أ. د. عادل الأسطه - صورة الفنان في شبابه : محمود درويش كما صوره معين بسيسو

على الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت إظهار صور قديمة لمحمود درويش ، بخاصة صوره مع ريتا حين كثر الحديث عنهما بعد وفاته ، إلا أن الصورة الراسخة له هي تلك الصورة التي ظهر فيها في ال 15 سنة الأخيرة من حياته ( منتصف العقد السادس والعقد السابع ) - تحديدا منذ عودته إلى رام الله وبث فضائية فلسطين وغيرها أمسياته ولقاءاته يقرأ الشعر أو يتحاور فيه وحوله ، ويبدو فيها رجلا مكتملا جادا ذا هيبة ووقار يرتدي الملابس الرسمية الأنيقة الفاخرة ، وفي هذه السنوات صارت له طقوسه وعاداته وتقاليده وأخذ يفضل الابتعاد والعزلة والحركة في أماكن محددة وأوقات مضبوطة . تعززت هذه الصورة وترسخت أكثر من خلال مقاطع الفيديوهات المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي .
ومع أن رنا قباني زوجته الأولى أخذت تكتب عنه سلسلة مقالات في جريدة " القدس العربي " أبرزت لمحبيه صورة شبه صادمة عنه ، إلا أن عدم اقتران كتابتها بصور لهما ، ووقف نشر المقالات ، لم يرسخ في الأذهان أي صورة له في فترة السبعينيات - أي في عقده الرابع ، تطغى على صورته في العقد الثالث .
في 60 القرن 20 بدا محمود درويش شابا طويلا نحيفا يرتدي البنطال والقميص ذا وجه حاد القسمات غير ممتليء الوجنات وذا ساعدين ضعيفين لا يقويان على إنجاز عمل شاق ولا يقدران على الذود عن صاحبهما إذا ما تعارك مع شخص آخر ، وهو ما نلحظه في صورته مع ريتا وصوره في كتاب سيد محمود " المتن المجهول ، صفحات مجهولة من حياة محمود درويش في القاهرة " . وهذه الصورة لم تترسخ إلا في أذهان متابعيه من قرائه لا من المصغين إليه في الفيديوهات أو مشاهدي الفضائيات . ويدعم ما سبق ما روي عنه من دعابة كان يكثر من تردادها تقول إنه إذا ما اختلف مع شخص واغتاظ منه أخذ يردد :
- آخ .. آخ .. لو كان لي ساعدان قويان ... .
الصورة الغالبة للشاعر هي إذن صورته في ال 15 سنة الأخيرة من حياته ، فماذا عن صورته في بيروت في 70 القرن 20 ؟
كيف بدا ؟ وكيف عاش ؟ وما شكل ملابسه وقصة شعره ؟ وماذا فضل؟ وماذا رفض ؟
لعل قصيدة معين بسيسو " الخروج " تعطينا تصورا معقولا ، فقد كان الشاعران صديقين ودودين ربطت بينهما علاقة صار أحدهما فيها يدافع عن الآخر ، وهو ما لاحظته شخصيا في الرسائل التي كتبها معين يدافع فيها عن محمود في خصومته مع سميح القاسم بعد خروج الأول من فلسطين في العام ١٩٧١ ، وهو ما تقوله لنا قصيدة " الخروج " التي كتبها معين في محمود يوم التقاه في بيروت في بداية 70 القرن 20 ، وفي تلك الفترة لم نكن نرى للشاعر سوى بعض صور في الجرائد أو المجلات أو الصورة التي يختارها ناشر ما للشاعر ليضعها على غلاف كتاب ، فلم تكن يومها ثمة فضائيات أو تلفازات تنقل أمسياته الشعرية وتعممها بشكل لافت كما صار يحدث في القرن 21 .
قصيدة " الخروج " التي تأتي على خروجهما من غزة وحيفا ، وأيضا على خروج المتنبي من حلب ، ولا أعرف إن كان محمود درويش استلهم منها الإشارة للتعبير عن تجربته وربطها بتجربة المتنبي في قصيدته الشهيرة " رحلة المتنبي إلى مصر " (1980) ، وفي قصيدة " الخروج " يكتب معين عن الثورة وتحول الثائر إلى موظف والوطن إلى جرح ويكتب عما طلب منهما أن يكتبا : عن القدس ويافا وغزة و ... و ... وما يهمنا فيها هو كتابته عن حياتهما في بيروت وهذا ما يعطينا صورة عن حياة درويش في شبابه . يقول معين :
" أنا أعرف أنك ترفض يا " محمود " / ربطة العنق / لكنك تقبل يا محمود الحبل على عنقك / كنا ندخل ، نقتحم جميع الحانات / بلا ربطة عنق / كنا نفتحها بقميص مفتوح / كنا نطرد ونحب الطرد / كنا طول العمر نحب سقوط المطر / ونشرب نخب الرعد .. / ونحب الأرصفة المهجورة ومصابيح الشارع / لم نكتب يوما عن ليلى أو هند .. / كان " الوطن " جميلا / والوطن يكون جميلا / حين يكون الوطن بعيدا / لكن حين الوطن يصير قريبا / ويصير نشيدا / ويصير الوطن مكاتب / ويصير الوطن ثعالب .../ كان علينا أن نرفض تلك اللعبة / ونجر الغربة ... " .
هذا النمط المعيشي الذي يعبر عن عشق الحياة وشهوة اللذة ، حيث ينفق الشاعران وقتا كثيرا في الشارع والمقاهي والبارات ، يعززه ما كتبه درويش في وداع معين في قصيدته " خرج الطريق " :
" كنا نفتش ، يا صديقي يا صديقي ، في الشوارع عن وطن " .
وفي مقطوعته النثرية " معين بسيسو لا يجلس على مقاعد الغياب " :
" فهل كان معين بسيسو وهو يلتهم الحياة كما يلتهم طفل جائع إجاصة يدرك أيضا أنه لا يمتلك مقعدا للغياب " و " وكنت أراقب فيه شهية حياة مجنونة " و " ويعب الحياة والسخرية " و " كنت أفسر شبق الحياة فيه بخوف خفي من موت لم يعد له إطاره " و " كان يعالج نفسه وأوجاعه بالتهام الحياة " ، بل ولقد عبر عنه في قصيدته الشهيرة " ونحن نحب الحياة " .
والصورة التي أظهرها درويش لمعين تتطابق والصورة التي ظهرت له ، عن حياته في بيروت ، في رواية ياسين رفاعية " من يتذكر تاي " .
بقي أن أشير إلى أن من يقارن إلقاء الشاعر لقصائده في 60 ق 20 بإلقائه لها في السنوات الأخيرة من حياته يلحظ أيضا اختلافا واضحا ، وطريقة إلقائه الأخيرة هي التي ترسخت في الأذهان .
غالبا ما أنفق أيامي بعد التقاعد في الشوارع والمقاهي وباب الساحة في البلدة القديمة في نابلس ، وليس ما هو أجمل من ذلك .
الكتابة تطول والمساحة محدودة
٢٥ كانون الثاني ٢٠٢٢



https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/3031697537083795

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...