منذ فترة وأنا أعود إلى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" (2008). أتصفح ملاحظاتي القليلة على هوامشها، وأفكر في الكتابة عما يجري في سورية هذه الأيام، ثم أتراجع. لماذا؟ أحياناً أقول هناك سوريون كُثُر أَعرَف مني بما يجري هناك، وأهلها أدرى بشعابها، على غرار المثل/ القول: أهل مكة أدرى بشعابها. وهكذا أجدني أضع الرواية جانباً. أضعها على رف مكتبتي وأنساها. أحاول أن أنساها، وأحاول أن أهرب مما يجري في الشام، بل ومما يجري في العالم العربي. هل ما تبثه قناة الجزيرة حقيقي أم أنه مبالغ فيه؟ هل قناة الجزيرة قناة إعلامية محايدة أم أنها تخضع لتوجيهات الـ(سي.آي.إيه)؟ هل قطر معنية بتحرر المواطن العربي وتحريره من حاكمه؟ لماذا إذاً لا تطرد الأميركان من أرضها؟
منذ فترة أمعن النظر في الرواية. أتركها على رف المكتبة، وقد أعود إلى دواوين محمود درويش ومظفر النواب: ماذا كان عليهما أن يفعلا بعد أن هجا كل منهما النظام السوري في حينه، نظام حافظ الأسد؟ كان عليهما أن يكتبا اعتذاريات، لكنهما كانا ذكيين، فكتبا الاعتذاريات لدمشق، وهي اعتذاريات تستحق أن تُقرأ. أنا قد لا أذهب إلى الشام، فلماذا لا أكتب عن مديح الكراهية؟ لماذا لا أخطو خطوات معين بسيسو في ديوانه "الآن، خذي جسدي كيساً من رمل"؟
أحياناً أسأل نفسي: مع مَن أنا؟ ما هو موقفي مما يجري في الشام. وأغلق فضائية الجزيرة ولا أشاهد ما تبثه. أحاول أن أشاهد الفضائية السورية وأن أصغي إلى خطابها. روايتان متناقضتان مختلفتان كلياً. كأن سقوط النظام، حسب فضائية الجزيرة، قاب قوسين أو أدنى، وكأن النظام بات إلى الأبد، حسب فضائية الشام الرسمية، مع مَن أنا حقاً؟ أمع النظام أم مع معارضيه؟
في العام 2000 شاركت في مؤتمر أدبي في الأردن، وفيه شارك أساتذة سوريون، وكنت في غرفة أقام معي فيها أستاذ سوري. وخارج قاعة المؤتمرات دار جدل بيننا حول نظام التوريث في سورية. أنا ضد التوريث، وضد تعديل الدستور حتى يتناسب مع الوارث، وزميلي يدافع عما جرى في سورية، ويقول: إن الأوضاع في سورية مختلفة، وإن بشار الأسد هو الأنسب لقيادة سورية، وسيدافع عن نظام دولته، وعن حاكمها. وفيما بعد سألتقي بسوريين كثر، وقلما تحدثنا معاً عن النظام هناك، وإذا ما تحدث واحد منهم عن بلده مدح نظامها، فهو النظام الذي يقود المقاومة ضد إسرائيل، وحجتهم أنه هو مَن يدعم حزب الله، والأخير يشكل رأس حربة المقاومة. هل سمعت، ذات نهار، كلاماً مغايراً؟
في نيسان من العام 2011 سألتقي في أحد المؤتمرات بأستاذة جامعية سورية، ولما كان ربيع الغضب العربي في أوجه، فقد وجدنا أنفسنا مسوقين إلى الحديث في الأوضاع والخوض في شؤونها. أحياناً كنت أقول: لأصغِ، لأصغِ إلى أبناء هذا البلد أو ذاك، فهم أدرى بما يجري فيه. وكنت أصغي إلى الأستاذة الجامعية السورية تتحدث. هل كنت أصدقها أم أنني كنت حذراً وأرتاب فيما تقول؛ الأستاذة السورية رَوَت أيضاً بعض النكت، ومنها نكتة حول أمنيات الحاكم العربي: أن يخفي الله الشعب والجزيرة ويوم الجمعة، حتى يظل حاكماً. هل كانت الأستاذة تؤيد المعارضة أم أنها كانت تتظاهر بأنها تؤيدها لتعرف ماذا أقول أنا؟ غير متأكد من ذلك، لكن ظاهر كلامها يقول إنها مع المعارضة. هل ذكرتني تلك الأستاذة ببطلة رواية خالد خليفة "مديح الكراهية"، فجعلتني أعود إلى الرواية لأقرأها؟
ومنذ نيسان من العام 2011 وأنا أشاهد الأخبار، الأخبار التي احتلت ليبيا أكثرها، حتى إذا ما خفتت قليلاً، تصدرت أخبار الشام المشهد. أراد القذافي أن يحرر ليبيا من الخونة والجرذان، وأن يطهرها منهم مدينة مدينة، حارة حارة، بيتاً بيتاً، زنقة زنقة، وكان أن طاردوه، منذ حاربت الملائكة معهم، مدينة مدينة وحارة حارة، وزنقة وزنقة، ولا يعرف أين هو الآن. [ذات نهار جمعة خطب إمام في المصلين في ساحة مدينة بنغازي، وكان ذلك في بدايات رمضان، وأشار إلى فتح مكة وإلى مساعدة الملائكة للمؤمنين. أنا اختلط الأمر علي وأنا أشاهد طائرات الناتو تغير على كتائب القذافي].
ولا أدري لماذا أحب الشام. أأحبها لأنني زرتها؟ أأحبها لأنني طربت لقصيدة نزار قباني في دمشق أم لأنني عشقت قصيدة مظفر النواب فيها؟:
دمشـق عـدت بـلا حـزني ولا فرحي يقودني شبح مضـنى إلــى شـبــح
ضـيعـت مـنـك طريقاً كنت أعرفـه سكران مغمضة عيني من الطفــ ح
دمشـق عــدت وقلـبي كلـــه قـــرح وأيــن كــان غريــب غـير ذي قــرح
ضاع الطريق وكان الثلج يغـمرنـي والـروح مقفـرة والليـل فــي رشــح
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
حقاً لا أدري لماذا أحب الشام! لي صديق أَحَبها لأنه درس فيها، ولأن بيوتها تذكره ببيوت نابلس. كأنه وهو في الشام، كأنه في نابلس. أنا زرت الشام مرتين وسرت في شوارعها وسوقها، وما زالت لي خالة فيها، شفاها الله من الزهايمر. أحياناً أتابع مسلسلات الشام وأستمتع وأنا أصغي إلى لغة الممثلين. هل أنا حزين لما يجري في الشام؟
في شباط من هذا العام، كتب حسن البطل مقالاً اقترح فيه على الرئيس بشار الأسد أن يغادر الحكم، لأن الزمن ليس لصالحه، وقال فيه إن بشار الأسد طبيب عيون، وأمِل أن يتمتع ببعد النظر. سأعقب على المقال: "لو استقال بشار الأسد فسيغدو الرئيس العربي المحبوب من المحيط إلى الخليج. سيغدو ذا شعبية مذهلة". تُرى كم تبلغ شعبية الرئيس السوري في العالم العربي اليوم؟ يا إلهي، أمَا كان الأفضل ألاّ يذهب الدم السوري هدراً؟
كل نشرة أخبار، هذه الأيام، نشاهد، من على فضائية الجزيرة، ما لا يسر. كل يوم نصغي إلى عدد الشهداء وعدد الجرحى، وهم يزدادون، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور في دمشق؟ وكل نهار، منذ فترة، أرى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" على رف مكتبتي. أمد يدي أتناولها، ثم أعيدها إلى الرف. وسأعود إلى ملاحظاتي التي دونتها عليها.
كتب خالد خليفة عن أحداث حماة أيام حكم الرئيس حافظ الأسد. كتب عن اللحظة الراهنة، وكان مختلفاً عن روائيين كثر قرأت نصوصهم في العام 2008، عن إبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء"، وعن فاروق وادي في "عصفور الشمس"، وعن حسن حميد في "نهر بقمصان الشتاء"، وحين أقرأ للأخير روايته "مدينة الله"، وهي عن القدس، سأتساءل: لماذا لم يكتب حسن حميد عن أوضاع الفلسطينيين في سورية؟ لماذا لم يلامس هذه المنطقة؟ ألأنه يخاف؟ وكنت أرى خالد خليفة كاتباً جريئاً شجاعاً لا يهرب من ماضيه ومن حاضره. استغرقته كتابة الرواية ثلاثة عشر عاماً، ولما طبعها في الشام صودرت ومنعت. لماذا؟ لأنه كتب عن أشياء لا تروق لسوريين كثر. لأنه كتب عن سرايا رفعت الأسد، وعن الطائفية البغيضة التي سببها حكم الطائفة. لقد قال لنا، نحن الذين نقيم خارج سورية، ما جرى هناك. أخبرنا عن عالم آخر، أبرز لنا صورة أخرى غير تلك التي كنا نشاهدها في المسلسلات، فقد كانت بعض هذه تكتب عن الشام أيام العثمانيين والانتداب الفرنسي، وكان الناس يعيشون زمن مسلسل باب الحارة، لا زمن حكم حافظ الأسد إلا قليلاً.
وأظن أن مَن يشاهد ما يجري الآن في سورية، أظن أنه سيتذكر رواية خالد خليفة، وسيعود إليها، لأنه سيرى أن الحكاية تتكرر. في أحد مقالات حسن البطل في أطراف النهار في "الأيام"، عقد مقارنة بين الأخوين: حافظ ورفعت، والأخوين: بشار وماهر، وأشار إلى دور والدة حافظ في حسم الأمر، وتساءل: كيف سيحسم الأمر إذا ما تفجر الصراع بين بشار وأخيه ماهر؟
الآن لا حديث عن خلاف بينهما، ربما لأن رأس النظام كله مطلوب. هل يتفاجأ المرء، وهو يتابع ما يجري في سورية، بما يجري؟ إن رواية "مديح الكراهية" تقدم لنا صورة سوداوية لما كان في نهاية ق20، وأظن أن تلك الصورة تقول لنا: لا تتفاجؤوا بما تشاهدون وبما يجري.
يرد في الرواية، المقطع التالي عن الزعيم العربي:
"قائد سرايا الموت كان يرفس باب مجلس الوزراء، يدخل ليخبط طاولة الجوز العتيق بيده مطالباً بحصته من البلاد، يوقع الوزراء الخائفون على أوامره دون نقاش، أدركوا أن المهابة التي يتمتعون بها هي جزء من مهابته، فتماهى بعضهم بصورته، وغادر بعضهم الآخر إلى جزر منعزلة ليكتبوا مذكراتهم ويشتموه بعد تنازلهم له عن أكثر من نصف أموال الدولة، ليجمعها في بنوك أوروبية وأميركية تواطأت معه تحت شهوة المال الغزير الذي تكدس ثمناً لقتله جماعتنا، وقصفه سجناء معزولين، وتدمير مدينة تحب أكل غزل البنات وحلاوة الجبن أكثر من الموت. كبرت أسطورة القائد الذي علق أنصاره صوره التي يبدو فيها رجلاً قوياً يحب الحياة، يبتسم رافعاً قبضته في الهواء كمحرر للقدس، وليس كرجل عصابات استباح البلاد مع ضباطه، مستأثراً بالنصيب الأكبر من كل شيء كولد مدلل يتحاشى الكل أذاه كي لا يفسد السهرة التي بدوا فيها جميعاً كرفاق درب وأصدقاء طفولة اجتمعوا كي يحتفلوا بقتلهم مدير المدرسة وسرقة كرات السلة من غرفة الرياضة، القائد أصبح رمز جماعته التي بدأت تثقل البلاد بوطأتها..." (ص278/279).
في 6/6/2008 قدمت فضائية الجزيرة برنامجاً عنوانه "أدب المقاومة"، أجرت فيه مقابلة مع المؤلف، أشار فيها – في المقابلة - إلى أنه بدأ يكتب روايته في بدايات تسعينيات ق20، وأنهاها في العام 2005، وكان هو ممن أسسوا مجلة اسمها "ألف"، أظن أن علي فرزات رسام الكاريكاتير المشهور كان من ضمن الستة. تُرى مَن نصدق: قناة الجزيرة أم التلفاز العربي السوري؟ علي فرزات وخالد خليفة أم الرواية الرسمية؟
أنا أحياناً حين أشاهد ما يجري أضع يدي على قلبي وأغلق التلفاز، وأتمنى لو أن الرئيس السوري قدم استقالته قبل ثلاث سنوات، بل أتمنى لو أنه رفض التوريث، فالتوريث علّتنا الأبدية منذ معاوية بن أبي سفيان، وليحفظ الله الشام!.
هي هجرة أخرى.. هي هجرات أخرى
في العام 1997 كتبت في "الأيام" وفي "البلاد" مقالات نقدية تحت عنوان "أدب السلم.. أدب الخيبة". جمعتها، فيما بعد، في كتاب عنوانه "أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، وأعادت مؤسسة فلسطين للثقافة في الشام إصداره (2008)، تتبعت فيه خطاب شعرائنا وروائيينا، من درويش إلى إميل حبيبي، والعنوان يشي بما قلته.
في العام 2008 سيصدر الناقد فيصل درّاج كتاباً عنوانه "الذاكرة القومية في الرواية العربية: من زمن النهضة إلى زمن السقوط"، وسأقرأه في العام 2010. إن عنوانه أيضاً يشي بما يحتويه مضمونه. وإذا كنت تناولت أدباء فلسطينيين، فقد تناول درّاج الأدباء الفلسطينيين وأدباء عرباً كثراً.
حين أنجزنا كتابينا لم يكن الربيع العربي قد بدأ، وربما لم يلتفت كلانا إلى أنه قد يبدأ، وربما كنا لامسنا الموضوع وخضنا فيه دون أن نستشرف المستقبل. ربما لم نلحظ أن الخيبة والسقوط، بعد التفاؤل والنهضة، قد يحملان في داخلهما نقيضهما. هل تركت نصوص الأدباء أثرها علينا؟
وأنا أتصفح كتاب درّاج أخذت أبحث عن رواية "مديح الكراهية"، فلعله عالجها ضمن ما عالج من روايات. ويبدو أنه لم يطلع عليها، فسنة صدورها هي سنة صدور كتابه. ربما لهذا لم يأت في كتابه عليها.. فبم انتهت الرواية؟
ساردة الرواية طالبة متدينة تغدو أميرة في جماعتها. إنها معارضة دينية للنظام البعثي، نظام حافظ الأسد. تروي الساردة قصة عائلة سورية، عائلتها، وهي عائلة تقيم في حلب، يلتحق ابنا العائلة بالجماعة الإسلامية، فيم تبقى الفتيات في المنزل، يقيم معهن شيخ أعمى هو الشيخ رضوان، ويقودهن إلى الحمام (هل من دلالة لهذا؟ ألهذا يواصل السوريون الآن ثورتهم وانتفاضتهم؟ حتى لا يوصموا بأنهم نساء يقودهن أعمى؟). وتسجن الساردة، وتنفق في السجن سنوات، وفيه تتحول من اليمين إلى اليسار، وحين تخرج من السجن تغادر الوطن وتهاجر إلى بريطانيا، لتحيا هناك متحررةً من المسؤول عن هجرتها وإقامتها في المنفى؟
الآن، ونحن نتابع الأخبار نلحظ السوريين يهاجرون إلى تركيا وإلى لبنان، وأيام حكم صدام العراق عاش أربعة ملايين عراقي في المنافي. تُرى أهذه هي فضائل النظام العربي؟ سؤال يثيره المرء ويكرر ما قاله محمود درويش: هي هجرة أخرى..
أ. د. عادل الأسطة
2011-10-02
منذ فترة أمعن النظر في الرواية. أتركها على رف المكتبة، وقد أعود إلى دواوين محمود درويش ومظفر النواب: ماذا كان عليهما أن يفعلا بعد أن هجا كل منهما النظام السوري في حينه، نظام حافظ الأسد؟ كان عليهما أن يكتبا اعتذاريات، لكنهما كانا ذكيين، فكتبا الاعتذاريات لدمشق، وهي اعتذاريات تستحق أن تُقرأ. أنا قد لا أذهب إلى الشام، فلماذا لا أكتب عن مديح الكراهية؟ لماذا لا أخطو خطوات معين بسيسو في ديوانه "الآن، خذي جسدي كيساً من رمل"؟
أحياناً أسأل نفسي: مع مَن أنا؟ ما هو موقفي مما يجري في الشام. وأغلق فضائية الجزيرة ولا أشاهد ما تبثه. أحاول أن أشاهد الفضائية السورية وأن أصغي إلى خطابها. روايتان متناقضتان مختلفتان كلياً. كأن سقوط النظام، حسب فضائية الجزيرة، قاب قوسين أو أدنى، وكأن النظام بات إلى الأبد، حسب فضائية الشام الرسمية، مع مَن أنا حقاً؟ أمع النظام أم مع معارضيه؟
في العام 2000 شاركت في مؤتمر أدبي في الأردن، وفيه شارك أساتذة سوريون، وكنت في غرفة أقام معي فيها أستاذ سوري. وخارج قاعة المؤتمرات دار جدل بيننا حول نظام التوريث في سورية. أنا ضد التوريث، وضد تعديل الدستور حتى يتناسب مع الوارث، وزميلي يدافع عما جرى في سورية، ويقول: إن الأوضاع في سورية مختلفة، وإن بشار الأسد هو الأنسب لقيادة سورية، وسيدافع عن نظام دولته، وعن حاكمها. وفيما بعد سألتقي بسوريين كثر، وقلما تحدثنا معاً عن النظام هناك، وإذا ما تحدث واحد منهم عن بلده مدح نظامها، فهو النظام الذي يقود المقاومة ضد إسرائيل، وحجتهم أنه هو مَن يدعم حزب الله، والأخير يشكل رأس حربة المقاومة. هل سمعت، ذات نهار، كلاماً مغايراً؟
في نيسان من العام 2011 سألتقي في أحد المؤتمرات بأستاذة جامعية سورية، ولما كان ربيع الغضب العربي في أوجه، فقد وجدنا أنفسنا مسوقين إلى الحديث في الأوضاع والخوض في شؤونها. أحياناً كنت أقول: لأصغِ، لأصغِ إلى أبناء هذا البلد أو ذاك، فهم أدرى بما يجري فيه. وكنت أصغي إلى الأستاذة الجامعية السورية تتحدث. هل كنت أصدقها أم أنني كنت حذراً وأرتاب فيما تقول؛ الأستاذة السورية رَوَت أيضاً بعض النكت، ومنها نكتة حول أمنيات الحاكم العربي: أن يخفي الله الشعب والجزيرة ويوم الجمعة، حتى يظل حاكماً. هل كانت الأستاذة تؤيد المعارضة أم أنها كانت تتظاهر بأنها تؤيدها لتعرف ماذا أقول أنا؟ غير متأكد من ذلك، لكن ظاهر كلامها يقول إنها مع المعارضة. هل ذكرتني تلك الأستاذة ببطلة رواية خالد خليفة "مديح الكراهية"، فجعلتني أعود إلى الرواية لأقرأها؟
ومنذ نيسان من العام 2011 وأنا أشاهد الأخبار، الأخبار التي احتلت ليبيا أكثرها، حتى إذا ما خفتت قليلاً، تصدرت أخبار الشام المشهد. أراد القذافي أن يحرر ليبيا من الخونة والجرذان، وأن يطهرها منهم مدينة مدينة، حارة حارة، بيتاً بيتاً، زنقة زنقة، وكان أن طاردوه، منذ حاربت الملائكة معهم، مدينة مدينة وحارة حارة، وزنقة وزنقة، ولا يعرف أين هو الآن. [ذات نهار جمعة خطب إمام في المصلين في ساحة مدينة بنغازي، وكان ذلك في بدايات رمضان، وأشار إلى فتح مكة وإلى مساعدة الملائكة للمؤمنين. أنا اختلط الأمر علي وأنا أشاهد طائرات الناتو تغير على كتائب القذافي].
ولا أدري لماذا أحب الشام. أأحبها لأنني زرتها؟ أأحبها لأنني طربت لقصيدة نزار قباني في دمشق أم لأنني عشقت قصيدة مظفر النواب فيها؟:
دمشـق عـدت بـلا حـزني ولا فرحي يقودني شبح مضـنى إلــى شـبــح
ضـيعـت مـنـك طريقاً كنت أعرفـه سكران مغمضة عيني من الطفــ ح
دمشـق عــدت وقلـبي كلـــه قـــرح وأيــن كــان غريــب غـير ذي قــرح
ضاع الطريق وكان الثلج يغـمرنـي والـروح مقفـرة والليـل فــي رشــح
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
حقاً لا أدري لماذا أحب الشام! لي صديق أَحَبها لأنه درس فيها، ولأن بيوتها تذكره ببيوت نابلس. كأنه وهو في الشام، كأنه في نابلس. أنا زرت الشام مرتين وسرت في شوارعها وسوقها، وما زالت لي خالة فيها، شفاها الله من الزهايمر. أحياناً أتابع مسلسلات الشام وأستمتع وأنا أصغي إلى لغة الممثلين. هل أنا حزين لما يجري في الشام؟
في شباط من هذا العام، كتب حسن البطل مقالاً اقترح فيه على الرئيس بشار الأسد أن يغادر الحكم، لأن الزمن ليس لصالحه، وقال فيه إن بشار الأسد طبيب عيون، وأمِل أن يتمتع ببعد النظر. سأعقب على المقال: "لو استقال بشار الأسد فسيغدو الرئيس العربي المحبوب من المحيط إلى الخليج. سيغدو ذا شعبية مذهلة". تُرى كم تبلغ شعبية الرئيس السوري في العالم العربي اليوم؟ يا إلهي، أمَا كان الأفضل ألاّ يذهب الدم السوري هدراً؟
كل نشرة أخبار، هذه الأيام، نشاهد، من على فضائية الجزيرة، ما لا يسر. كل يوم نصغي إلى عدد الشهداء وعدد الجرحى، وهم يزدادون، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور في دمشق؟ وكل نهار، منذ فترة، أرى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" على رف مكتبتي. أمد يدي أتناولها، ثم أعيدها إلى الرف. وسأعود إلى ملاحظاتي التي دونتها عليها.
كتب خالد خليفة عن أحداث حماة أيام حكم الرئيس حافظ الأسد. كتب عن اللحظة الراهنة، وكان مختلفاً عن روائيين كثر قرأت نصوصهم في العام 2008، عن إبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء"، وعن فاروق وادي في "عصفور الشمس"، وعن حسن حميد في "نهر بقمصان الشتاء"، وحين أقرأ للأخير روايته "مدينة الله"، وهي عن القدس، سأتساءل: لماذا لم يكتب حسن حميد عن أوضاع الفلسطينيين في سورية؟ لماذا لم يلامس هذه المنطقة؟ ألأنه يخاف؟ وكنت أرى خالد خليفة كاتباً جريئاً شجاعاً لا يهرب من ماضيه ومن حاضره. استغرقته كتابة الرواية ثلاثة عشر عاماً، ولما طبعها في الشام صودرت ومنعت. لماذا؟ لأنه كتب عن أشياء لا تروق لسوريين كثر. لأنه كتب عن سرايا رفعت الأسد، وعن الطائفية البغيضة التي سببها حكم الطائفة. لقد قال لنا، نحن الذين نقيم خارج سورية، ما جرى هناك. أخبرنا عن عالم آخر، أبرز لنا صورة أخرى غير تلك التي كنا نشاهدها في المسلسلات، فقد كانت بعض هذه تكتب عن الشام أيام العثمانيين والانتداب الفرنسي، وكان الناس يعيشون زمن مسلسل باب الحارة، لا زمن حكم حافظ الأسد إلا قليلاً.
وأظن أن مَن يشاهد ما يجري الآن في سورية، أظن أنه سيتذكر رواية خالد خليفة، وسيعود إليها، لأنه سيرى أن الحكاية تتكرر. في أحد مقالات حسن البطل في أطراف النهار في "الأيام"، عقد مقارنة بين الأخوين: حافظ ورفعت، والأخوين: بشار وماهر، وأشار إلى دور والدة حافظ في حسم الأمر، وتساءل: كيف سيحسم الأمر إذا ما تفجر الصراع بين بشار وأخيه ماهر؟
الآن لا حديث عن خلاف بينهما، ربما لأن رأس النظام كله مطلوب. هل يتفاجأ المرء، وهو يتابع ما يجري في سورية، بما يجري؟ إن رواية "مديح الكراهية" تقدم لنا صورة سوداوية لما كان في نهاية ق20، وأظن أن تلك الصورة تقول لنا: لا تتفاجؤوا بما تشاهدون وبما يجري.
يرد في الرواية، المقطع التالي عن الزعيم العربي:
"قائد سرايا الموت كان يرفس باب مجلس الوزراء، يدخل ليخبط طاولة الجوز العتيق بيده مطالباً بحصته من البلاد، يوقع الوزراء الخائفون على أوامره دون نقاش، أدركوا أن المهابة التي يتمتعون بها هي جزء من مهابته، فتماهى بعضهم بصورته، وغادر بعضهم الآخر إلى جزر منعزلة ليكتبوا مذكراتهم ويشتموه بعد تنازلهم له عن أكثر من نصف أموال الدولة، ليجمعها في بنوك أوروبية وأميركية تواطأت معه تحت شهوة المال الغزير الذي تكدس ثمناً لقتله جماعتنا، وقصفه سجناء معزولين، وتدمير مدينة تحب أكل غزل البنات وحلاوة الجبن أكثر من الموت. كبرت أسطورة القائد الذي علق أنصاره صوره التي يبدو فيها رجلاً قوياً يحب الحياة، يبتسم رافعاً قبضته في الهواء كمحرر للقدس، وليس كرجل عصابات استباح البلاد مع ضباطه، مستأثراً بالنصيب الأكبر من كل شيء كولد مدلل يتحاشى الكل أذاه كي لا يفسد السهرة التي بدوا فيها جميعاً كرفاق درب وأصدقاء طفولة اجتمعوا كي يحتفلوا بقتلهم مدير المدرسة وسرقة كرات السلة من غرفة الرياضة، القائد أصبح رمز جماعته التي بدأت تثقل البلاد بوطأتها..." (ص278/279).
في 6/6/2008 قدمت فضائية الجزيرة برنامجاً عنوانه "أدب المقاومة"، أجرت فيه مقابلة مع المؤلف، أشار فيها – في المقابلة - إلى أنه بدأ يكتب روايته في بدايات تسعينيات ق20، وأنهاها في العام 2005، وكان هو ممن أسسوا مجلة اسمها "ألف"، أظن أن علي فرزات رسام الكاريكاتير المشهور كان من ضمن الستة. تُرى مَن نصدق: قناة الجزيرة أم التلفاز العربي السوري؟ علي فرزات وخالد خليفة أم الرواية الرسمية؟
أنا أحياناً حين أشاهد ما يجري أضع يدي على قلبي وأغلق التلفاز، وأتمنى لو أن الرئيس السوري قدم استقالته قبل ثلاث سنوات، بل أتمنى لو أنه رفض التوريث، فالتوريث علّتنا الأبدية منذ معاوية بن أبي سفيان، وليحفظ الله الشام!.
هي هجرة أخرى.. هي هجرات أخرى
في العام 1997 كتبت في "الأيام" وفي "البلاد" مقالات نقدية تحت عنوان "أدب السلم.. أدب الخيبة". جمعتها، فيما بعد، في كتاب عنوانه "أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، وأعادت مؤسسة فلسطين للثقافة في الشام إصداره (2008)، تتبعت فيه خطاب شعرائنا وروائيينا، من درويش إلى إميل حبيبي، والعنوان يشي بما قلته.
في العام 2008 سيصدر الناقد فيصل درّاج كتاباً عنوانه "الذاكرة القومية في الرواية العربية: من زمن النهضة إلى زمن السقوط"، وسأقرأه في العام 2010. إن عنوانه أيضاً يشي بما يحتويه مضمونه. وإذا كنت تناولت أدباء فلسطينيين، فقد تناول درّاج الأدباء الفلسطينيين وأدباء عرباً كثراً.
حين أنجزنا كتابينا لم يكن الربيع العربي قد بدأ، وربما لم يلتفت كلانا إلى أنه قد يبدأ، وربما كنا لامسنا الموضوع وخضنا فيه دون أن نستشرف المستقبل. ربما لم نلحظ أن الخيبة والسقوط، بعد التفاؤل والنهضة، قد يحملان في داخلهما نقيضهما. هل تركت نصوص الأدباء أثرها علينا؟
وأنا أتصفح كتاب درّاج أخذت أبحث عن رواية "مديح الكراهية"، فلعله عالجها ضمن ما عالج من روايات. ويبدو أنه لم يطلع عليها، فسنة صدورها هي سنة صدور كتابه. ربما لهذا لم يأت في كتابه عليها.. فبم انتهت الرواية؟
ساردة الرواية طالبة متدينة تغدو أميرة في جماعتها. إنها معارضة دينية للنظام البعثي، نظام حافظ الأسد. تروي الساردة قصة عائلة سورية، عائلتها، وهي عائلة تقيم في حلب، يلتحق ابنا العائلة بالجماعة الإسلامية، فيم تبقى الفتيات في المنزل، يقيم معهن شيخ أعمى هو الشيخ رضوان، ويقودهن إلى الحمام (هل من دلالة لهذا؟ ألهذا يواصل السوريون الآن ثورتهم وانتفاضتهم؟ حتى لا يوصموا بأنهم نساء يقودهن أعمى؟). وتسجن الساردة، وتنفق في السجن سنوات، وفيه تتحول من اليمين إلى اليسار، وحين تخرج من السجن تغادر الوطن وتهاجر إلى بريطانيا، لتحيا هناك متحررةً من المسؤول عن هجرتها وإقامتها في المنفى؟
الآن، ونحن نتابع الأخبار نلحظ السوريين يهاجرون إلى تركيا وإلى لبنان، وأيام حكم صدام العراق عاش أربعة ملايين عراقي في المنافي. تُرى أهذه هي فضائل النظام العربي؟ سؤال يثيره المرء ويكرر ما قاله محمود درويش: هي هجرة أخرى..
أ. د. عادل الأسطة
2011-10-02
مديح الكراهية... الحكاية تتكرر<br> عادل الأسطة
www.al-ayyam.ps