أ. د. عادل الأسطة - نـظـرة الـشـاعـر إلـى الـشـاعـر: في ذكرى معين بسيسو ٣٨

في ٨٠ القرن ٢٠ كتبت قصة استلهمتها من قصة الشاعر الأموي يزيد بن مفرغ الحميري الذي هجا خصومه السياسيين، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، فعاقبوه بأن يمحو بأصابع يديه ما كتبه على الجدران ثم أسقوه سائلا مسهلا وطافوا به، على ظهر حمار، في الأسواق.
لم تنشر القصة التي أرسلتها إلى مجلة «الكاتب» لأن الرقيب الإسرائيلي لم يجزها، ويبدو أنه فهم مغزاها الداعي إلى مواصلة الكتابة ولو على الجدران، ومن يراجع أعداد المجلة يقرأ اعتذار محررها لمن لم تنشر موادهم.
ضاعت القصة التي لا أمتلك مسودة لها فلم أنشرها في زمن لاحق.
في نهاية ٧٠ القرن ٢٠ كتبت قصة عنوانها «عروة بن الورد ينشر قصيدة جديدة» ظهرت في مجموعتي «فصول في توقيع الاتفاقية» (١٩٧٩) قدمت فيها اقتراحا لاستلهام التراث للتحايل على الرقيب الإسرائيلي الذي أحبط كتابا كثيرين بعدم إجازة كتاباتهم، وفي تلك السنة، أصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية الأولى «السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير» وقد ضمت قصة «النابغة الذبياني يهجو النعمان بن المنذر» وعالج فيها موقف الجمهور من الشاعر؛ حين يمدح الشاعر الحاكم يبتعد عنه الجمهور، وحين يهجو الحاكم يتناقل الجمهور قصائده.
في تلك السنوات، كنا نتناقل أشرطة مظفر النواب وإذا ما صدرت له مجموعة شعرية اقتنيناها دون تردد، فقد كان شاعر هجاء من الدرجة الأولى، ولم يكن الرقيب الإسرائيلي يمنع قصائده فهي تهجو الحاكم العربي.
الآن، ولى زمن الرقيب المباشر وحل محله الرقيب الآلي «الخوارزمي»، فسرعان ما تمنع من النشر أو سرعان ما يغلق حسابك في وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) إن خدشت معايير المجتمع (؟؟؟).
ما الذي ذكرني بما سبق؟
في الأسبوعين الأخيرين، أعدت قراءة كثير من أشعار معين بسيسو وتوقفت أمام قصيدتين هما «قصيدة فوق الجدار» و»قصيدة على سيف البحتري» وفيهما يكتب عن نوعين من الشعراء؛ الشاعر «المهدور دمه في كل زمان»، والشاعر الذي «يدرب القصائد كيف تبيع رأسها على الوسائد وكيف تحلب الثديين في نعلي أمير». الأول صاحب قضية وضمير، والثاني «مخبر وشرير يضاجع الدينار وهو واقف، أو وهو راكع».
لا يذكر معين في الأولى ابن مفرغ الحميري، ولا أعرف إن كان قرأ قصته، ولكنه يذكر في الثانية الشاعر العباسي البحتري مثالا.
قارئ الشعر الأموي الملم بقصة ابن مفرغ سرعان ما يتذكره، فمعين يكتب:
«أنظر إن بقيت في وجهك عينان
خمسة فرسان بينهم الشاعر
وقصيدة غضب حفرت فوق الجدران
ضد لويس الأول، ولويس الحادي والعشرين...
- «امسحها بيديك ...
أبيات قصيدتك الملعونة والمحفورة فوق الجدران... .»
فهل رمز الشاعر بلويس إلى معاوية أم أن الأدب الفرنسي عرف ما عرفه الأدب العربي؟
يمسح الشاعر أبيات قصيدته بيديه حتى تذوب يده اليمنى فيواصل باليسرى وتذوب أيضا قبل أن يتم مسح القصيدة كلها فيبدأ المسح بلسانه وعليه أن يواصل المسح ولو بوجهه وبعينيه حتى يسقط:
«سقط الشاعر .../
سقط وبقيت فوق الجدران المفروشة/
كالنطع الأسود كلمة «لا»/ «لا» للويس الأول ولويس الحادي والعشرين/ «لا» للزنزانة ولمقص رقيب السلطان/ وللسكين».
وينهي معين قصيدته بالأسطر الآتية:
«ما دام دم الشاعر مهدور/ نحن جميعا من غير أياد/ نحن جميعا من غير وجوه».
وأظن أن معين، منذ شبابه، اختار درب هذا النوع من الشعراء، وأبى أن ينهج نهج البحتري الذي نعت بأنه شاعر التكسب، علما بأنه قال في «سينيته»:
«صنت نفسي عما يدنس نفسي/ وترفعت عن جدا كل جبس»،
والجبس هو اللئيم.
وما يدعم رأيي ما كتبه معين في «دفاتر فلسطينية» عن موقفه من الشاعر الجواهري حين مدح ولي العهد العراقي:
«وكانت صدمة كبيرة بالنسبة لنا نحن الذين قرأنا الجواهري، فقررنا في خلية الشامية وبالإجماع، حرق محمد مهدي الجواهري. كومنا دواوينه وأشعلنا فيها النار».
وفي صفحات سابقة، يأتي معين على زيارة الجواهري القاهرة بدعوة من طه حسين حينما كان وزيرا للمعارف في عهد حكومة الوفد المصري، فيكتب:
«- محمد مهدي الجواهري، لماذا يحوم كل هذا الذباب الأزرق فوق أصابع يديه الآن؟».
وما يدعم رأيي أيضا ما كتبه وهو في السجن عن الشاعر السوري شوقي بغدادي.
لقد طلب من معين أن يستنكر الحزب ويخرج فرفض، وحين قرأ، من خلال جريدة لفوا بها الباذنجان والفواكه، أن بغدادي قد استنكر وخرج وكتب:
«- قد كنت ابنا ضال/ يا عصبة الأوحال/ وخالد الدجال..» - المقصود بكداش.
حين قرأ معين هذا استاء.
الكتابة تطول والمساحة محدودة


عادل الأسطة
2022-01-23


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى