أ. د. عادل الأسطة - الأسود يليق بكِ.. الأسود يليق به

آخر روايات الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي هي رواية "الأسود يليق بكِ"، وقد صدرت هذا العام، ولا أدري إن كانت رشحت لجائزة "بوكر" العربية التي قرأنا، قبل أسبوعين تقريباً، قائمة بعناوين الروايات المرشحة للقائمة الطويلة وأسماء مؤلفيها، ولم تكن رواية مستغانمي من ضمنها.
وتذكّر الرواية قراء الأدب العربي بذلك الجدل الذي كان تفجّر في الساحة الأدبية العربية في 60ق 20 ويلخصه السؤال الآتي: هل يكتب الفن من أجل الفن أم أنه يكتب من أجل الجماهير، ليأخذ بيدها نحو عالم أفضل؟
كان توفيق الحكيم كتب مسرحيته "بجماليون" ليناقش الفكرة هذه ولينحاز في المسرحية إلى عالم الفن، خلافاً لجورج برناردشو الكاتب الإيرلندي الساخر الذي سبق الحكيم في معالجة أسطورة "بجماليون" لينحاز، في المسرحية، إلى عالم البشر، فالفن يجب أن يوظف لخدمة المجتمع.
الناقد اللبناني جورج طرابيشي عالج الموضوع المثير للجدل في كتابه "لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم" وتوقف مطولاً أمام مسرحية الحكيم "بجماليون". طبعاً كان الحكيم كتب، أيضاً، مسرح المجتمع، وعالج فيه قضايا اجتماعية.
سؤال الكتابة للنخبة والكتابة للجماهير أرّق، أيضاً، غسان كنفاني بعد نشره روايته "ما تبقى لكم" (1966). "لمن أكتب أنا؟" تساءل كنفاني بعد أن لاحظ أن روايته صعبة على القراء العاديين، وأنها لا تفهم بسهولة إلاّ من عدد من النقاد. "هل أكتب ليكتب عني ناقد مادحاً ما أكتب، أم أكتب للتواصل مع الجماهير؟" سأل كنفاني نفسه، أيضاً، وآثر الكتابة للتواصل مع الجمهور، وهكذا كتب "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" (1969) بأسلوب بسيط، إذ يمكن قول الأشياء العميقة بأسلوب واضح بسيط.
هل محور رواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بك" هو الفكرة السابقة؟ هل تغني هالة الوافي لطلال هاشم وحده، أم تغني للجماهير؟
طلال هاشم شخص ثري جداً جداً. كان إنساناً عادياً أراد أن يدرس الأدب المقارن، ثم سافر إلى البرازيل ليعمل في التجارة، وأقام هناك 25 عاماً أثرى خلالها وعاد إلى بيروت وأصبح رجل أعمال ينفق جلّ وقته في تنمية أمواله وفي متابعة مشاريعه، وغدا من نخبة النخبة. ثري مثقف ثقافة موسيقية، يسافر باستمرار ويحيا الحياة، لديه شغف بالنساء، على الرغم من أنه متزوج ولديه ابنتان. لا يثق بالمرأة بسبب خيانة زوجية، وهكذا يقيم علاقات عابرة مع نساء.
وهالة الوافي معلمة جزائرية حلبية الأم. كان والدها مغنياً اغتاله الإرهابيون في الجزائر إبان الفوضى التي عمّت البلاد، كما اغتالوا أخاها علاء، ولم يبق أمام الأم السورية إلاّ العودة إلى بلادها، بصحبة ابنتيها: هالة ونجلاء. هالة المعلمة تحزن لاغتيال أبيها وأخيها. تحتفظ بعود أبيها، وتقرر أن تترك التعليم وأن تمارس الغناء.
كيف تعرّف طلال هاشم إلى هالة؟ كان طلال يجلس في بيته، فلفت لقاء تلفازي مع هالة سمعه. كانت هالة التي ترتدي الأسود حزناً على أبيها وأخيها ذات صوت لافت. صوتها وهي تتكلم، لا وهي تغني هو ما لفت نظر طلال، وحين كان، وهو مسافر، يتصفح مجلة رأى صورة هالة التي لم يعرف اسمها من اللقاء، وقرر متابعتها، وهذا ما كان. وهكذا سعى لامتلاكها. هي ذات دخل متواضع، وهو ثري ثراءً أسطورياً، فهل سيلتقيان؟
يريد طلال من هالة أن تكون له، وأن تغني له هو المولع بالموسيقى، ولا يريد لها أن تغني للآخرين، وحين يعرف أنها ستحيي حفلاً غنائياً يحجز القائمة كلها، ولا يكون أحد فيها سواه يستمع إلى هالة وهي تغني. وهكذا تنفق هالة عامين بصحبته، يلتقيان في باريس وفي فيينا وفي بيروت. وهو غير متعجّل للنوم معها. إنه يريدها على نار هادئة. يريدها ببطء، ولكنها لا تمكنه من نفسها، لأنها تريد زواجاً لا لقاءً عابراً. وحين يفضي لها بأسراره، وترفض أن تمكنه من نفسها، وحين يراها تحادث جزائريين من بلادها تبدأ الغيرة ويبدأ الشك. وحين ترفض أن تأخذ منه المال، يبعثره في غرفتها في جناح الفندق، ويبدأ بإهانتها وشتمها، ويبدأ يتصرف كرجل شرقي، ما جعل العلاقة بينهما تسير إلى نهايتها. وحين أهملها استبدّ بها الحزن الذي لم تخرج منه إلاّ حين دعاها ابن بلدها عز الدين، حين التقى بها في الشام بالصدفة، إلى إحياء حفل في (ميونيخ) يعود ريعه لمساعدة اللاجئين العراقيين الذين يعانون بسبب الحرب واحتلال أميركا لبلادهم. وستشارك هالة في الحفل، وستخلع ثيابها السود، وسترتدي ثياباً ذات لون لازوردي، وستغني للجماهير، وسينتابها الفرح. وهكذا تدب فيها الروح من جديد. أما طلال هاشم فقد تابع حفلها وهو وحيد في شقته، لا أحد حوله، يرتدي الثياب ذات اللون الأسود، فالأسود الذي كان يليق بها، وخلعته، ارتداه هو وأخذ يليق به. لقد أخلصت هي للحياة، ولم تحبها، في حين أحب هو الحياة ولم يخلص لها، فقد أخلص لماله، لأصفاره، لأرقامه، ولم يأبه بالناس.
هل نتعاطف نحن مع هالة الوافي أم نحتقرها؟ ترى لو لم يهنها طلال وعاملها بلطف ولم يغر عليها ولم يشك في سلوكها، ترى هل كانت ستغني في (ميونيخ) للجماهير أم أنها كانت ستغني له وحده، هي التي أملت أن تدوم علاقتها به حتى النهاية، بل وأملت أن تغدو له زوجة تنجب له الابن الذي يريده حتى يورثه ثروته الأسطورية؟
رواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بكِ" رواية ممتعة، لا شك في ذلك، وهي رواية تحتاج إلى قراءة متأنية، ففيها من الأقوال والحكم والأمثال وبذخ اللغة ما يجعل المرء يتوقف مطولاً أمام أسطرها، ليمعن النظر فيما يقرأ. لا تتقشف أحلام في لغتها. كأن أحلام الشاعرة تحضر أكثر من أحلام الناثرة، على الرغم من أنها توقفت كثيراً أمام أحداث الجزائر في 90 ق20، بل وجعلتها خلفية للرواية، لتعالج موضوع الغناء في بلدها إبان المد الإرهابي والتعصب.
تغني هالة الوافي للجماهير وتخرج من حالة الحزن التي ألمّت بها بعد افتراقها عن طلال هاشم، وتجد نفسها ـ تكتشف نفسها مع الناس. والسؤال الذي أثيره هو: إذا كان في هالة شيء، من أحلام، فلماذا لا تكتب أحلام بلغة أكثر بساطة، بلغة فيها تقشف، لا إمعان في المجاز، حتى تتواصل مع الجماهير؟ أحلام في روايتها هذه تذكرنا بلغة محمود درويش الشعرية. ثمة لغة مجاز لافتة، وكما قال درويش في "تعاليم حورية": "وأنشأ المنفى من لغتين: / دارجة... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى/ وفصحى.. كي أفسر للظلال ظلالها!" ولغة أحلام في كثير من صفحات روايتها لغة ظلال، أظن أنها سترهق قارئها. ولعلني لم أقل كل شيء؟!.

أ. د. عادل الأسطة
2012-12-23




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...