كان الرجل يعبر الساحة ببطء، حاملا ألته الموسيقية العتيقة، كأنه سندباد يطوف العالم مشيا على الأقدام، ترخي الأرض أديمها لدبيبه الواهن. كنت أراه شخصا وحيدا، يمضي في الضياء، حتى اقترب من مكاني، ووقف صامتا، ينظر إلى وأنا أجذب أنفاس النارجيلة، قبل أن يلتقط "الربابة" ويرتجل كلمات بلا مثيل: أناشيد، أغنيات، مواويل غير مطروقة. أخذ رواد المقهى يتجمعون حولنا، بعدما جذب انتباههم بشدة. الرجل بدا وسيما في جلبابه الشعبي، رغم أمارات التعب البادية عليه، صوته جميل وشجي، تقلبه بين المقامات لا يعطي انطباعا بأن هذا مطرب فطري. ثمة احترافية مذهلة في أدائه، تبدو جلية، وهو يلون النغمات ويستنطق الآلة لتقطيع الصوت الخارج من حنجرته. بعد وقت قصير، بدأ غير مستقر في وقفته، فأنهى وصلته، واستسلم لنسمات هواء منعشة هبت فجأة، وخلفت أثارا من الراحة في نفسي. زاد اقترابه مني، كأنه ينتظر مبادرة ما، فدعوته إلى فنجان قهوة.
- تعال. استرح قليلا.
جلس إلى الكرسي المجاور لي.
- صوتك صاف وجميل. قلت.
لم يرد.
واصلت:
- من أين تأتي بهذه الكلمات؟
- رزق.
قال. ثم سحب "الربابة" وراح يدندن مرة أخرى. شعرت بأنه ينظر إلى أعماقه، يجلب أنغاما نادرة، من مناطق مجهولة، كأنه ينقذها من عزلتها، أداؤه جريح، قادم من أروقة الأحلام، نبراته تخفت أحيانا، كأنه ينتزع الكلمات من هاوية العشق، وينهل من أرشيف للحكمة يعاني التجاهل والنسيان.
"ياالله". صحت في نفسي. هذا رجل معذب بالحب، وسيموت ضحية له وهو يتلو مرثيات الفناء.
- ما كل هذا يا صديقي؟
لم يلتفت لي، ولم تستوقفه تساؤلاتي. كان يواصل، منسابا مع مزامير مصاحبة، وأصوات جعلت تحوم حول المكان، بينما ريح حانية أخذت تطوقنا كسياج غير مرئي. في الوقت ذاته. أطلت علينا إمرأة فاتنة من بين الغيوم، وراحت ترقص فوق الحصى الذي افترش الأرض في الحال، محدثة خشخشة موزونة، وهى تدور حول نفسها، كطيف ينشد المحبة، ويرتل سلام العاشقين، بأنفاس متوهجة، ونظرات توله، موجهة للمغني، كأنها تتهجى اسمه، باحثة عن مستقر قلبه، لتودع فيه سرا كبيرا. كانت المرأة خفيفة، كريشة في الهواء، يتطاير شعرها المنساب وهى تتطوح بجذل، وتنبثق رويدا، رويدا، في صورة رائعة. كنت أستمع بلا ألم، أطوف في الأعالي، أرى نجوما تتألق، ثم تتلاشى، وبساتين يزهر فيها الورد. أقترب، وأشهد إشراقات نقية، يظهر فيها جمال العالم مكتملا. كنت طليقا كشعاع يخترق الحجب، أسافر مسافات قصية، غير مسكون بمخاوفي، الموسيقى ترن في أذني، والرجل والمرأة مازالا هناك، تحت بصري، يبتكران رقصة اسطورية، في عالم بلا مكائد، وأنا أتابعهما متخدرا، غائبا عن ذاتي في قيلولة ناعمة.
- تعال. استرح قليلا.
جلس إلى الكرسي المجاور لي.
- صوتك صاف وجميل. قلت.
لم يرد.
واصلت:
- من أين تأتي بهذه الكلمات؟
- رزق.
قال. ثم سحب "الربابة" وراح يدندن مرة أخرى. شعرت بأنه ينظر إلى أعماقه، يجلب أنغاما نادرة، من مناطق مجهولة، كأنه ينقذها من عزلتها، أداؤه جريح، قادم من أروقة الأحلام، نبراته تخفت أحيانا، كأنه ينتزع الكلمات من هاوية العشق، وينهل من أرشيف للحكمة يعاني التجاهل والنسيان.
"ياالله". صحت في نفسي. هذا رجل معذب بالحب، وسيموت ضحية له وهو يتلو مرثيات الفناء.
- ما كل هذا يا صديقي؟
لم يلتفت لي، ولم تستوقفه تساؤلاتي. كان يواصل، منسابا مع مزامير مصاحبة، وأصوات جعلت تحوم حول المكان، بينما ريح حانية أخذت تطوقنا كسياج غير مرئي. في الوقت ذاته. أطلت علينا إمرأة فاتنة من بين الغيوم، وراحت ترقص فوق الحصى الذي افترش الأرض في الحال، محدثة خشخشة موزونة، وهى تدور حول نفسها، كطيف ينشد المحبة، ويرتل سلام العاشقين، بأنفاس متوهجة، ونظرات توله، موجهة للمغني، كأنها تتهجى اسمه، باحثة عن مستقر قلبه، لتودع فيه سرا كبيرا. كانت المرأة خفيفة، كريشة في الهواء، يتطاير شعرها المنساب وهى تتطوح بجذل، وتنبثق رويدا، رويدا، في صورة رائعة. كنت أستمع بلا ألم، أطوف في الأعالي، أرى نجوما تتألق، ثم تتلاشى، وبساتين يزهر فيها الورد. أقترب، وأشهد إشراقات نقية، يظهر فيها جمال العالم مكتملا. كنت طليقا كشعاع يخترق الحجب، أسافر مسافات قصية، غير مسكون بمخاوفي، الموسيقى ترن في أذني، والرجل والمرأة مازالا هناك، تحت بصري، يبتكران رقصة اسطورية، في عالم بلا مكائد، وأنا أتابعهما متخدرا، غائبا عن ذاتي في قيلولة ناعمة.