تقديم:
حين يجمع المبدع بين الشعر والقصة والفلسفة، فاعلم أنك أمام ظاهرة تستوجب التوقف عند ملامحها ومظاهرها وتجلياتها، وحين تكون أمام مبدع أيضا رحل عن الديار عبر "طرق لا تعرف وجهتها" فتأكد أن تجربة الحياة قد ألهمته قوة التحدي والتشظي.
إنه المبدع والكاتب عبد الله فراجي، الذي نراود في هذا الموقف رؤيته للوجود والحياة والمجتمع، ونرصد أهم مراحل هذه التجربة القصصية، بالاقتراب من عالم الإمتاع والمؤانسة التي يتحفنا بها.
ومن القضايا التي تثير فضول القارئ في هذه المجموعة، نذكر:
1- الجمع بين الإبداع الأدبي والتفكير الفلسفي:
تتجلى هذه المقاربة انطلاقا من التسمية، أو التمثيل بالشخصيات المعروفة في مجال الفلسفة. فحين نقرأ قصة أغلب أحداثها تخيلي، وفي الوقت ذلك يتحفنا الكاتب بأعلام الفلسفة؛ فذلك دليل على تشبع كلي بهذا النمط من جهة، ومحاولة ربط الفكر بالواقع من خلال جسر التخييل السردي من جهة ثانية.
نقرأ مثلا المقطع الآتي: "يعَرف أرسطو الشجاعة مثلا بكونها وسطا بين قيمتي التهور والجبن... والكرم من حيث هو اعتدال بين البخل والتبذير، وكل القيم الأخلاقية المثلى هي وسط بين قيمتين متطرفتين...
هكذا أجدني أرى أن الحكمة في وضوحها وصرامتها نقيض مباشر للجنون المبهم."
وأثناء الحكي، ينبه السارد إلى أهمية تجاوز العقبات، بتمثل دور الغافل عن العاهة التي يعيشها البطل، ومحاولة نسيانها، بتبني فكرة الإسقاط؛ إسقاط قضية النقص على الآخر. ومن ثمة، يقدم لنا الوسيط الفكري الذي يجرد الحدث من حمولته الفعلية، إلى تماهٍ وصورة التمثل الفلسفي المجرد.
2- الثنائيات الضدية وحضورها المكثف في قصص المجموعة:
غالبا ما نستهل الوقفات النهائية، أو القفلة، بتقديم الحل، أو فتح المجال أمام القارئ لتوقع النهاية المرتقبة؛ فنكون إزاء أفق توقع الانتظار. في المجموعة القصصية "طرق لا تعرف وجهتها"، القصص أيضا لا تعرف سبيلها العادي والمعهود، بل يحتفظ الكاتب بالخيط الرابط بين الحدث الرئيس الذي يحرك باقي الوقائع، وفي الوقت ذاته يشير بين الحين والآخر إلى قضايا ذات صلة بالواقع. وهو بذلك يدفع المتلقي إلى الى استبصار ثنايا الحكاية للبحث عن القصد والبعد القيمي الذي يهدف إليه.
وتبقى النهايات مفتوحة على الآفاق، كما المرحلة التاريخية التي سيقت فيها الأحداث وقبلها قليلا، لا زالت تحبل بمعطيات وجب، ويجب مواجهتها.
حين نعود قليلا إلى المجموعة القصصية السابقة "خطوط ومنعرجات"ـ تتضح الرؤية أكثر.
يقول في قصة قصيرة جدا بعنوان "2011":
في هذا الزمن كثر اللغط، والشطط..
واختلف القوم وهم يُنَظِّرون للمرحلة:
الأول: خريف في ربيع متفتح..
الثاني: سبحان مبدل الأحوال!!
الثالث: أوراق تتساقط..
الرابع: وفاكهة الشر أيضا..
الخامس: بعد هز الأشجار... طبعا
..
انتهت المرحلة ولم ينته الخلاف."
3- الجمع بين المشهد السينمائي والمشهد التصويري السردي القصير:
جاء في قصة قصيرة جدا بعنوان ""شريط لم يكتمل": ...ولأنه يخلط بين الخطوط والألوان، قال واثقا من نفسه: لقد رأيت هذا الشريط في مهرجان سابق.. وسأغير نهايته.. استبدل مقص الرقابة بمدفع رشاش.."
غير أن عبد الله فراجي في مجموعته القصصية التي نحن بصدد تقديمها، يختار نهاية مستوحاة من الشريط السينمائي. لذا فقصة "ثالث اثنتين" مستوحاة من فيلم قصير كما يؤكد ذلك بنفسه . كما أن التتبع الدقيق للأحداث في قصصه، يشدنا ما يتصل بالتصوير المشهدي للوقائع والشخصيات والأحاسيس. وهو ما يقترب قليلا من "الإرشادات المسرحية" التي تحيل المخرج على بعض المعيِّنات التي بها يقدم الصورة في أدق تفاصيلها للمتلقي.
وما دام المتلقي في القصة القصية قارئا، فالكاتب يستطرد قليلا في تقديم تفاصيل تتعلق بالحدث، حتى لا يخرج عن إطار الحدث الوحيد في النص. ويُتبع ذلك بتفاصيل تؤثث فضاء الحكي، وتنير بعض المداخل والمخرجات التي بها تلتقط العبر والدروس.
من أمثلة ذلك نذكر:
"اتخذ لنفسه مكانا قصيا للجلوس والترقب، وسط القش والقمامة، ابتعد عن الأنظار، وحاذر أن تكشفه الأنوار، حتى لا يثير انتباه المارة وأعين الطفوليين. كان من موقعه المتواري، يرقب الحياة التي تدب من حوله، ويشاهد تلك الفوضى المنظمة بين الناس والآلات. جيئة وذهابا يتواتر فيها البشر كالنمل، بكل الأعمار والأطوار والهامات المختلفة."
فما تم إثباته في بداية القصة، يوحي بتصوير دقيق لمنظر يمكن أن يتخيله القارئ، كأنه جالس في مصطبة مقابل المشهد. في انتظار تقديم الشخصية أولا، والحدث الرئيس ثانيا. لذلك فتتبع المسير التفصيلي والتصويري من الأسس التي يبني بها المبدع عبد الله فراجي حبكة قصصه القصيرة.
4- العبرة والدروس أساسا التوجه السردي.
من الأمور والقضايا التي تشكل رافدا أساسا للسرد القصير لدى عبد الله فراجي، نذكر المقصدية، أو الهدف المتوخى إيصاله للمتلقي. ولا يعني ذلك أن ما يسرده الكاتب يكون ذا طابع تقريري مباشر، يحدث الخلل الإبداعي، فيقترب من السير العادي للمقال أو الدرس، بقدر ما يضعنا الكاتب أمام معضلة التدقيق والبحث عن الدروس انطلاقا من القراءات المتعددة، ومن تتبع ما بين السطور، وقراءة البياضات الممكنة.
كل ذلك، يحيلنا إلى الوظيفة التعبيرية التي تتوخى التأثري في المتلقي. ويستلهم الأسس الفلسفية من جهة، والدروس النابعة من الرؤية الواقعية للأحداث، وربطها بالتصور الفكري والنفسي والاجتماعي للنسق السردي المغربي خاصة والعربي عامة.
ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الأبعاد الاجتماعية في القصص المنشورة في هذه المجموعة القصصية. فمنها ما يرمز إلى أهمية الالتفاتة لذوي الاحتياجات الخاصة، وضرورة إعادة الاعتبار للفن الجميل الهادف، وتعدد الزوجات وبخاصة زواج الكهول من الشابات، والتسول، وفتنة الهاتف النقال، ثم فوضى الحافلات، ففوضى السلطة والرشوة... وغيرها من القضايا التي يمكن تتبعها بقراءة القصص كل على حدة، بتمعن وروية.
أخيرا ما يمكن أن نشير إليه، هو كون المجموعة القصصية 'طرق لا تعرف وجهتها"، تحدد الاتجاه والوجهة، لكن السبيل يختلف من قارئ إلى قارئ، والبحث عن المجهول انطلاقا من قراءة النصوص القصصية يوحي في الغالب إلى كون المقصدية ثابتة، وأن البحث عنها يكون بتعدد القراءة، وتعدد التأويلات التي يمكن أن تقدِّم المعنى المراد، أو بالأحرى الوصول إلى المنشود الذي يبحث عنه الكاتب عبد الله فراجي بين سطور نصوصه السردية القصيرة.
حين يجمع المبدع بين الشعر والقصة والفلسفة، فاعلم أنك أمام ظاهرة تستوجب التوقف عند ملامحها ومظاهرها وتجلياتها، وحين تكون أمام مبدع أيضا رحل عن الديار عبر "طرق لا تعرف وجهتها" فتأكد أن تجربة الحياة قد ألهمته قوة التحدي والتشظي.
إنه المبدع والكاتب عبد الله فراجي، الذي نراود في هذا الموقف رؤيته للوجود والحياة والمجتمع، ونرصد أهم مراحل هذه التجربة القصصية، بالاقتراب من عالم الإمتاع والمؤانسة التي يتحفنا بها.
ومن القضايا التي تثير فضول القارئ في هذه المجموعة، نذكر:
1- الجمع بين الإبداع الأدبي والتفكير الفلسفي:
تتجلى هذه المقاربة انطلاقا من التسمية، أو التمثيل بالشخصيات المعروفة في مجال الفلسفة. فحين نقرأ قصة أغلب أحداثها تخيلي، وفي الوقت ذلك يتحفنا الكاتب بأعلام الفلسفة؛ فذلك دليل على تشبع كلي بهذا النمط من جهة، ومحاولة ربط الفكر بالواقع من خلال جسر التخييل السردي من جهة ثانية.
نقرأ مثلا المقطع الآتي: "يعَرف أرسطو الشجاعة مثلا بكونها وسطا بين قيمتي التهور والجبن... والكرم من حيث هو اعتدال بين البخل والتبذير، وكل القيم الأخلاقية المثلى هي وسط بين قيمتين متطرفتين...
هكذا أجدني أرى أن الحكمة في وضوحها وصرامتها نقيض مباشر للجنون المبهم."
وأثناء الحكي، ينبه السارد إلى أهمية تجاوز العقبات، بتمثل دور الغافل عن العاهة التي يعيشها البطل، ومحاولة نسيانها، بتبني فكرة الإسقاط؛ إسقاط قضية النقص على الآخر. ومن ثمة، يقدم لنا الوسيط الفكري الذي يجرد الحدث من حمولته الفعلية، إلى تماهٍ وصورة التمثل الفلسفي المجرد.
2- الثنائيات الضدية وحضورها المكثف في قصص المجموعة:
غالبا ما نستهل الوقفات النهائية، أو القفلة، بتقديم الحل، أو فتح المجال أمام القارئ لتوقع النهاية المرتقبة؛ فنكون إزاء أفق توقع الانتظار. في المجموعة القصصية "طرق لا تعرف وجهتها"، القصص أيضا لا تعرف سبيلها العادي والمعهود، بل يحتفظ الكاتب بالخيط الرابط بين الحدث الرئيس الذي يحرك باقي الوقائع، وفي الوقت ذاته يشير بين الحين والآخر إلى قضايا ذات صلة بالواقع. وهو بذلك يدفع المتلقي إلى الى استبصار ثنايا الحكاية للبحث عن القصد والبعد القيمي الذي يهدف إليه.
وتبقى النهايات مفتوحة على الآفاق، كما المرحلة التاريخية التي سيقت فيها الأحداث وقبلها قليلا، لا زالت تحبل بمعطيات وجب، ويجب مواجهتها.
حين نعود قليلا إلى المجموعة القصصية السابقة "خطوط ومنعرجات"ـ تتضح الرؤية أكثر.
يقول في قصة قصيرة جدا بعنوان "2011":
في هذا الزمن كثر اللغط، والشطط..
واختلف القوم وهم يُنَظِّرون للمرحلة:
الأول: خريف في ربيع متفتح..
الثاني: سبحان مبدل الأحوال!!
الثالث: أوراق تتساقط..
الرابع: وفاكهة الشر أيضا..
الخامس: بعد هز الأشجار... طبعا
..
انتهت المرحلة ولم ينته الخلاف."
3- الجمع بين المشهد السينمائي والمشهد التصويري السردي القصير:
جاء في قصة قصيرة جدا بعنوان ""شريط لم يكتمل": ...ولأنه يخلط بين الخطوط والألوان، قال واثقا من نفسه: لقد رأيت هذا الشريط في مهرجان سابق.. وسأغير نهايته.. استبدل مقص الرقابة بمدفع رشاش.."
غير أن عبد الله فراجي في مجموعته القصصية التي نحن بصدد تقديمها، يختار نهاية مستوحاة من الشريط السينمائي. لذا فقصة "ثالث اثنتين" مستوحاة من فيلم قصير كما يؤكد ذلك بنفسه . كما أن التتبع الدقيق للأحداث في قصصه، يشدنا ما يتصل بالتصوير المشهدي للوقائع والشخصيات والأحاسيس. وهو ما يقترب قليلا من "الإرشادات المسرحية" التي تحيل المخرج على بعض المعيِّنات التي بها يقدم الصورة في أدق تفاصيلها للمتلقي.
وما دام المتلقي في القصة القصية قارئا، فالكاتب يستطرد قليلا في تقديم تفاصيل تتعلق بالحدث، حتى لا يخرج عن إطار الحدث الوحيد في النص. ويُتبع ذلك بتفاصيل تؤثث فضاء الحكي، وتنير بعض المداخل والمخرجات التي بها تلتقط العبر والدروس.
من أمثلة ذلك نذكر:
"اتخذ لنفسه مكانا قصيا للجلوس والترقب، وسط القش والقمامة، ابتعد عن الأنظار، وحاذر أن تكشفه الأنوار، حتى لا يثير انتباه المارة وأعين الطفوليين. كان من موقعه المتواري، يرقب الحياة التي تدب من حوله، ويشاهد تلك الفوضى المنظمة بين الناس والآلات. جيئة وذهابا يتواتر فيها البشر كالنمل، بكل الأعمار والأطوار والهامات المختلفة."
فما تم إثباته في بداية القصة، يوحي بتصوير دقيق لمنظر يمكن أن يتخيله القارئ، كأنه جالس في مصطبة مقابل المشهد. في انتظار تقديم الشخصية أولا، والحدث الرئيس ثانيا. لذلك فتتبع المسير التفصيلي والتصويري من الأسس التي يبني بها المبدع عبد الله فراجي حبكة قصصه القصيرة.
4- العبرة والدروس أساسا التوجه السردي.
من الأمور والقضايا التي تشكل رافدا أساسا للسرد القصير لدى عبد الله فراجي، نذكر المقصدية، أو الهدف المتوخى إيصاله للمتلقي. ولا يعني ذلك أن ما يسرده الكاتب يكون ذا طابع تقريري مباشر، يحدث الخلل الإبداعي، فيقترب من السير العادي للمقال أو الدرس، بقدر ما يضعنا الكاتب أمام معضلة التدقيق والبحث عن الدروس انطلاقا من القراءات المتعددة، ومن تتبع ما بين السطور، وقراءة البياضات الممكنة.
كل ذلك، يحيلنا إلى الوظيفة التعبيرية التي تتوخى التأثري في المتلقي. ويستلهم الأسس الفلسفية من جهة، والدروس النابعة من الرؤية الواقعية للأحداث، وربطها بالتصور الفكري والنفسي والاجتماعي للنسق السردي المغربي خاصة والعربي عامة.
ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الأبعاد الاجتماعية في القصص المنشورة في هذه المجموعة القصصية. فمنها ما يرمز إلى أهمية الالتفاتة لذوي الاحتياجات الخاصة، وضرورة إعادة الاعتبار للفن الجميل الهادف، وتعدد الزوجات وبخاصة زواج الكهول من الشابات، والتسول، وفتنة الهاتف النقال، ثم فوضى الحافلات، ففوضى السلطة والرشوة... وغيرها من القضايا التي يمكن تتبعها بقراءة القصص كل على حدة، بتمعن وروية.
أخيرا ما يمكن أن نشير إليه، هو كون المجموعة القصصية 'طرق لا تعرف وجهتها"، تحدد الاتجاه والوجهة، لكن السبيل يختلف من قارئ إلى قارئ، والبحث عن المجهول انطلاقا من قراءة النصوص القصصية يوحي في الغالب إلى كون المقصدية ثابتة، وأن البحث عنها يكون بتعدد القراءة، وتعدد التأويلات التي يمكن أن تقدِّم المعنى المراد، أو بالأحرى الوصول إلى المنشود الذي يبحث عنه الكاتب عبد الله فراجي بين سطور نصوصه السردية القصيرة.