رائد الحواري - محمود أبو الجدايل يبكي دمشق في "زمن الخراب"

مقالات في أدب محمود شاهين (11/2)



"محمود أبو الجدايل"

"محمود أبو الجدايل" الشخصية المحورية في الرواية، وغالبا ما تحدث عن نفسها ـ إذا ما استثنيا حديث الألم والقهر ـ التي كانت تستعين بالسارد، ليتحدث بديلا عنها، وهو شخصية واقعية، إنسانية، لكنه يأخذنا إلى عالم الخيال والتخيل، سنتناول أولا محمود أبو الجدايل الإنسان، الفنان، الأديب، ونرى كيف تكون مشاعره تجاه الفقد والبعد: "...حتى ألفى نفسه بطنا على السرير، وهو يدرك إلى حد لم يبلغه من قبل إلى أي مدى يعني فقدانه وتركه لبيته ودمشق، تمنى من الله شيئا واحدا فقط أن يتيح له أن يبكي، ولم يكد ينهي تخاطره مع الله إلا والدموع تنزل من عينيه مدرارا، وراح يبكي ويبكي ويبكي.. يبكي حاله، ويبكي دمشق، يبكي بيته، ويبكي الحياة برمتها" ص41، رغم أن السرد جاء على لسان سارد خارجي، إلا أن مشاعر "محمود أبو الجدايل" هي المتكلمة، فكثرة استخدام الحروف واسماء الاشارة "حتى، على، وهو، إلى، لم، من، أي، أن، له، مع، إلا" والتي تشير إلى حالة غارقة في الألم والوجع، وأيضا تكرار "يبكي" سبع مرات يؤكد على أن المقطع جاء من "محمود" وليس من السارد، وهنا يكون (الكاتب) قد اخفق في التخفي وراء لغة السارد، وكان عليه أن يتكلم بلغة الأنا، لأن اللغة والمشاعر السابقة لا يمكن أن تأتي من سارد خارجي، واعتقد أن تكرارها "يبكي" سبع مرات يشير إلى ـ العقل الباطن ـ للكاتب الذي يعرف قدسية رقم سبعة ومكانته الدينية، وما يؤكد هذا الأمر أنه جاء بعد حالة إيمانية صافية "مناجاته/تخاطره مع الله" فهو هنا مؤمن ومتوحد مع الله، لهذا كانت الاستجابة مباشرة وآنية.

وهذا يأخذنا إلى أن الكاتب يحاول ـ قدر المستطاع ـ أن لا يتحدث عن مشاعر الألم أمامنا نحن القارئ، ويفضل أن تأتي هذه المشاعر على لسان سارد خارجي، وهذا يشير إلى نفوره من الحديث القاسي/المؤلم، فهو يتوق للفرح، وهذا ما سنجده في أفكاره عندما يحدثنا عنها، فهو يرفض وينفي فكرة الألم/العذاب حتى لأولئك الأشرار، الذين يعاقبهم بطريقة (مهذبة ولطيفة): "فقد نزه الخالق عن العذاب وجعله محبة مطلقة" ص46، "محمود أبو الجدايل" الأديب الفنان صاحب المشاعر المرهفة يرفض العذاب والتعذيب، ويتعامل مع الحياة من منظور السعادة والهناء.

الضغط الشديد على "أبو الجدايل" جعله شخصا قلقا، أرقا، متوترا، لهذا كان يأخذ حبوب منومة، لكنها لم تكن تفي لتهدئته وتسكينه:" فهذه الحبوب ... لا تنوم دجاجة، فكيف بمن يحمل كل هذا القلق" ص62، وهذه اشارة إلى الأديب الفنان الذي يتأثر بكل شيء وبأي شيء، فهو يتمتع بمشاعر مرهفة تؤثر فيها أبسط الأشياء، فكيف بتدمير وطن وتشريد شعب؟.

وهذا الضغط جعله يتجه إلى الخيال: "يهرب محمود أبو الجدايل من عالمه الكريه في "زمن الخراب" هذا، ليعيش مع أحلامه في عالم متخيل يريح نفسه وينسيه هذا العالم، أصبحت معظم كتاباته في العقود الأخيرة تدور في فانتازيا موغلة في الخيال المطلق، دون أن تتجاهل البحث عن ماهية القائم بالخلق" ص156، إذن الخيال هو العالم الآخر الذي يستطيع به الأديب الفنان أن يكون/يجد ذاته فيه، فقد أرهقته الحروب وأتعبه التشرد، وآلمه مشاهدة المهجرين والمشردين.

ولكن هذا العالم المتخيل لم يكن دائم النجاح، الواقع بسطوته كان حاضرا وأقوى من التخيل: "فلم يكن في بعض الاحيان ينجح في تمثل عالم متخيل أو استنهاض دخيلته إلا لبضع دقائق، ليجد نفسه بعد ذلك يغوص في الواقع من حوله، ...يشرع في الكتابة، إما عن الحال التي آل إليها العرب في مجتمعات ما تزال ترزح تحت نير التخلف والاضطهاد، وإما عن رؤيته الفلسفية عن القائم بالخلق، في اتعس محاولة لإنقاذ أمة لا تقرأ، من الجهل المحدق بها" ص165، يعرفنا "محمود" بنفسه اكثر، فيحدثنا عن مشاعره تجاه الواقع، والواقع هنا لا يتمثل بهمومه الشخصية فحسب، بل بالواقع العام، واقع الأمة وهمومها، فهو يحمل همين، همه الشخصي وثقل الحياة عليه، وهموم امته/شعبه، ومحاولته التخلص من الضغوط بالحبوب أو التخيل، ما هي إلا تأكيد على نبله وانتمائه لواقعه، فهو ليس بليدا، أو غير مبال، بل إنسان وطني/قومي ومنتم، ويعمل فوق طاقته على تبيان وتوضيح حالة الأمة بكتاباته ولوحاته.

فأعماله الفنية والأدبية وسيلته في التعبير، يحاول بها أن يعالج مشاكلة المادية، وأيضا يكشف مواضع الخلل في الأمة لتبينها ومعالجتها، لكن ليس كل ما يصدر عن الفنان الأديب مبهر: "ثمة لوحات أحبها وثمة لوحات أرسمها بسرعة لأتسلى، ليس كل ما يرسمه الفنان يعجبه، مع أنه يعجب بعض الناس وليس كل الناس، والأمر نفسه ينطبق على الكتابة" ص175، وأعتقد أن هذه الموضوعية في الحديث عما يصدره من أعمال أدبية وفنية يعد حالة استثناء، لأن غالبية الكتاب والفنانين يتعاملون مع انتاجهم كما يتعاملون مع أولادهم، بمعنى: مهما كانت طبيعة العمل يعتبرونه عملا يمثلهم وخارجا من دخائلهم، فنقده وإظهار ما فيه من مغالاة زيادة أو نقصان يعدونه تعديا وتناولا شخصيا لهم وليس لأعمالهم.

ويحدثنا عن رؤيته/نظرته للنساء وكيف يراهن: "ـ ... كنت في الماضي أتخيل بعض الصديقات الجميلات اللواتي لم استطع الوصول إلي قلوبهن، غير أنني مللت من نساء الأرض، فألجأ في أحيان كثيرة إلى نساء من عالم السماء، حتى مع ربات وملائكيات وحوريات...الحب مع الربات مسألة خارقة" ص181، اللافت أن "أبو الجدايل" يتحدث عن أفكاره بحرية ووضوح أمام "لمى" وكأنها بحضورها وأسئلتها تفجر/تحرك فيه الطاقة الفكرية، وتفتح لها الأبواب لتنطلق بحرية ودون معيقات، فتجعله يسهب الحديث، وإذا ما ربطنا حديثه عن النساء المتخيلات، بقوله السابق عن لجوئه إلى عالم الخيال وقت الضيق، يمكننا الاستنتاج أن التخيل والخيال جزء حيوي من سلوك "أبو الجدايل" فهو يتعامل معه بكثرة، فهل أصبح "أبو الجدايل" رجلا خياليا؟ أم بقي رجلا أرضيا يعيش الواقع؟.

"أنا شخصيا بات لدي عقدة من الحياة الزوجية بحيث أصبحت أنكرها وألغيها من حياتي أحيانا، بعد أكثر من ربع قرن من حياة الوحدة والحرية...أشرت إلى عدم الحرية في مجتمعنا ومحدودية اختيار شريكة العمر، التي تتم بشكل خطأ، وتكون في الغالب نتاج الحاجة إلى الاكتفاء الجنسي، وليس بدافع الحب كما يعتقد الكثيرون" ص197، تأكيد آخر أن العالم الأفضل عند "أبو الجدايل" هو عالم الخيال، فلم تعد حياة الناس على الأرض وسلوكهم ـ حتى في مسألة عادية/طبيعية، الزواج ـ تنسجم مع افكار"أبو الجدايل" فطريقة تفكيره تجعله خارج المكان والزمان، رغم حضوره ماديا (جسديا) بيننا.

طريقة التفكير التي وصل إليها "أبو الجدايل" كانت لها مقدمات وبدايات ودوافع، يحدثنا عنها بقوله: "...لكن حب المعرفة لدي الذي رافقني في سن مبكرة لعب دورا في المسألة، إضافة إلى أنه اتيح لي أن أتعرف إلى أشاص يفكرون بمنطق وعقلانية وعلمانية إلى حد كبير، رحت أبحث عن نفسي في هذا العالم متعدد الثقافات، وأسعى لإيجاد موضع لي فيه.. نميت معرفتي وطورت ثقافتي بكثرة القراءة والاطلاع والتأمل والتفكير، ...لم أقرأ كتابا منذ أوائل عشرينيات عمري إلا بعين نقدية" ص 260، بقدراته الذاتية، والتوقف عند الأفكار المقدمة في الكتب. وفي المقابلات الشخصية، استطاع "أبو الجدايل" أن يشكل/يكون ثقافة/رؤية/افكارا خاصة به عن الحياة والكون والمجتمع والمعتقدات، فهو لم يأخذ/يتعامل مع أي نص/أفكار على أنها مقدسة، بل قابلة للتحليل والبحث، فوصل إلى هذه الفكرة: " لقد أصبحت على قطيعة شبه مطلقة مع المعتقدات كلها، وحسمت الأمر بأنها فكر بشري وليس إلهيا.. لكني لم أحسم فهمي للقائم بالخلق، فكنت أقرب إلى الالحاد، واستغرق الأمر أربعة وعشرين عاما أخرى لأبدأ بحسم الأمر في اتجاه التصوف وتأسيس مذهب صوفي جديد أسميته "الصوفية الحديثة" تبلور في الأعوام اللاحقة، وما يزال التعمق فيه قائما لدي" ص262، وهنا يطرح "أبو الجدايل" أهمية وضرورة التفكير، فهو يرفض تقديس كل ما هو جاهز/مطلق/كامل، ويتعامل مع كل شيء، على أنه قابل للبحث والتفكير والتطوير، وهذا الأمر يشير إلى تأثره بمبدأ "الشك" الذي يدعو إلى التفكير في كل ما يحيط بالإنسان من البدايات، فأينما أوصله التفكير تكون الحقيقة/الإيمان.

اعتقد أن الخراب الذي نعيشه الآن، وبعد خراب أربع دول، وقبلها ضياع فلسطين والاسكندرون والأحواز، يجعلنا نتأكد بضرورة وأهمية فتح باب التفكير وعدم أخذ أي أفكار ـ حتى المقدسة ـ على أنها مسلمات، فالبحث والتفكير أصبح ضرورة لنا، إن اتفقنا على ما وصل إليه "أبو الجدايل" أم لم نتفق، يبقى التفكير والبحث طريق الخلاص من التكلس والصدأ الذي أصاب عقولنا..

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...