في العام 1972 أصدر أدونيس الشاعر العربي السوري عن دار العودة في بيروت كتاباً عنوانه "زمن الشعر"، وقد أعاد طباعته ثانية عن الدار نفسها في العام 1978، بعد أن نقح الكتاب وزاد فيه. في الطبعة الثانية، ولم أطلع على الأولى، يبدي أدونيس رأيه في شعر المقاومة، وكنت توقفت أمامه في دراسة مفصلة لي قدمتها في العام 2005، لجامعة فيلادلفيا/ الأردن. ومما يقوله أدونيس التالي: "الملاحظة الأخيرة هي أن هذا النتاج محافظ، منطقي، مباشر، فهذا النتاج يندرج في الإطار الأيديولوجي السائد، يحاول أن يصنع الثورة بوسائل غير ثورية. إنه مثلاً ينطق بالقيم التقليدية التي تتبناها القوى المحافظة، والقيم الماضوية الدينية والقومية، ويستلهم شعراء الأرض المحتلة أحياناً أحداثاً ماضية ذات بعد وإطار دينيين، وأحياناً يستلهمون الأنبياء أنفسهم، وأحياناً يعكسون فكرة الثأر، والثورة لا تقوم بإحياء الماضي أو استدعائه" (ص107).
رأي أدونيس رأي قابل للنقاش، وليس كل ما يصدر عنه مشككا فيه، كما يفعل البعض، وأعتقد أن كتبه النثرية جديرة بالاهتمام، وكتابه "الثابت والمتحول" واحد منها. ومن المؤكد أن الشاعر قرأ أشعار شعراء المقاومة ولاحظ ما لاحظ، فقد حفلت أشعار درويش والقاسم الأولى باستلهام الأنبياء، وبدت فكرة الثأر في إحدى قصائد فدوى، حين تمنت لو أنها تفعل ما فعلته هند بن عتبة، ثأراً لمعاناتها من جنود الاحتلال، ولكن السؤال الذي يمكن أن يوجه لأدونيس هو: هل ينطبق رأيك على أشعار توفيق زياد؟
عموماً، هل قرأ شعراء المقاومة رأي أدونيس وأبدوا رأيهم فيه؟ سميح القاسم أصدر في العام 1978 الجزء الأول من ديوان الحماسة ضاماً فيه أشعاراً كلاسيكية كتبها هو لا غيره، واشار إلى أن حماسته تختلف عن حماسة أبي تمام، كما كتب أنه معجب بأبي تمام أكثر من إعجابه بـ (ت. س. إليوت)، وهاجم القاسم بعض نقاد عرب هجوماً عنيفاً، وخص بالذكر غالي شكري، وكان هذا أيضاً ذهب في كتابه "أدب المقاومة: إلى أن شعراء المقاومة شعراء احتجاج، إلاّ بسيسو وطوقان، لا شعراء مقاومة. نعت سميح النقاد الذين يحتجون على نمط كتابة الشعر الكلاسيكي التراثي أنهم شعراء برجوازيون هابطون، وكتب ما يلي:
"قد يشرئب هنا كويتب حاقد على العرب، من طراز الفرعوني غالي شاكر (أو شكري غالي، فلا أذكر اسمه بالضبط)، قد يشرئب هنا ليلصق بي من جديد نعت السلفية"!.. لن يضيرني الأمر في شيء، بيد أنني عازم على تسجيل حقيقة بسيطة أخرى لا يريد هؤلاء السادة أن يعقلوها: بقدر ما تضرب الشجرة أصولها في الأرض تهيئ لنفسها طاقة الشموخ والامتداد.. وهبة ريح واحدة كفيلة باقتلاع سرحة باسقة نسيت العناية بجذورها أو هي عجزت عن ذلك" ص10.
كأن سميح هنا يرد على أدونيس وغالي شكري معاً، لأنهما لم يمدحا شعر المقاومة الذي كيل له المديح الكثير، حتى صرخ محمود درويش صرخته الشهيرة: "ارحمونا من هذا الحب القاسي". هل أراد الناقدان العربيان: أدونيس وشكري أن يرحما شعراء المقاومة من الحب القاسي، فلما رحماهم غضب سميح، ونعتهم بما نعتهم به: "إن جملة من التعابير النقدية مثل "الخطابية" و"المباشرة" و"المنبرية" توشك أن تصبح سبّة على أيدي النقاد والشعراء البرجوازيين الهابطين.." (ص7). وأنا أحب أن أترفق بسميح ـ رحمه الله ـ ولكني أرى فيما ذهب إليه الناقدان قدراً كبيراً من الصحة، وينطبق على تجربة سميح أكثر مما ينطبق على تجربة غيره، وما سار عليه في بداية حياته الشعرية، حيث كتب القصيدة الكلاسيكية وقصيدة الحداثة، جنباً إلى جنب، لم يتخل عنه حتى وفاته. وسيعود سميح لينظر، من جديد، إلى هذا، فحين أصدر سيرته "إنها مجرد منفضة" كتب:
"ولك أن تعترف، ولا تثريب عليك". دار في خلدك أنه ليس من الاعتباطية إمكانية المؤاخاة، وفي صيغة عليا بين جوهر الماركسية وخلاصة الدين واصطخبت في عمقك تفاعلات ثورية هائلة تجمح نحو حالة ينخرط فيها النبي المسكون بالحلم بالثائر المطوّق بمعطيات الواقع الصعبة، ولطالما رفضت القطيعة الشائعة بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، وبهرتك الأعمدة الشعرية الكلاسيكية لكنها لم تحجب عن ناظريْ هاجسك الإبداعي آفاق الحداثة حتى أقصى أقاصيها." (ص83) وبقية ما كتبه في الصفحة اللاحقة أخطر بكثير مما أورده آنفاً:
"وحين دوّنت وصيتك للأسرتين الصغيرة والكبيرة، في كتاب "الإدراك"، فقد كنت محموماً بمحبة غامرة لكل ما خلق الله، وكنت مفعماً بإحساس غير غامض على الإطلاق، وأنك مكلف من لدن الله سبحانه وتعالى بالبحث عن رسالة جديدة تجمّع ولا تفرق.."(184)
ولأن السخرية والدعابة في كتابة سميح ونطقه يختلطان مع الجد والهزل فأنت لا تدري إن كان سميح، في القول السابق، جاداً أو هازلاً أو أنه جاد وهازل. ولطالما سألت نفسي وأنا أقرأ أشعاره في الهجاء والمديح: أهذا هو سميح القاسم حقاً. فحين كان ماركسياً هجا النظام العربي كله، ومدح ماركس ولينين وكاسترو وهوشي منه. كان هذا في المرحلة الثانية من مراحله الشعرية (1967ـ1990) مرحلة الانتماء للحزب الشيوعي، ولكنه في المرحلة الثالثة الأخيرة، اختلف. حذف قصائد المديح في ماركس ولينين... إلخ وكذلك بعض قصائد هجاء بعض الحكام العرب، ومدح رؤساء وملوكاً عرباً وذكرهم بالاسم، وبم مدحهم؟ مدحهم بالصفات التقليدية التي استخدمها الشعراء العرب القدامى في قصائد المديح. هل كان أدونيس على خطأ إذن؟ أنظر إلى القاسم يمدح بشار الأسد وهو يرثي والده: (معلقة سميح القاسم المعاصرة: بغداد وقصائد أخرى، ص59).
منا الكروم ومنك طلع كرومنا فاهنأ وقد ورث الأصيلَ أصيلُ
واهنأ فمن صلب الرسالة فارس آت ومن صلب الصمود رسولُ
ووصية الآباء دين نبوة بوَتين قلبك عرفها موصول
هل تختلف قصيدته العمّانية التي أتى فيها على تفجير فندق في عمّان أودى بحياة المخرج السوري مصطفى العقاد؟ أنظر ماذا يكتب سميح:
يا ربّ هل كفرت بنا أوطاننا أم نحن أهل الكفر بالأوطان؟
والجاهلية جددت غزواتها فاجتاح قيسي حياض يماني
وأسِرُّ للملك العزيز بشعبه وعلى يديّ شقائق النعمان
لا تأسَ عبد الله جدّك هاشم كمْ شيّعَ القربان بالقربان
لا تأسَ أفواج النشامى عمّدت شرف العروبة في دم الفرسان
وهذه القصائد صدرت في العام 2008، وصورها ومفرداتها ومعانيها وبناؤها كلها تراثية، فهل أخطأ حقاً أدونيس في قوله؟ ولربما تبدو المفارقة في أشعار سميح حين يقرأ المرء القصائد التي كتبها في 70 ق20 وأتى فيها على الحاكم العربي بعامة (أنظر: الحماسة ج1، ص82 قصيدة شمس أيار، وحماسة ج3، ص50 أيضاً، وحماسة ج1 ص153، قصيدة فواتير رمضان).
حقاً إنني أرغب في أن أترفق بالشاعر وأنا أكتب عنه، فهو كان له دوره وحضوره وتأثيره في حياتنا. دحض سميح الفكر الصهيوني ودافع عن شعبه وعبر عن همومه، ولكنه غيّر في مواقفه وبدّل، وشابه في أشياء كثيرة شعراء عرباً قدامى ومعاصرين، كالمتنبي والجواهري، وكان، مثل هؤلاء، عرضة لمساءلات كثيرة. ولكن هل ظل ما قاله أدونيس ذا حضور بعد زمن نشر كتابه؟ ألم يتغير موقف شعراء المقاومة أو بعضهم من الماضي ربما يجب التوقف، ذات أحد، أمام قصيدة مريد البرغوثي "القبائل: وقصيدة محمود درويش: إن أردنا، من أثر الفراشة (2007) ربما.
أ. د. عادل الأسطة
2014-09-07
رأي أدونيس رأي قابل للنقاش، وليس كل ما يصدر عنه مشككا فيه، كما يفعل البعض، وأعتقد أن كتبه النثرية جديرة بالاهتمام، وكتابه "الثابت والمتحول" واحد منها. ومن المؤكد أن الشاعر قرأ أشعار شعراء المقاومة ولاحظ ما لاحظ، فقد حفلت أشعار درويش والقاسم الأولى باستلهام الأنبياء، وبدت فكرة الثأر في إحدى قصائد فدوى، حين تمنت لو أنها تفعل ما فعلته هند بن عتبة، ثأراً لمعاناتها من جنود الاحتلال، ولكن السؤال الذي يمكن أن يوجه لأدونيس هو: هل ينطبق رأيك على أشعار توفيق زياد؟
عموماً، هل قرأ شعراء المقاومة رأي أدونيس وأبدوا رأيهم فيه؟ سميح القاسم أصدر في العام 1978 الجزء الأول من ديوان الحماسة ضاماً فيه أشعاراً كلاسيكية كتبها هو لا غيره، واشار إلى أن حماسته تختلف عن حماسة أبي تمام، كما كتب أنه معجب بأبي تمام أكثر من إعجابه بـ (ت. س. إليوت)، وهاجم القاسم بعض نقاد عرب هجوماً عنيفاً، وخص بالذكر غالي شكري، وكان هذا أيضاً ذهب في كتابه "أدب المقاومة: إلى أن شعراء المقاومة شعراء احتجاج، إلاّ بسيسو وطوقان، لا شعراء مقاومة. نعت سميح النقاد الذين يحتجون على نمط كتابة الشعر الكلاسيكي التراثي أنهم شعراء برجوازيون هابطون، وكتب ما يلي:
"قد يشرئب هنا كويتب حاقد على العرب، من طراز الفرعوني غالي شاكر (أو شكري غالي، فلا أذكر اسمه بالضبط)، قد يشرئب هنا ليلصق بي من جديد نعت السلفية"!.. لن يضيرني الأمر في شيء، بيد أنني عازم على تسجيل حقيقة بسيطة أخرى لا يريد هؤلاء السادة أن يعقلوها: بقدر ما تضرب الشجرة أصولها في الأرض تهيئ لنفسها طاقة الشموخ والامتداد.. وهبة ريح واحدة كفيلة باقتلاع سرحة باسقة نسيت العناية بجذورها أو هي عجزت عن ذلك" ص10.
كأن سميح هنا يرد على أدونيس وغالي شكري معاً، لأنهما لم يمدحا شعر المقاومة الذي كيل له المديح الكثير، حتى صرخ محمود درويش صرخته الشهيرة: "ارحمونا من هذا الحب القاسي". هل أراد الناقدان العربيان: أدونيس وشكري أن يرحما شعراء المقاومة من الحب القاسي، فلما رحماهم غضب سميح، ونعتهم بما نعتهم به: "إن جملة من التعابير النقدية مثل "الخطابية" و"المباشرة" و"المنبرية" توشك أن تصبح سبّة على أيدي النقاد والشعراء البرجوازيين الهابطين.." (ص7). وأنا أحب أن أترفق بسميح ـ رحمه الله ـ ولكني أرى فيما ذهب إليه الناقدان قدراً كبيراً من الصحة، وينطبق على تجربة سميح أكثر مما ينطبق على تجربة غيره، وما سار عليه في بداية حياته الشعرية، حيث كتب القصيدة الكلاسيكية وقصيدة الحداثة، جنباً إلى جنب، لم يتخل عنه حتى وفاته. وسيعود سميح لينظر، من جديد، إلى هذا، فحين أصدر سيرته "إنها مجرد منفضة" كتب:
"ولك أن تعترف، ولا تثريب عليك". دار في خلدك أنه ليس من الاعتباطية إمكانية المؤاخاة، وفي صيغة عليا بين جوهر الماركسية وخلاصة الدين واصطخبت في عمقك تفاعلات ثورية هائلة تجمح نحو حالة ينخرط فيها النبي المسكون بالحلم بالثائر المطوّق بمعطيات الواقع الصعبة، ولطالما رفضت القطيعة الشائعة بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي، وبهرتك الأعمدة الشعرية الكلاسيكية لكنها لم تحجب عن ناظريْ هاجسك الإبداعي آفاق الحداثة حتى أقصى أقاصيها." (ص83) وبقية ما كتبه في الصفحة اللاحقة أخطر بكثير مما أورده آنفاً:
"وحين دوّنت وصيتك للأسرتين الصغيرة والكبيرة، في كتاب "الإدراك"، فقد كنت محموماً بمحبة غامرة لكل ما خلق الله، وكنت مفعماً بإحساس غير غامض على الإطلاق، وأنك مكلف من لدن الله سبحانه وتعالى بالبحث عن رسالة جديدة تجمّع ولا تفرق.."(184)
ولأن السخرية والدعابة في كتابة سميح ونطقه يختلطان مع الجد والهزل فأنت لا تدري إن كان سميح، في القول السابق، جاداً أو هازلاً أو أنه جاد وهازل. ولطالما سألت نفسي وأنا أقرأ أشعاره في الهجاء والمديح: أهذا هو سميح القاسم حقاً. فحين كان ماركسياً هجا النظام العربي كله، ومدح ماركس ولينين وكاسترو وهوشي منه. كان هذا في المرحلة الثانية من مراحله الشعرية (1967ـ1990) مرحلة الانتماء للحزب الشيوعي، ولكنه في المرحلة الثالثة الأخيرة، اختلف. حذف قصائد المديح في ماركس ولينين... إلخ وكذلك بعض قصائد هجاء بعض الحكام العرب، ومدح رؤساء وملوكاً عرباً وذكرهم بالاسم، وبم مدحهم؟ مدحهم بالصفات التقليدية التي استخدمها الشعراء العرب القدامى في قصائد المديح. هل كان أدونيس على خطأ إذن؟ أنظر إلى القاسم يمدح بشار الأسد وهو يرثي والده: (معلقة سميح القاسم المعاصرة: بغداد وقصائد أخرى، ص59).
منا الكروم ومنك طلع كرومنا فاهنأ وقد ورث الأصيلَ أصيلُ
واهنأ فمن صلب الرسالة فارس آت ومن صلب الصمود رسولُ
ووصية الآباء دين نبوة بوَتين قلبك عرفها موصول
هل تختلف قصيدته العمّانية التي أتى فيها على تفجير فندق في عمّان أودى بحياة المخرج السوري مصطفى العقاد؟ أنظر ماذا يكتب سميح:
يا ربّ هل كفرت بنا أوطاننا أم نحن أهل الكفر بالأوطان؟
والجاهلية جددت غزواتها فاجتاح قيسي حياض يماني
وأسِرُّ للملك العزيز بشعبه وعلى يديّ شقائق النعمان
لا تأسَ عبد الله جدّك هاشم كمْ شيّعَ القربان بالقربان
لا تأسَ أفواج النشامى عمّدت شرف العروبة في دم الفرسان
وهذه القصائد صدرت في العام 2008، وصورها ومفرداتها ومعانيها وبناؤها كلها تراثية، فهل أخطأ حقاً أدونيس في قوله؟ ولربما تبدو المفارقة في أشعار سميح حين يقرأ المرء القصائد التي كتبها في 70 ق20 وأتى فيها على الحاكم العربي بعامة (أنظر: الحماسة ج1، ص82 قصيدة شمس أيار، وحماسة ج3، ص50 أيضاً، وحماسة ج1 ص153، قصيدة فواتير رمضان).
حقاً إنني أرغب في أن أترفق بالشاعر وأنا أكتب عنه، فهو كان له دوره وحضوره وتأثيره في حياتنا. دحض سميح الفكر الصهيوني ودافع عن شعبه وعبر عن همومه، ولكنه غيّر في مواقفه وبدّل، وشابه في أشياء كثيرة شعراء عرباً قدامى ومعاصرين، كالمتنبي والجواهري، وكان، مثل هؤلاء، عرضة لمساءلات كثيرة. ولكن هل ظل ما قاله أدونيس ذا حضور بعد زمن نشر كتابه؟ ألم يتغير موقف شعراء المقاومة أو بعضهم من الماضي ربما يجب التوقف، ذات أحد، أمام قصيدة مريد البرغوثي "القبائل: وقصيدة محمود درويش: إن أردنا، من أثر الفراشة (2007) ربما.
أ. د. عادل الأسطة
2014-09-07