عديقي اليهودي
رواية فكرية تاريخية سياسية
بعض الروائيين يضعون لأنفسهم خطاً/نهجاً خاصاً بهم، يميزهم عن الآخرين، وعلى سبيل المثال "أسامة العيسة" الذي يقدم مادة تاريخية سياسية في رواياته، فأصبح هذا الخط يميز رواياته، ومحمود شاهين يقدم أفكاراً عن الخلق والخالق والكون والمعتقدات الدينية والاسطورية، بحيث لا نجد هذا الأمر ـ عربيا ـ إلا عنده، فبعد روايات "زمن الخراب، وأديب في الجنة، وغوايات شيطانية، والملك لقمان " ها هو يقدم "عديقي اليهودي" التي يفند فيها التوراة، وأيضا يقدم فكرته عن الخالق والخلق والكون.
لكن عالم الرواية يختلف عن طبيعة الكتب البحثية أو الفكرية، وهذا يستدعي وجود خبرة ووعي من السارد، لكيفية تقديم مادته البحثية/الفكرية بقالب روائي،وهنا يكمن ابداع السارد، تقديم مادة بحثيه وفكرية بقالب روائي مقنع وممتع في ذات الوقت، وسنأتي على تفصيل النهج الروائي المستخدم لاحقا، لكن أيضا، تقديم المادة الفكرية/البحثية لها أسس ومعايير ليقتنع المتلقي بها، وهذا يعتمد على طريقة وشكل المقدم للمادة، من هنا تكمن أهمية الرواية، فالمجهود الفكري لا يقل أهمية عن الشكل الروائي، وهو مجهود ينم عن معرفة الباحث وسعة ثقافته واطلاعه وتنوع ثقافته، وهذا يجعل "عديقي اليهودي" رواية، ومادة فكرية دينية في ذات الوقت.
اسماء الشخصيات
اسم بطل الرواية الفلسطيني "عارف نذير الحق" واسم الصياد اليهودي "يعقوب سليمان" واسم ابنته "سارة" وزوجتة راحيل"، طبعا للأسماء مدلول يخدم الفكرة التي يختفي وراءها معنى الاسم، من هنا يمكننا الاستنتاج أن معنى اسم بطل الرواية الفلسطيني: "العارف، ينذر المحتل بالحقيقة، أو العالم يبشر/يكشف الحق والحقيقة، وهذا نجده في ثقافة وعلم وسلوك "عارف"، وإسم "يعقوب" يعني إسرائيل، حسب التوراة، و"سليمان" يشير إلى ملك اليهود الذي بنى الهيكل، وسارة وراحيل المرأتان اللتين أنجبتا اليهود، فمعنى اسم عارف عبد الحق، يقابله إسرائيل ومملكة سليمان وأصل اليهود، وهذا يشير إلى مواجهة، بين عارف/عالم وإسرائيل، ومواجهة بين ينذر/يكشف حقيقة أصل اليهود ومملكة سليمان، بهذا تكون اسماء الشخصيات قد أسهمت في تحديد طبيعة الأفكار التي أراد السارد تقديمها.
المكان
يتعامل الفلسطيني مع المكان كما يتعامل مع الحياة البشرية، جسد وروح، من هنا نجده يحرص على ذكره وحتى أنه يعطي تفاصيل دقيقة عنه، كما لو أنه يتحدث عن جسده، وهذا يعود إلى طبيعة الصراع الاستيطاني مع الاحتلال، "عارف نذير الحق" يتحدث عن القدس وعن برية القدس كما لو أنه يصف ماذا يرتدي من ثياب: "كنت أمارس رياضة المشي شبه اليومية في بطاح برية القدس التي شهدت طفولتي، وراحت مستوطنات الاحتلال تقضمها شيئا فشيئا، ...كنت سائراً في منعطفات وادي الدكاكين" ص7. التغييرات التي تحدث في المكان وتغير معالمه يعرفها الفلسطيني، وعندما قال "عارف" شهدت طفولتي" أراد أن يؤكد على أنه المكان أصبح جزء منه، من كيانه، كما أن للمكان تاريخا وأحداثا: "يفصل وادي أبو هندي بين أراضي الديسة والسواحرة، فجنوبه للسواحرة وشماله للديسة، مع بعض التجاوزات في القسمة للديسة، تجعلهم يمتلكون أرضا جنوبه.. وكثيرا ما شهد هذا الوادي مشاجرات على الأرض بين الطرفين في أوائل القرن العشرين" ص396،مثل هذه التفاصيل تأتي لتؤكد على أن الأرض فلسطينية، وأن أصحابها يعرفونها ويعرفون تاريخها، وعندما يقتل الاحتلال "عارف" في "وادي عزبة مشتى المخالدة" ص459، كان السارد يحقق وصية "عارف" بالدفن في المكان الذي حدده في الوصية، فعلاقة "عارف" بالمكان بدأت منذ الطفولة وانتهت به، هو شيخا تجاوز السبعين، أليس هذه الأحداث وتفاصيل عن المكان تؤكد على العلاقة الحميمة بينهما؟.
القدس
القدس بالنسبة للفلسطيني هي فلسطين، ولا يمكن أن يتخلى عنها، ليس لكونها مقدسة فحسب، بل لأنها رمز للسيادة الوطنية، وتمثل العاصمة التي يسعى لإقامتها، في المقابل الاحتلال يدعي أنه المكان المقدس بالسنبة له، فيها الهيكل، يفند "عارف" هذه القدسية من خلال معلومات ومكتشفات تاريخية حديثة مع "يعقوب" مستشهدا بالبحث الذي قدمه "فاضل الربيعي": "...جبل قدس في مديرية سامع بمحافظة تعز (نحو ثمانين كلم غرب عدن) ...إن أورشليم التي سجلتها النقوش الآشورية هي مدينة دينية وليست جبلا...إن التوراة في النص العبري، لا تذكر ولا تسجل ولا تلمح، حتى مجرد تلميح، إلى أن القدس هي أورشليم كما يزعم اللاهوتيون التوراتيون" ص46 و47، هذه المعلومة أراد بها عارف أن يؤكد على فلسطينية وعروبة القدس وفلسطين، وعلى أن مكان اليهود تاريخيا ودينيا ليس فلسطين، وهذا يعد هجوم معاكس على الفكرة الصهيونية التي تدعي أنها تريد عودة اليهود إلى أرض الميعاد.
الفلسطيني والاحتلال
الاحتلال الاستيطاني يعد من أقذر وابشع أنواع الاحتلالات، فهو يسعى للسيطرة على الأرض ومحو معالمها القديمة وتغييراتها، ويعمل على محو وشطب السكان أما بالقتل أو بالتهجير، أو جعلهم يفكرون ويتصرفون حسب الثقافة الاستيطانية، فيكونوا (مواطنين) من الدراجة الثانية، لهذا لا يمكن التعايش مع الاحتلال الاستيطاني، يتحدث "عارف نذير الحق" مع المستوطن اليهودي العراقي "يعقوب سليمان" عن هذا الامر: "...الإبقاء على العداء بيننا وبينكم ليس في صالح الطرفين، وسيظل التوتر قائما إلى ما لا نهاية له، واعتقادكم أننا سننسى تاريخنا، ونرضخ لكم، ونعيش تحت احتلالكم إلى الأبد اعتقاد خاطئ" ص47، فهنا حسم قاطع بأن الاحتلال الاستيطاني لا يمكن أن يكون عادلا أو يسعى لعدالة، فهو جاء ليقضي وينهي وجود شعب، ليزرع شعبا آخر.
الفلسطيني الحضاري
الصراع الدامي بين الفلسطيني والاحتلال له عدة أوجه، منها الحضاري والثقافي، والذي ينعكس على الممارسة والسلوك، "عارف نذير الحق" ينظر إلى القتل بطريقة تتناقض وطريقة تفكير المحتل، فعندما يأخذ بندقية "يعقوب" لا يسمح له تفكيره وثقافته أن يطلق عليه النار: "لم تراودني فكرة قتله، لأنني ضد القتل من حيث المبدأ، وربما لإحساسي أن قتله لن يحل المشكلة، فهي مشكلة وطن بكامله، وليست مشكلة شخصية معي، ولو كان الأمر كذلك لربما قتلته وانتهى الأمر" ص8، هذه الأفكار جاءت ويعقوب نائم، وهي تؤكد على إنسانية الفلسطيني، وعلى أنه ينظر إلى عدوه كإنسان رغم العداء وتظل ثقافته ضد القتل بوجه عام، على النقيض من المستوطن الذي يقتل لمجرد القتل: "لماذا لم تقتلني؟" بهذا السؤال يؤكد يعقوب على نهج القتل الذي تمارسه دولة الاحتلال والمستوطنين: "إذا ما تطلب الأمر أن نبيدكم عن آخركم يوما ما فلن نتوانى عن ذلك" ص9، وهذه المفارقة بين الشخصيتين تشير إل تفوق الفلسطيني ثقافيا وحضاريا على المحتل، رغم أنه يمتلك تكنولوجيا ومعرفة متطورة: "ـ هل أفهم من هذا أنك لو اضطررت إلى قتلي لن تكون سعيدا بذلك؟
ـ بل سأكون حزينا، وربما حزينا جدا، فأنا لا أتصور نفسي قاتلا مهما كان نوع ضحيتي، وكثيرا ما أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون قتيلا لا قاتلا" ص22، بهذا الحوار يحسم "عارف" تفوقه الثقافي والعملي على المستوطن "يعقوب" فلا مجال للمقارنة بين إنسانية عارف ووحشية يعقوب.
وإذا ما توقفنا عند هذا الحوار يمكننا القول أن السارد أراد أن يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى الهوة التي تفصل الفلسطيني عن المستوطن، الأول، رغم أنه محتل ومعتدى عليه، إلا أنه لا يقدم على القتل، بينما المستوطن، رغم أنه قوي ومحمي إلا أنه يقوم بالقتل من باب وهم الدفاع عن نفس ودون وجود مبرر لذلك.
ولم تقتصر ثقافة"عارف" الفلسطيني على حق الحياة للبشر فحسب، بل تعدتها لبقية المخلوقات: "...أن طيور الحجل لم تغير عادتها في عدم الخوف مني، رغم أنني أحمل البندقية التي طالما رأتها كثيرا تفتك بأخواتها على يد يعقوب، كانت تفر بضعة أمتار على سطح الأرض، ثم تتابع درجها أو تتوقف إلى أن أمر، على مقربة أقدام منها، إلى حد أنني شعرت أن بإمكاني أن أمد يدي لأمسك إحداها"ص58، رغم (التغييرات) في هيئة "عارف" (يحمل بندقية الصيد) إلا أن طيور الحجل لم تفر منه، واستمرت بالتعامل معه كجزء من الطبيعة، من الوادي، وهذا ما أثار المستوطن "يعقوب" الصياد، الذي يخرج بالبندقة ليصطاد كل ما يشاهده من حياة: "ما هذا بحق السماء هل تعرفك الطيور؟
ـ لماذا لا تعرفني طالما أتجول كثيرا في بطاحها دون أؤذيها، وأقدم لها المساعدة إلى من يحتاج منها إليها.
ـ وتحبك أيضا؟
ـ إنها طيور بلادي يا يعقوب، تعرفني وأعرفها، ولست غريبا عليها مثلك، ولا أسعى لقتلها كما تفعل أنت، فلماذا لا تحبني؟!" ص61، يحاول "عارف" أن يثبت وجوده وحقه في الحياة هو وما على هذه الأرض من كائنات، وأيضا أن (يغير) من فهم المستوطن، بأن الحياة حق لكل المخلوقات، وعندما قال "طيور بلادي" أراد بها أن يشير إلى أن الاحتلال يزيل ويغير ويشوه كل ما هو على الأرض، من بشر وطيور وأشجار معالم.
الفلسطيني واليهودي
في التاريخ القديم هناك بقاء واستمرارية للثقافة والحضارة الوطنية حتى بعد قدوم دولة جديدة، فمن يأتي إلى منطقتنا كان يحمل أفكارها وثقافتها وحتى معتقداتها الدينية، ورغم اختلاف اللغة، فالتفوق الحضاري والثقافي أبقى حضارة وثقافة المنطقة تنحو بخط تصاعدي، رغم ظهور واختفاء دول كثيرة، من هنا نجد أن الحثيين واليهود عبدو "البعل" السوري، في رواية "عديقي اليهودي" يؤكد السارد على استمرارية النهج الحضاري وتنامي الثقافة الهلالية، حتى في ظل وجود احتلال استيطاني عنصري.
اللقاء بين "عارف" ويعقوب كان في برية القدس، فالفلسطيني كما رأينا تعامل بإنسانية مع المستوطن "يعقوب" بمعنى أنه نظر إليه كيهودي، وليس كعدو يجب قتله، وهذا ما أثر ـ لاحقا ـ إيجابيا على يعقوب، فأخذ ينظر إلى "عارف" كإنسان وليس كعدو، الثقافة التي يتمتع بها "عارف" جعلته يذهل المستوطن: "ممكن أن يأتي قريبا هذا ونكون عديقين!!، ضحك للكلمة التي لم يسمع بها من قبل، تساءل مستوضحا:
ـ ماذا تقصد بالضبط؟
ـ أقصد أن نكون عدوين في جلد صديقين أو العكس!"ص20، بهذا الثقافة اللغوية استطاع "عارف" أن يثبت تفوقه الثقافي على عدوه، فاستخدم مصطلح "عديقين" بمعنى عدوي وصديقي، فأراد بهذا اللفظ أن يبين تفوق الفلسطيني لغويا، من خلال اشتقاق لفظ متشابك "عديقي" وثقافيا، نظرته للحياة وللطبيعة والصراع، وسلوكيا، بعدم قتله لعدوه، وحتى أنه ـ لاحقا ـ أعاد له البندقية.
يبدأ "يعقوب" بالتأثر بثقافة "عارف" ونهجه في الحياة، فلم يعد يصطاد الطيور أو الحيوانات: " سددت البندقية نحو الحجلة الواقفة، وهممت للضغط على الزناد، وإذا بصوت عارف يصيح في مخيلتي: إياك! لم أضغط على الزناد، وظلت الحجلة واقفة وكأنها تدرك أنني لن أطلق النار عليها" ص79، فتغير السلوك ليس بالأمر السهل، لكن شخصية "عارف" المنسجمة بين ما تقول وما تفعل، جعلت "يعقوب" يتغير ويتحول في سلوكه وطريقة تفكيره ليكون إنسانيا، ينظر إل الحياة والطبيعة نظرة جديدة، غير تلك التي تشربها من مؤسسات ومدارس الاحتلال.
ونجد أثر عارف ينتقل إلى الألفاظ والتعابير التي يستخدمها "يعقوب": "ـ عارف لا يحب الصيد، ولا يرغب في مشاهدتي أفتك بطيور وحيوانات بلاده، فقد طلب إلي أن لا أفعل ذلك ولو أمامه. أذعنت له" ص132، اللافت أن يعقوب استخدم "طيور وحيوانات بلاده" ولم يستخدم "الطيور"بمعنى أنه أصبح يقر بأن فلسطين أرض وبلاد عارف، وليست أرض يعقوب أو المستوطنين، من هنا يمكننا القول أن هناك خلق جديد "ليعقوب" قد تم بفضل "عارف"، وهنا يكون عارف قد أكمل مهمته الحضارية والثقافية، والتي تتمثل بتحويل الغزاة والدخلاء إلى مواطنين أسوياء يحملون ثقافة وأفكار المنطقة الحضرية والإنسانية.
ولم يقتصر أثر عارف على "يعقوب" فحسب، بل طال أيضا ابنته "سارة"التي اقامت علاقة روحية معه، فكانت تنام في بيته كصديقة وكحبيبة وكتلميذة: " استيقظت في حدود التاسعة صباحا على قبلة عارف تنطبع على خدي، كنت مستيقظة في السرير لكني لم أنهض، وكأني كنت أنتظر عارف أن يدعوني للنهوض، حتى لا أقترف ما يعكر صبيحته بنهوضي قبله، لا أذكر أنني نهضت من نومي على قبلة في حياتي، ولم أكن أعرف أن لقبلة المحب في الصباح، فعل السحر في الجسد" ص357، بهذا يكون "عارف" قد غير سلوك وتفكير الأب والإبنة معا، بمعنى أنه أوقف التأثير الصهيوني على الجيل المتصهين "يعقوب" وعلى الجيل الجديد "سارة".
رواية فكرية تاريخية سياسية
بعض الروائيين يضعون لأنفسهم خطاً/نهجاً خاصاً بهم، يميزهم عن الآخرين، وعلى سبيل المثال "أسامة العيسة" الذي يقدم مادة تاريخية سياسية في رواياته، فأصبح هذا الخط يميز رواياته، ومحمود شاهين يقدم أفكاراً عن الخلق والخالق والكون والمعتقدات الدينية والاسطورية، بحيث لا نجد هذا الأمر ـ عربيا ـ إلا عنده، فبعد روايات "زمن الخراب، وأديب في الجنة، وغوايات شيطانية، والملك لقمان " ها هو يقدم "عديقي اليهودي" التي يفند فيها التوراة، وأيضا يقدم فكرته عن الخالق والخلق والكون.
لكن عالم الرواية يختلف عن طبيعة الكتب البحثية أو الفكرية، وهذا يستدعي وجود خبرة ووعي من السارد، لكيفية تقديم مادته البحثية/الفكرية بقالب روائي،وهنا يكمن ابداع السارد، تقديم مادة بحثيه وفكرية بقالب روائي مقنع وممتع في ذات الوقت، وسنأتي على تفصيل النهج الروائي المستخدم لاحقا، لكن أيضا، تقديم المادة الفكرية/البحثية لها أسس ومعايير ليقتنع المتلقي بها، وهذا يعتمد على طريقة وشكل المقدم للمادة، من هنا تكمن أهمية الرواية، فالمجهود الفكري لا يقل أهمية عن الشكل الروائي، وهو مجهود ينم عن معرفة الباحث وسعة ثقافته واطلاعه وتنوع ثقافته، وهذا يجعل "عديقي اليهودي" رواية، ومادة فكرية دينية في ذات الوقت.
اسماء الشخصيات
اسم بطل الرواية الفلسطيني "عارف نذير الحق" واسم الصياد اليهودي "يعقوب سليمان" واسم ابنته "سارة" وزوجتة راحيل"، طبعا للأسماء مدلول يخدم الفكرة التي يختفي وراءها معنى الاسم، من هنا يمكننا الاستنتاج أن معنى اسم بطل الرواية الفلسطيني: "العارف، ينذر المحتل بالحقيقة، أو العالم يبشر/يكشف الحق والحقيقة، وهذا نجده في ثقافة وعلم وسلوك "عارف"، وإسم "يعقوب" يعني إسرائيل، حسب التوراة، و"سليمان" يشير إلى ملك اليهود الذي بنى الهيكل، وسارة وراحيل المرأتان اللتين أنجبتا اليهود، فمعنى اسم عارف عبد الحق، يقابله إسرائيل ومملكة سليمان وأصل اليهود، وهذا يشير إلى مواجهة، بين عارف/عالم وإسرائيل، ومواجهة بين ينذر/يكشف حقيقة أصل اليهود ومملكة سليمان، بهذا تكون اسماء الشخصيات قد أسهمت في تحديد طبيعة الأفكار التي أراد السارد تقديمها.
المكان
يتعامل الفلسطيني مع المكان كما يتعامل مع الحياة البشرية، جسد وروح، من هنا نجده يحرص على ذكره وحتى أنه يعطي تفاصيل دقيقة عنه، كما لو أنه يتحدث عن جسده، وهذا يعود إلى طبيعة الصراع الاستيطاني مع الاحتلال، "عارف نذير الحق" يتحدث عن القدس وعن برية القدس كما لو أنه يصف ماذا يرتدي من ثياب: "كنت أمارس رياضة المشي شبه اليومية في بطاح برية القدس التي شهدت طفولتي، وراحت مستوطنات الاحتلال تقضمها شيئا فشيئا، ...كنت سائراً في منعطفات وادي الدكاكين" ص7. التغييرات التي تحدث في المكان وتغير معالمه يعرفها الفلسطيني، وعندما قال "عارف" شهدت طفولتي" أراد أن يؤكد على أنه المكان أصبح جزء منه، من كيانه، كما أن للمكان تاريخا وأحداثا: "يفصل وادي أبو هندي بين أراضي الديسة والسواحرة، فجنوبه للسواحرة وشماله للديسة، مع بعض التجاوزات في القسمة للديسة، تجعلهم يمتلكون أرضا جنوبه.. وكثيرا ما شهد هذا الوادي مشاجرات على الأرض بين الطرفين في أوائل القرن العشرين" ص396،مثل هذه التفاصيل تأتي لتؤكد على أن الأرض فلسطينية، وأن أصحابها يعرفونها ويعرفون تاريخها، وعندما يقتل الاحتلال "عارف" في "وادي عزبة مشتى المخالدة" ص459، كان السارد يحقق وصية "عارف" بالدفن في المكان الذي حدده في الوصية، فعلاقة "عارف" بالمكان بدأت منذ الطفولة وانتهت به، هو شيخا تجاوز السبعين، أليس هذه الأحداث وتفاصيل عن المكان تؤكد على العلاقة الحميمة بينهما؟.
القدس
القدس بالنسبة للفلسطيني هي فلسطين، ولا يمكن أن يتخلى عنها، ليس لكونها مقدسة فحسب، بل لأنها رمز للسيادة الوطنية، وتمثل العاصمة التي يسعى لإقامتها، في المقابل الاحتلال يدعي أنه المكان المقدس بالسنبة له، فيها الهيكل، يفند "عارف" هذه القدسية من خلال معلومات ومكتشفات تاريخية حديثة مع "يعقوب" مستشهدا بالبحث الذي قدمه "فاضل الربيعي": "...جبل قدس في مديرية سامع بمحافظة تعز (نحو ثمانين كلم غرب عدن) ...إن أورشليم التي سجلتها النقوش الآشورية هي مدينة دينية وليست جبلا...إن التوراة في النص العبري، لا تذكر ولا تسجل ولا تلمح، حتى مجرد تلميح، إلى أن القدس هي أورشليم كما يزعم اللاهوتيون التوراتيون" ص46 و47، هذه المعلومة أراد بها عارف أن يؤكد على فلسطينية وعروبة القدس وفلسطين، وعلى أن مكان اليهود تاريخيا ودينيا ليس فلسطين، وهذا يعد هجوم معاكس على الفكرة الصهيونية التي تدعي أنها تريد عودة اليهود إلى أرض الميعاد.
الفلسطيني والاحتلال
الاحتلال الاستيطاني يعد من أقذر وابشع أنواع الاحتلالات، فهو يسعى للسيطرة على الأرض ومحو معالمها القديمة وتغييراتها، ويعمل على محو وشطب السكان أما بالقتل أو بالتهجير، أو جعلهم يفكرون ويتصرفون حسب الثقافة الاستيطانية، فيكونوا (مواطنين) من الدراجة الثانية، لهذا لا يمكن التعايش مع الاحتلال الاستيطاني، يتحدث "عارف نذير الحق" مع المستوطن اليهودي العراقي "يعقوب سليمان" عن هذا الامر: "...الإبقاء على العداء بيننا وبينكم ليس في صالح الطرفين، وسيظل التوتر قائما إلى ما لا نهاية له، واعتقادكم أننا سننسى تاريخنا، ونرضخ لكم، ونعيش تحت احتلالكم إلى الأبد اعتقاد خاطئ" ص47، فهنا حسم قاطع بأن الاحتلال الاستيطاني لا يمكن أن يكون عادلا أو يسعى لعدالة، فهو جاء ليقضي وينهي وجود شعب، ليزرع شعبا آخر.
الفلسطيني الحضاري
الصراع الدامي بين الفلسطيني والاحتلال له عدة أوجه، منها الحضاري والثقافي، والذي ينعكس على الممارسة والسلوك، "عارف نذير الحق" ينظر إلى القتل بطريقة تتناقض وطريقة تفكير المحتل، فعندما يأخذ بندقية "يعقوب" لا يسمح له تفكيره وثقافته أن يطلق عليه النار: "لم تراودني فكرة قتله، لأنني ضد القتل من حيث المبدأ، وربما لإحساسي أن قتله لن يحل المشكلة، فهي مشكلة وطن بكامله، وليست مشكلة شخصية معي، ولو كان الأمر كذلك لربما قتلته وانتهى الأمر" ص8، هذه الأفكار جاءت ويعقوب نائم، وهي تؤكد على إنسانية الفلسطيني، وعلى أنه ينظر إلى عدوه كإنسان رغم العداء وتظل ثقافته ضد القتل بوجه عام، على النقيض من المستوطن الذي يقتل لمجرد القتل: "لماذا لم تقتلني؟" بهذا السؤال يؤكد يعقوب على نهج القتل الذي تمارسه دولة الاحتلال والمستوطنين: "إذا ما تطلب الأمر أن نبيدكم عن آخركم يوما ما فلن نتوانى عن ذلك" ص9، وهذه المفارقة بين الشخصيتين تشير إل تفوق الفلسطيني ثقافيا وحضاريا على المحتل، رغم أنه يمتلك تكنولوجيا ومعرفة متطورة: "ـ هل أفهم من هذا أنك لو اضطررت إلى قتلي لن تكون سعيدا بذلك؟
ـ بل سأكون حزينا، وربما حزينا جدا، فأنا لا أتصور نفسي قاتلا مهما كان نوع ضحيتي، وكثيرا ما أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون قتيلا لا قاتلا" ص22، بهذا الحوار يحسم "عارف" تفوقه الثقافي والعملي على المستوطن "يعقوب" فلا مجال للمقارنة بين إنسانية عارف ووحشية يعقوب.
وإذا ما توقفنا عند هذا الحوار يمكننا القول أن السارد أراد أن يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى الهوة التي تفصل الفلسطيني عن المستوطن، الأول، رغم أنه محتل ومعتدى عليه، إلا أنه لا يقدم على القتل، بينما المستوطن، رغم أنه قوي ومحمي إلا أنه يقوم بالقتل من باب وهم الدفاع عن نفس ودون وجود مبرر لذلك.
ولم تقتصر ثقافة"عارف" الفلسطيني على حق الحياة للبشر فحسب، بل تعدتها لبقية المخلوقات: "...أن طيور الحجل لم تغير عادتها في عدم الخوف مني، رغم أنني أحمل البندقية التي طالما رأتها كثيرا تفتك بأخواتها على يد يعقوب، كانت تفر بضعة أمتار على سطح الأرض، ثم تتابع درجها أو تتوقف إلى أن أمر، على مقربة أقدام منها، إلى حد أنني شعرت أن بإمكاني أن أمد يدي لأمسك إحداها"ص58، رغم (التغييرات) في هيئة "عارف" (يحمل بندقية الصيد) إلا أن طيور الحجل لم تفر منه، واستمرت بالتعامل معه كجزء من الطبيعة، من الوادي، وهذا ما أثار المستوطن "يعقوب" الصياد، الذي يخرج بالبندقة ليصطاد كل ما يشاهده من حياة: "ما هذا بحق السماء هل تعرفك الطيور؟
ـ لماذا لا تعرفني طالما أتجول كثيرا في بطاحها دون أؤذيها، وأقدم لها المساعدة إلى من يحتاج منها إليها.
ـ وتحبك أيضا؟
ـ إنها طيور بلادي يا يعقوب، تعرفني وأعرفها، ولست غريبا عليها مثلك، ولا أسعى لقتلها كما تفعل أنت، فلماذا لا تحبني؟!" ص61، يحاول "عارف" أن يثبت وجوده وحقه في الحياة هو وما على هذه الأرض من كائنات، وأيضا أن (يغير) من فهم المستوطن، بأن الحياة حق لكل المخلوقات، وعندما قال "طيور بلادي" أراد بها أن يشير إلى أن الاحتلال يزيل ويغير ويشوه كل ما هو على الأرض، من بشر وطيور وأشجار معالم.
الفلسطيني واليهودي
في التاريخ القديم هناك بقاء واستمرارية للثقافة والحضارة الوطنية حتى بعد قدوم دولة جديدة، فمن يأتي إلى منطقتنا كان يحمل أفكارها وثقافتها وحتى معتقداتها الدينية، ورغم اختلاف اللغة، فالتفوق الحضاري والثقافي أبقى حضارة وثقافة المنطقة تنحو بخط تصاعدي، رغم ظهور واختفاء دول كثيرة، من هنا نجد أن الحثيين واليهود عبدو "البعل" السوري، في رواية "عديقي اليهودي" يؤكد السارد على استمرارية النهج الحضاري وتنامي الثقافة الهلالية، حتى في ظل وجود احتلال استيطاني عنصري.
اللقاء بين "عارف" ويعقوب كان في برية القدس، فالفلسطيني كما رأينا تعامل بإنسانية مع المستوطن "يعقوب" بمعنى أنه نظر إليه كيهودي، وليس كعدو يجب قتله، وهذا ما أثر ـ لاحقا ـ إيجابيا على يعقوب، فأخذ ينظر إلى "عارف" كإنسان وليس كعدو، الثقافة التي يتمتع بها "عارف" جعلته يذهل المستوطن: "ممكن أن يأتي قريبا هذا ونكون عديقين!!، ضحك للكلمة التي لم يسمع بها من قبل، تساءل مستوضحا:
ـ ماذا تقصد بالضبط؟
ـ أقصد أن نكون عدوين في جلد صديقين أو العكس!"ص20، بهذا الثقافة اللغوية استطاع "عارف" أن يثبت تفوقه الثقافي على عدوه، فاستخدم مصطلح "عديقين" بمعنى عدوي وصديقي، فأراد بهذا اللفظ أن يبين تفوق الفلسطيني لغويا، من خلال اشتقاق لفظ متشابك "عديقي" وثقافيا، نظرته للحياة وللطبيعة والصراع، وسلوكيا، بعدم قتله لعدوه، وحتى أنه ـ لاحقا ـ أعاد له البندقية.
يبدأ "يعقوب" بالتأثر بثقافة "عارف" ونهجه في الحياة، فلم يعد يصطاد الطيور أو الحيوانات: " سددت البندقية نحو الحجلة الواقفة، وهممت للضغط على الزناد، وإذا بصوت عارف يصيح في مخيلتي: إياك! لم أضغط على الزناد، وظلت الحجلة واقفة وكأنها تدرك أنني لن أطلق النار عليها" ص79، فتغير السلوك ليس بالأمر السهل، لكن شخصية "عارف" المنسجمة بين ما تقول وما تفعل، جعلت "يعقوب" يتغير ويتحول في سلوكه وطريقة تفكيره ليكون إنسانيا، ينظر إل الحياة والطبيعة نظرة جديدة، غير تلك التي تشربها من مؤسسات ومدارس الاحتلال.
ونجد أثر عارف ينتقل إلى الألفاظ والتعابير التي يستخدمها "يعقوب": "ـ عارف لا يحب الصيد، ولا يرغب في مشاهدتي أفتك بطيور وحيوانات بلاده، فقد طلب إلي أن لا أفعل ذلك ولو أمامه. أذعنت له" ص132، اللافت أن يعقوب استخدم "طيور وحيوانات بلاده" ولم يستخدم "الطيور"بمعنى أنه أصبح يقر بأن فلسطين أرض وبلاد عارف، وليست أرض يعقوب أو المستوطنين، من هنا يمكننا القول أن هناك خلق جديد "ليعقوب" قد تم بفضل "عارف"، وهنا يكون عارف قد أكمل مهمته الحضارية والثقافية، والتي تتمثل بتحويل الغزاة والدخلاء إلى مواطنين أسوياء يحملون ثقافة وأفكار المنطقة الحضرية والإنسانية.
ولم يقتصر أثر عارف على "يعقوب" فحسب، بل طال أيضا ابنته "سارة"التي اقامت علاقة روحية معه، فكانت تنام في بيته كصديقة وكحبيبة وكتلميذة: " استيقظت في حدود التاسعة صباحا على قبلة عارف تنطبع على خدي، كنت مستيقظة في السرير لكني لم أنهض، وكأني كنت أنتظر عارف أن يدعوني للنهوض، حتى لا أقترف ما يعكر صبيحته بنهوضي قبله، لا أذكر أنني نهضت من نومي على قبلة في حياتي، ولم أكن أعرف أن لقبلة المحب في الصباح، فعل السحر في الجسد" ص357، بهذا يكون "عارف" قد غير سلوك وتفكير الأب والإبنة معا، بمعنى أنه أوقف التأثير الصهيوني على الجيل المتصهين "يعقوب" وعلى الجيل الجديد "سارة".