أ. د. عادل الأسطة - طشاري.. تفرقوا أيدي سبأ: قسوة المنفى

"طشاري" هي رواية الروائية العراقية (إنعام كجه جي) التي قرأنا لها من قبل رواية "الحفيدة الأمريكية" التي كانت، مثل "طشاري"، على القائمة القصيرة أيضاً لجائزة بوكر الإماراتية العربية العالمية للرواية، ومن يدري فقد ترشحها لجنة الرواية للفوز بالمرتبة الأولى، وما علينا إلا الانتظار!!
وتصدر الكاتبة روايتها في سطر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي مات في الكويت وعبر عن قسوة المنفى في 50 و60 ق20، أسطره التي وردت في قصيدته "غريب على الخليج"، الجزء المتمم لقصيدة "أنشودة المطر"، كما ذهب د. إحسان عباس في كتابه "بدر شاكر السياب: حياته وشعره"، والأسطر هي:
"لو جئت في البلد الغريب إليّ
ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يديّ
هو اللقاء"
وليس هذا التصدير مجرد تزيين، فهو ما يتوصل إليه شخوص الرواية بعضهم، بعد تجربة المنفى، وإذا كانت نهاية الرواية هي خلاصتها وزبدتها في أحايين كثيرة، فإنها هنا كذلك، وما تقوله النهاية هي ما قالته أسطر السياب: اللقاء لا يكتمل إلاّ في العراق. وما بين نهاية 50 ق20، زمن كتابة السياب قصيدته، وبداية العقد الثاني من ق20، جرت مياه كثيرة في نهري دجلة والفرات، وألمّ بأهل العراق ما ألمّ، ولئن كانت غربة السياب غربة فردية، أو تعبر عن غربة بضع مئات من العراقيين في حينه، فإن ما تكتب عنه إنعام كجه جي يتشابه مع ما كتبه السياب ويختلف؛ يتشابه في الخط العام، ويختلف في أنه يعبر عن غربة ملايين العراقيين، الغربة التي بدأت تتكاثر منذ نهاية 70 ق20، وبلغت ذروتها ومأساتها منذ احتلال الأميركان العراق.
هكذا لا يمكن قراءة نهاية الرواية دون ربطها بأسطر السياب، إن الساردة، ساردة الرواية التي نعرف عنها معلومات لا بأس بها، تتوصل إلى ما توصل إليه، فتقول: "أما أنا فإن الشوق إلى بغداد يجلدني كل يوم وينفذ فيّ حد الهجر والنكران. فارقتها ولم أشبع منها، أحلى البلاد وموطن الحب الأول، (ص243).
والساردة هي صحافية وشاعرة، قرأت جبران خليل جبران وتأثرت به (193) وقد غادرت العراق، زمن حكم صدام، واستقرت أخيراً في باريس. تزوجت وأنجبت اسكندر الذي حمل اسم أخيها اسكندر الذي توفي طفلاً، وقد أراد والده إحياء اسمه، لكنه رزق بالساردة، فقررت هذه أن تحيي الاسم، وهذا ما كان.
وعندما يحتل الأميركان بغداد، وتسوء أحوال العراق أكثر وأكثر، تهاجر عمتها وردية اسكندر، وهي في الثمانين، طالبة اللجوء إلى باريس.
"طشاري" العنوان يتضح كلما قرأ المرء صفحات من الرواية وتقدم في قراءتها، والصفحات التي تضيء العنوان أكثر وأكثر هي (17، 85، 90، 149، 127، 151، 159، 234، 248)، وتعني طشاري، كما يرد في ص90، تفرقوا أيدي سبأ، والساردة الصحافية، وهي شاعرة، لها ديوان شعر مخطوط عنوانه طشاري، ما يدفعنا إلى القول إن الساردة لا تختلف كثيراً عن الروائية الكاتبة إنعام.
اسكندر ابن الساردة حين يفتح الكمبيوتر "ويدخل على فيس بوك يجد أبناء الأعمام والأخوال مصفوفين مع صورهم وآخر أخبارهم، يطاردونه ويهيلون عليه عواطفهم الحارة. واحد في سياتل، واثنان في اوكلاند، وواحدة في جرمانا، وعشرة في ديترويت، ما الذي طيرهم إلى هناك؟"(ص85).
وكما ذكرت، فإن للساردة ديوان شعر عنوانه طشاري، وهو يعني بالعربي الفصيح "تفرقوا أيدي سبأ" يعني "تطشروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات" (90)، وحين يسأل اسكندر أمه: هل تكتبين أشعاراً عن الأسلحة والرصاص؟ تجيبه: "ـ إنهم أهلي الذين تفرقوا في بلاد العالم مثل الطلق الطشاري". (ص90) وتردد وهي تنوس في جلستها "طشّاري ماله والي" ويتهدج صوتها، لكنها تتماسك وتضحك لكي لا تبكي.
لم يعد العراقيون يدفنون في العراق، واسكندر ابن الساردة، يحاول أن ينشئ، إلكترونياً، مقبرة إلكترونية تضم مقابر العراقيين التي توزعت على منافيهم.
ولقد وجد أهله في مقبرة العراقيين الإلكترونية حلاً سحرياً ولطيفاً لمواجهة الشتات. "هؤلاء مثلي أصغر مني لكنهم يعيشون حسرة طير اليباديد الذي جعل قبور آبائهم وأهاليهم شذر مذر. طلقة طشارية في بلاد الله الواسعة". (ص159).
الأميركان الذين زعموا أنهم يريدون تحرير العراق من الدكتاتور خربوا البلد كله، فلم يعد أحد يأمن على حياته هناك، وتشتد الريح الصفراء، وتبرز المذهبية "قل لي ما هو مذهبك أقل لك من أنت؟" وتجري الأيام وتبدأ الاغتيالات في العيادات وأمام البيوت. يفر الأطباء من البلد ليعملوا في الأردن وليبيا والخليج وكندا وبريطانيا" (ص248) وتحكي الساردة قصة عائلتها، ويغدو العراقي الجيد هو المهاجر الجيد، وليت الأمر يقتصر على هذا." يولد العراقيون فرادى ويموتون جماعات. حتى الزعيم الأوحد وجد من يخلفه ويتناسل مع أسطورته فظهر زعماء متعددون وأوحدون كثرة".(ص249)
وكما ذكرت فإن نهاية الرواية يقول لنا ما تقوله الرواية. إن النهاية هي الخلاصة وزبدة القول". كل شيء بالجملة. الأحزاب والطوائف والتفخيخات وأفراد حراسة المسؤولين. سرقات بالمليارات لا بالملايين. وحتى الدكتاتور صار دكاترة ـ أي دكتاتوريين ـ بالجملة" (ص250) وتنهي الساردة الرواية بالسطرين: "بلد قد ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشاً. تصلي له فلا تستجيب السماء. سماؤها الطيبة الحنون التي لم ترد لها يوماً طلباً. أمَا يشبعون من الدم؟" (ص251).
والرواية تقع في 251 صفحة، والساردة تروي قصة عمتها وعائلتها وما آلت إليه. وردية اسكندر هي شابة عراقية مسيحية من الموصل تدرس الطب في بغداد ثم تعمل في الديوانية في مشفى النساء. تعمل وتظل تعمل، وتولّد المسيحيات والمسلمات، السنة والشيعة، وتغدو معروفة للجميع، فقد ولدت آلاف النساء، وكانت مسيحية متدينة تؤمن بالله، وهذا لم يجعل منها عراقية متعصبة، فهي أقامت علاقات اجتماعية مع شيعة وسنة، وحضرت احتفالاتهم الدينية ورددت مع المحتفلين أغانيهم وكلماتهم، ولقد كان هؤلاء عراقيين، حتى بعض اليهود آثروا البقاء في العراق في 50 ق20، على الرغم من إسقاط الجنسية عنهم. كيف يمكن أن يهاجروا من وطن الآباء والأجداد، ولم يشعر هؤلاء في الديوانية أنهم غير عراقيين، حتى وإن غدوا بلا جنسية عراقية، ولم يكن العراقيون الآخرون، مسلمين ومسيحيين، لينبذوهم، وعلى العكس فقد تعاطفوا معهم، ولم يخرب العراق إلاّ منذ خمسين عاماً، تريد وردية اسكندر أن تشطبها من حياتها، فلقد بلغت الثمانين عاماً، وفي الثمانين وجدت نفسها تهاجر لتغدو لاجئة عراقية في باريس.
مكان الرواية هو قصيدة دائرية الشكل. تبدأ بقصة هجرة د. وردية اسكندر وتنتهي أيضاً بهجرتها. يريد الرئيس الفرنسي أن يجتمع باللاجئين العراقيين، وتكون هي واحدة منهم.
قبل أن تهاجر د. وردية أرادت أن تصفع الجهلة والقساة في العراق الذين أخذوا يتلوثون، فما هكذا نزلوا من الأرحام.. ما هكذا! ولكنها تتعب من آهات التمني ويتراخى عنادها وتذعن لنداء أولادها وتقر بأن لا شيء بات يغريها بمواصلة العيش في مكان لم يعد منها ولم تعد منه (250). هي التي كانت طبيبة متحررة وارتدت ملابس افرنجية في شبابها، يطلب منها وهي في الثمانينيات أن تستر شعرها. وهكذا يبدأ الحنين إلى ماضي العراق قبل خمسين سنة من العام 2007. في ص170/171 أمام قسوة الحاضر والطائفية يبرز الماضي الجميل "إن الأمور لم تكن كذلك في السابق، تعيد عليه معزوفة أنهم كانوا جميعاً، إخوة وأحباباً وأبناء وطن واحد".
يحاول أن يقتنع بما تقول وهي تروي له كيف كانت، وهي المؤمنة بيسوع، وبشفاعة مريم، تحضر القرايات على الحسين في عاشوراء".
و"طشاري" مثل روايات كثيرة في هذا الجانب، مثل رواية جبور الدويهي "شريد المنازل" ـ رواية لبنانية ـ أو مثل رواية العراقي سنان انطون "يا مريم"، ومثل رواية السوري خالد خليفة "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، كلها روايات تحفل ببسمة الحنين إلى الماضي، أو مرض الحنين إلى الماضي، حيث كان النسيج الاجتماعي في بلدان الروائيين أكثر تماسكاً وتلاحماً، ثم جاء الدكتاتور وجاءت الطائفية وجاءت أميركا فصرنا طشاري.


أ. د. عادل الأسطة
2014-03-16



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى