيْن ناصر عراق وعز الدين شكري فشير "العاطل" و"عناق عند جسر بروكلين" وللتونسي الحبيب السالمي "نساء البساتين" وللجزائري بشير مفتي "دمية النار" وللبناني ربيع جابر "دروز بلغراد" والأخيرة هي التي فازت، ولو كان الأمر عائداً لي لفوزت "شريد المنازل" بلا أدنى تفكير. عبثاً حاولت قراءة "دروز بلغراد"، وبمتعة كبيرة أقدمت على "شريد المنازل" وأنهيتها في يومين متتاليين.
كتب ناصر عراق عن مواطن مصري يعاني من أبيه يسافر إلى دبي، وأتى فشير على أستاذ تاريخ مصري أقام في أميركا ولم ترق له بلاده مصر، بل لم يرق له العرب لبؤسهم، فيما كان بطلُ الحبيب السالمي مواطناً تونسياً استقر في باريس وأخذ يزور تونس في الإجازات، وأما بشير مفتي فنقد الحكم في الجزائر وتسلط الطبقة الحاكمة، وعاد ربيع جابر إلى التاريخ، فخص روايته بالكتابة عن مواطن لبناني بسيط وجد نفسه على ظهر باخرة نيابة عن آخر، وعانى ما عانى كأنه يوسف . ث في رواية (فرانز كافكا) "المحاكمة". وسيكتب جبور الدويهي عن الحرب الأهلية اللبنانية، وهي موضوع لطالما خاض فيه الكتاب اللبنانيون، حتى أن رفيف رضا صيداوي كتب في الموضوع رسالة دكتوراه عنوانها "النظرة الروائية إلى الحرب اللبنانية 1975ـ1995" (دار الفارابي 2003)، وبعد كتابه الذي درس روايات كثيرة صدرت روايات عديدة عن الحرب اللبنانية منها رواية الياس خوري "يالو" وروايته ""سينالكول"" ورواية نجوى بركات "يا سلام" ورواية ربيع جابر "اعترافات" ورواية علوية صبح "مريم الحكايا". هل رواية جبور دويهي "شريد المنازل" هي آخر الروايات اللبنانية عن الحرب الأهلية؟ بالتأكيد لا، فرواية "سينالكول" أنجزت بعدها، وهي مرشحة هذا العام لقائمة (بوكر) الطويلة، وربما فازت بالجائزة! ربما!
شريد المنازل:
من هو شريد المنازل في رواية جبور الدويهي، الرواية التي يرويها راوٍ شبه كلي المعرفة، فأحياناً يبدو غير كليّ المعرفة؟ إنه نظام محمود العلمي الذي يقتل في الحرب الأهلية عن عمر يناهز الثالثة والعشرين. ونظام هو مسلم سني لوالده محمود بيت في الشام، وكان في 50 ق20 يذهب إلى حورا في لبنان، قرب طرابلس، وليصطاف، مثله مثل عشرات العرب الذين كان لبنان مصيفاً لهم. وكان سكان حورا ـ المسيحيون ـ يؤجرون المصطافين بيوتهم المعدّة لذلك، دون أن ينظروا في هويتهم الدينية، فقد كان الوطن للجميع، ولم يكن سؤال الهوية الديني يبرز كثيراً، كما أخذ يبرز منذ حادثة عين الرمانة التي فجرت الحرب الأهلية.
يرعى والد نظام محمود العلمي وزوجته صباح ابنهما نظاماً وأخته ميسلون، ولكنهما يتركانه ينفق وقتاً طويلاً في بستان توما ورخيمة مع هذين اللذين يفرحان بالطفل، فهما لا ينجبان الأطفال، وهكذا يغدوان له والدين آخرين، ومع انشغال محمود العلمي بالتجارة والتهريب والسفر والعودة إلى حمص يولى توما ورخيمة نظاماً عنايتهما، ويربيانه كما لو أنه ولدهما، ومع مرور الأيام يحرصان عليه كل الحرص حتى أنهما لا يمانعان في أن ينفقا عليه بسعة وبذخ، بل ويرضخان لمطالبه، فحين يقرر الإقامة في بيروت لدراسة الحقوق لا يمانعان شرط أن يتعمد، ويوافق هو على ذلك، ومع بداية إقامته في بيروت تبدأ الحرب الأهلية التي يقتل فيها المواطن بناء على ديانته.
"هل أنت مسلم أم مسيحي؟" سيسأل نظام هذا السؤال مراراً، وسيحتار أهله أيضاً في أمره، فأخواه التوأمان؛ خالد وبلال ـ ولم ينشأ معهما كما نشأ مع أخته ميسلون ـ حين يموت أبوهما محمود، لا يدرجان اسم أخيهما الكبير في بيان النعوة، ويفكران في حرمانه من الميراث، لظنهما أنه ما عاد مسلماً، فقد تعمّد، حين يعود إليهما ميتاً، حيث تأخذ جثته أخته ميسلون ليدفن في طرابلس، إلى جانب أبيه، يريدان إنجاز الدفن بأسرع ما يكون، فالقتيل عبء عليهما، إذ كيف سيدفنان مسيحياً في مقبرة المسلمين، وتختلف أختهما ميسلون عنهما، فهو شقيقها الذي نشأت معه قبل أن يكون مسلماً أو مسيحياً. والطريف أنها، بعد أن يصلي عليه أخواها وآخرون، تتفق مع كاسترو الذي أحبها ولم يتزوجها على أن يقل جثمانه بسيارة الإسعاف لتدفنه في حورا ببستان والده الذي تبناه: توما، هذا الذي لم ير في نظام عبئاً عليه، كما رأى أخوا نظام نظاماً عبئاً عليهما. وربما تذكر المرء وهو يقرأ الرواية حكاية سيدنا سليمان مع المرأتين؛ الأم التي أنجبت والأم التي ربت، وربما تذكر المرء مسرحية (برتولد بريخت) "دائرة الطباشير القوقازية" ورواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" ورواية ربيع جابر "اعترافات".
سيتكرر سؤال الهوية في "شريد المنازل" مراراً، وسيسأله غير واحد. أخته وأخواه والكتائبي جورج الذي كاد يقتله أيضاً، وسيكون الختان سؤال هوية أيضاً، فنظام طهر في طفولته، وظل يحمل آية الكرسي وايقونة "حبل بلاذس"، فهل هو مسلم أم مسيحي؟ (ص57/ 58/ 61/ 81/ 103/ 152ـ154/ 239/ 242/ 244/ 251)، ولقد صار عدواً مستباحاً، لا حدود له، وهذه عبارة دالة، فهو الذي انتمى إلى الجبهة الديمقراطية وتدرب في مخيم تل الزعتر قبل تدميره قتل، للامبالاته، من القوى الوطنية.
ولنظام غير اسم: نظام محمود العلمي ونانو وغافروش (105)، وسيقيم في شقة (أولغا) الروسية، الشقة التي تغدو سكناً شيوعياً لخلية فرج الله الحلو الشيوعية، حيث يقيم فيها المسلم والمسيحي واليهودي و.. و.. وحين يأخذ جورج الكتائبي منه هويته التي كانت خانة الدين فيها فارغة، حيث تعمّد توما إسقاط ديانة نظام، سيخرج له والد الرسامة جنان سالم هوية باسم جوزف صافي، وسيقتل عليها اعتقاداً من الآخرين أنه يتجسس لصالح القوات اللبنانية.
كم من منزل أقام فيه نظام الذي قتل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، حتى يستحق لقب "شريد" المنازل؟
من الشام حيث أهل أبيه إلى بيت أبيه في الميناء في طرابلس إلى شقة الاصطياف في حورا إلى بيت توما ورخيمة إلى فندق زهرة الشمال في بيروت إلى شقة (أولغا) شقة المنارة إلى شقة/ محترف جنان سالم، والعودة إلى حورا ثم مغادرتها خوفاً من القتل لأن أهلها يعرفون أنه مسلم ولادة، إلى بيروت حيث يقتل هناك.
"شريد المنازل" إلى جانب "مريم الحكايا" و"سينالكول" و"يا سلام" روايات يرى فيها دارس الأدب دراسة اجتماعية مجالاً خصباً له، ويقرؤها قارئ الرواية الاجتماعية بمتعة، فكيف إذا كان القارئ شريد منازل أيضاً؟ "شريد المنازل" رواية تستحق أن تقرأ!!
أ. د. عادل الأسطة
2013-01-13