أ. د. عادل الأسطة - ملامح لزينب حفني: خوض في التابوات (المحرمات)

في عام واحد صدرت طبعات ثلاثة من رواية الأدبية السعودية زينب حفني، عدا طبعة الأرض المحتلة (فلسطين) التي هي صورة عن الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الساقي (لندن) (2006).

وسنكون نحن، قراء الأرض المحتلة، قرأنا في هذا العام، ثلاث روايات سعودية هي "الحزام" لأحمد أبو دهمان، و "بنات الرياض" لرجاء الصانع، وأخيراً "ملامح" لزينب حفني. هذا إذا غضضنا الطرف عن روايات الكاتب النجدي، كما يحب هو أن ينعت نفسه، عبد الرحمن منيف الذي صدرت له بعد موته روايته الأولى التي لم يرغب في نشرها في حياته، وهي "أم النذور".

وربما نكون انقطعنا عن أدب الجزيرة العربية منذ فترة طويلة، ولم نعرف عن أحوالها، إلا من خلال النصوص التي يكتبها أدباء عرب أقاموا فيها، ثُمَّ غادروها، وكتبوا عن تجاربهم هناك. نذكر على سبيل المثال رواية يحيى يخلف "نجران تحت الصفر"، ورواية جمال ناجي "الطريق إلى بلحارث"، ورواية إبراهيم نصر الله "براري الحمى". وهي روايات تظهر قسوة الحياة في شبه الجزيرة العربية أو في صحراء المملكة العربية السعودية، حيث عَمِلَ هؤلاء الكتاب، لفترة قصيرة، معلمين في قرى نائية. وتختلف عن رواياتهم روايات كتاب لم يقيموا، في القرى، وإنما أقاموا في المدن، وإن لم يحدد هؤلاء الأماكن بالضبط، كما هو حال ليلى الأطرش في "امرأة للفصول الخمسة".

وقد تكون الصورة التي أبرزها الأدباء العرب سلبية إلى حد كبير، وربما اتهم بعضهم بعدم الوفاء للدولة التي رحبت به. وقد يكون السبب عائداً إلى اختلاف العادات والتقاليد، وقد يكون أيضاً طبيعة المكان الذي ذهب الكتاب إليه، المكان القاسي الذي قرأنا عنه في الشعر الجاهلي، في لامية العرب وشعر الشعراء الصعاليك والحطيئة أيضاً.

وتختلف الصورة التي قدمها أبناء المكان، مثل أحمد أبو دهمان، فبطل روايته هو ابن القرية، لا الوافد إليها من مكان آخر، قد تكون ظروف الحياة فيه أقل قسوة. وربما احتاج المرء إلى قراءة مزيد من النثر القصصي السعودي، ليرى الفارق بين ما يكتبه الذاهبون من العرب إليها – إلى السعودية، وبين ما يكتبه العرب السعوديون الذين ألفوا المكان، لأنهم نشأوا فيه، ولأن عاداتهم وتقاليدهم تبدو لهم غير ما تبدو لآخرين لهم عادات وتقاليد مختلفة. إن إنجاز دراسة، في هذا الموضوع، ستبدو مثمرة، ولعل طالب دراسات عليا يخوض فيه.

وأول ما يلفت النظر، قبل أن يدلف القارئ إلى صفحات الرواية، هو صدور ثلاث طبعات لكاتبة لها باع في كتابة المقال أكثر مما لها باع في عالم الرواية، في عام واحد، وبخاصة في العالم العربي الذي نادراً ما شهد طباعة عمل واحد، في عام واحد، غير طبعة، حتى لأدباء مشهورين مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش. الطاهر وطار، على سبيل المثال، أديب جزائري مشهور ومعروف في المشرق العربي وفي المغرب العربي، وهو كاتب جاد ورصين، ومع ذلك فإن الطبعة الثانية من أية رواية من رواياته قد تصدر بعد عام أو عامين أو ثلاثة من صدور طبعتها الأولى. وربما، إذا ما أنجز عملاً جديداً، ربما لم يحالفه الحظ في نشره فوراً. في الأعوام الأخيرة شكا من ذلك.

زينب حفني في هذا الجانب محظوظة، حظها حظ أحلام مستغانمي الأديبة الجزائرية، فهل يعود السبب إلى تميز روايتها جمالياً أم إلى أنها خاضت في المحرمات؟

لا شك أن أحلام مستغانمي قدمت عملاً مميزاً، من ناحية جمالية وأسلوبية، عدا جرأتها في الكتابة، فقليلة هي الأعمال الروائية التي وظف فيها أصحابها الضمير الثاني: الأنا/ أنت، سواء تطابق هذان أم اختلفا، وكان المرسل غير المرسل إليه. إنها أعمال تعد على أصابع اليدين على أية حال. فهل جددت زينب حفني في أسلوب الرواية العربية؟

قد تكون رجاء الصانع، في هذا الجانب _ أعني التجديد في الأسلوب – أوفر حظاً بكثير من زينب حفني، فرجاء التي تذكرنا روايتها برواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، من حيث أسلوب الرسائل، أفادت من التكنولوجيا الحديثة، وبذلك تكون تشابهت مع المتشائل واختلفت معها في الوقت نفسه. تشابهت معها في الأسلوب، واختلفت معها في أن مرسل الرسائل كان يتفاعل مع قرائها، ويقرأ ردود أفعالهم – وإن كان ذلك لعباً فنياً – ويبني رسائله اللاحقة عليها، وهذا لم يتوفر لإميل، ربما لعدم توفر تقنية (الانترنت) زمن كتب روايته.

وإذا ما نظر المرء في أسلوب رواية زينب حفني، وبحث عن شبيه له في روايات عربية سابقة، فلا شك أنه واجدٌ روايات كثيرة صيغت بهذا الأسلوب: تعدد الرواة. في "ملامح" نحن أمام أكثر من راو يروي روايته، يبوح باعترافاته. أمام ثريا وحسين وهند، وسيكون النصيب الأوفر لثريا. لقد عرفت الرواية العربية رواية وجهات النظر وتعدد الرواة على يد نجيب محفوظ ويوسف القعيد وآخرين. وهكذا يمكن القول إن الجدة في الأسلوب ليست هي السبب في طباعة "ملامح" ثلاث طبعات في عام واحد. إذن أين يكمن السبب؟

ربما يعود السبب في ذلك إلى أن الكاتبة خاضت في المحرمات. لقد لامست موضوعات حساسة، ربما لم تلامس من قبل، من كاتب سعودي، وأرادت الكاتبة أن تجعل من روايتها عملاً أدبياً لا يقل، في جانب الاعترافات، عن اعترافات (جان جاك ريو). وليس عبثاً أن صدرت الفصل الأول بمقطع من اعترافات هذا الأخير، وجعلت أبطالها يسيرون على خطاه. ستقص ثريا بجرأة نادرة، ربما لم نجد لها مثيلاً، إلا في "الخبز الحافي" لمحمد شكري، وفي "الرواية" لنوال السعداوي، وفي "يا سلام" لنجوى بركات.

إن بعض الصور التي قدمتها حفني للرجل مألوفة في الرواية العربية، وإن كانت قليلة، فحسين الديوث لا يختلف كثيراً عن محجوب عبد الدايم في "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، وربما لا يختلف كثيراً عن مثيله في رواية ليلى الأطرش "امرأة للفصول الخمسة". وربما يكمن الفارق، بين زينب وليلى في أن الأولى هي ابنة السعودية، خلافاً للثانية. قد يكون السعوديون سمعوا الكثير من العرب الذين ذهبوا إلى هناك، بخاصة بعد مغادرتهم، عن وصفهم بكذا وكذا. ولكن أن يصدر الاتهام عن سعوديين، يصفون المجتمع السعودي بكذا وكذا، فهذا ربما ما يبدو صادماً.

ولكن السؤال الذي يثار هنا هو: هل تسيء زينب حفني للمجتمع السعودي؟ ويتبع هذا السؤال سؤال آخر: هل تريد الكاتبة الدعوة لقيم جديدة أم أنها تريد ترسيخ القيم القديمة وتعزيزها؟

إن كانت هناك إساءة فلا تكمن، فيما أرى، في أنها كتبت عن ديوث سعودي، وفاجرة، أو مثلية. عن شخوص، في سبيل تحقيق ما يطمحون إليه، يدوسون على القيم جميعاً، ويتخلون عنها. (حسين يريد أن يغدو غنياً، فلا يمانع في أن تمارس زوجته الجنس مع المسئول عنه، حتى يسهم هذا في ترقيته، ومن ثم يصل حسين إلى أعلى وأعلى، وهذا ما تم له). فربما يكون مثل هؤلاء موجودين. ربما. ولكن لا أظن أنهم هم النموذج الأبرز. حقاً إن الرواية تأتي على نماذج مغايرة، محافظة وسعيدة وقنوعة، لا تصل إلى ما وصل إليه حسين، أو ما وصلت إليه ثريا، فوالد هذه ووالدتها شرفاء. فقراء ولكنهم قنوعون، ولا يسلكون، في سبيل التخلص من الفقر، مسالك تدفعهم إلى الرذيلة. ولكن الرواية تبرز، أكثر، من هؤلاء حسيناً وثريا. هذان هما اللذان يتحدثان ومثلهما هند؟ وربما يكون قصد الكاتبة يكمن في نهاية الرواية، فثريا، كأنما من خلال اعترافها، توحي لنا بأنها أخطأت، وتمنت لو نهجت نهج أمها، وسارت على الصراط المستقيم. وربما ما يعزز هذا الإهداء الذي مهدت له الكاتبة روايتها: "إلى كل نفس فقدت ملامحها"، كأن الكاتبة هنا تقول لهؤلاء: اتعظوا، ولا تفقدوا ملامحكم. كونوا أنتم حتى تعيشوا هادئي البال، ولا تفكروا في أن تكونوا غيركم، لأنكم إن فعلتم هذا فسيكون مصيركم مصير ثريا وحسين: الوحدة والوحشة والموت بعيداً عن الأهل والأحباب. ولعل زينب حفني تدعو إلى ترسيخ القيم القديمة أو بعضها على الأقل. وهي لا شك تحارب مفاهيم بالية.

إنّ ما آلت إليه هند، هذه التي رفض إخوتها أن يزوجوها، حتى لا تذهب ثروتها إلى غيرهم، فتحولت إلى مثلية، إنّ ما آلت إليه هند لهو مما تحاربه زينب حفني. لا شك في ذلك، فمآل هذه الشابة، حرصاً على المال، لهو مما يحاربه الدين والعقل والحس الإنساني. وهكذا فإن هندا المثلية ضحية العادات والتقاليد والأثرة وحب المال.

وعلى العموم يمكن القول إن "ملامح" تضاف إلى روايات عديدة أنجزها روائيون وروائيات عرب معاصرون، خاضوا فيها بجرأة – أنا أحسدهم عليها، لأنني أبدو غير جريء قياساً لهم – خاضوا فيها بجرأة في موضوعات كانت تمس، ربما، مساً، وتلامس ملامسة، - علماً بأن قارئي تراثنا يكررون دائماً أن أسلافنا كانوا أجرأ منا بكثير – تلامس ملامسة محرمات الجنس والطبقة والدين. و "ملامح" واحدة من هذه الروايات التي أظن أن تدريسها في الجامعات غير ممكن.

الجمعة 24 نوفمبر/ تشرين الثانى2006



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى