أثار رحيل الكاتب حنا إبراهيم جدلاً حول علاقته بمحمود درويش وقصيدته «سجل أنا عربي»، فقد أسر حنا لبعض معارفه ودارسيه، مثل فاروق مواسي وأحمد أبو بكر، أنه هو المعني بقول الشاعر: «وأعمل مع رفاق الكدح في محجر» و»وأطفالي ثمانية» و»من قرية عزلاء منسية» و»يحبون الشيوعية»، إذ تنطبق هذه المواصفات عليه وعلى قريته «البعنة» التي وصفت بـ «البعنة الحمراء»، عدا أن الضابط الإسرائيلي عندما سأل حنا عن ديانته أجابه: «سجل أنا عربي». وللحقيقة فإن بعض الحقائق السابقة تنطبق على والد محمود درويش وتنطبق عليه أيضاً صفات أخرى وردت في القصيدة، فقد كان له ثمانية أطفال وعمل في المحاجر حتى يستل لقمة العيش، وهو مزارع سلبت السلطات الإسرائيلية كروم أجداده، ووالده من أسرة المحراث لا من سادة نجب، و... إلخ.
محمود درويش أتى في كتبه النثرية، وفي المقابلات التي أجريت معه، على مناسبة القصيدة، وقال: إنه أجاب الضابط الإسرائيلي بالعبارة عندما سأله عن خانة الجنسية في الهوية، ومن الكتب «ذاكرة للنسيان»، ولكن الشاعر لم يكن يومها متزوجاً ولم يكن له ثمانية أطفال ولم يعمل مع رفاق الكدح في محجر. إن صفات «أنا المتكلم» في القصيدة تتطابق مع والد الشاعر ومع حنا إبراهيم أكثر من تطابقها مع أنا الشاعر، وهذا عموماً ما التفتت إليه ووضحته عايدة فحماوي وتد في كتابها «في حضرة غيابه»، ورأت أن الأنا في القصيدة هي الأنا القومية لا الأنا الفردية، فالشاعر ينطق باسم شعبه، وعليه فإن «أنا المتكلم» هي أنا أي فلسطيني بقي في أرضه وضيّق عليه الاحتلال في رزقه وسلبه كرومه.
«سجل أنا عربي» و»عابرون في كلام عابر» كانتا أكثر قصيدتين أثارتا جدلاً؛ الأولى بين النقاد العرب، والثانية بين النقاد الإسرائيليين، فقد ترجمت الثانية إلى العبرية وتوقف دارسوها الإسرائيليون، والغربيون المتعاطفون، أمام ضمير المخاطب فيها «ارحلوا/ انصرفوا» وضمير المتكلم «من برنا من بحرنا» و.. إلخ.
النقطة الثانية التي أثارها رحيل حنا إبراهيم هي قول بعض الكتاب: إن حنا هو أستاذ محمود، وإنه هو الذي اكتشف موهبته الشعرية، ولم يصدر عن الشاعر اعتراف بهذا ولم يبح به حنا نفسه، وهنا - اعتماداً على مقابلات أجريت مع درويش، وعلى سيرة حنا أبو حنا - أرى أن ثمة خلطاً حدث بين حنا إبراهيم وحنا أبو حنا، فالثاني هو الذي ترك أثراً في شعر محمود درويش، وهو ما أقر به الشاعر نفسه وألمح إليه حنا أبو حنا، بل أفصح عنه.
في حديث للشاعر مع الأستاذ محمد دكروب، نشر في كتاب «شيء عن الوطن» ١٩٧١ تحت عنوان «حياتي.. وقضيتي.. وشعري»، يقول الشاعر «عن الشكل الجديد للشعر والإلقاء أمام الجماهير»، وأذكر أن القصيدة الأولى المنتمية إلى الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا أبو حنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري..». ويضيف: «وأذكر أني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي «بطاقة هوية» أجبرت على إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة أدركت أن القصيدة الإنسانية، مهما كان بناؤها، يمكن أن تلقى أمام الجماهير..».
يأتي حنا أبو حنا في سيرته على علاقته المبكرة بمحمود درويش، فقد التقى به واستضافه في بيته، وعرض عليه محمود مجموعته الأولى «عصافير بلا أجنحة»، فأولاها يحيى عناية كبيرة، وأعجب بصاحبها وأحب «هذا الطائر الذي أخذ الريش يقوى في جناحيه، رأى كيف تبرعم اللغة بين يديه في خلق جديد حتى وهو يكتب التقرير والتعليق، إن لما يكتبه نكهة خاصة تمتاز بالأصالة.»(خميرة الرماد، ص ٤٧).
ولما وجد محمود ترحيباً من يحيى/ حنا، فقد طلب منه أن يكتب لمجموعته الثانية «تقديماً وأن يكتب بخطه عنوان المجموعة: «أوراق الزيتون» وعناوين القصائد، و»لبى يحيى ذلك الطلب بمحبة، وصدر التقديم على غلاف الكتاب». واستمر محمود يعرض مجموعاته الجديدة «عاشق من فلسطين» و»آخر الليل» على حنا، فيكتب له بخطه عناوين القصائد «أما الغلاف وفيه العنوان فأعده فنان تشكيلي مختص». (ص ٤٨)
يذهب حنا أبو حنا إلى ما هو أكثر مما سبق، فيذكر أنه عندما اقترح عليه محمود فكرة هجرته إلى العالم العربي، قال له:
«أعتقد أنه يصعب على الواحد منا أن يعيش هناك في هذه الظروف، فقد تعودنا هنا أن ننتقد ونحتج ونتحمل المعاناة في سبيل ذلك، ولكننا نبقى في الوطن... ثم عاد وقد نشر في «الاتحاد» قصيدته «آت ..»، ثم عاد إلى موسكو. وفوجئ حنا بسماع خبر هجرة محمود وسيخبر المهاجر الباقي لاحقاً بأنه في موسكو استشار إميل توما فشجعه، وقال له: «انطلق فأمامك الدنيا». (ص ٤٩)
ومما سبق يفهم مدى تأثير حنا أبو حنا، لا حنا إبراهيم، في مسيرة محمود درويش الشعرية، وبذلك يزال اللبس بخصوص من يعد أستاذاً للشاعر.
أ. د. عادل الأسطة
2020-10-25
محمود درويش أتى في كتبه النثرية، وفي المقابلات التي أجريت معه، على مناسبة القصيدة، وقال: إنه أجاب الضابط الإسرائيلي بالعبارة عندما سأله عن خانة الجنسية في الهوية، ومن الكتب «ذاكرة للنسيان»، ولكن الشاعر لم يكن يومها متزوجاً ولم يكن له ثمانية أطفال ولم يعمل مع رفاق الكدح في محجر. إن صفات «أنا المتكلم» في القصيدة تتطابق مع والد الشاعر ومع حنا إبراهيم أكثر من تطابقها مع أنا الشاعر، وهذا عموماً ما التفتت إليه ووضحته عايدة فحماوي وتد في كتابها «في حضرة غيابه»، ورأت أن الأنا في القصيدة هي الأنا القومية لا الأنا الفردية، فالشاعر ينطق باسم شعبه، وعليه فإن «أنا المتكلم» هي أنا أي فلسطيني بقي في أرضه وضيّق عليه الاحتلال في رزقه وسلبه كرومه.
«سجل أنا عربي» و»عابرون في كلام عابر» كانتا أكثر قصيدتين أثارتا جدلاً؛ الأولى بين النقاد العرب، والثانية بين النقاد الإسرائيليين، فقد ترجمت الثانية إلى العبرية وتوقف دارسوها الإسرائيليون، والغربيون المتعاطفون، أمام ضمير المخاطب فيها «ارحلوا/ انصرفوا» وضمير المتكلم «من برنا من بحرنا» و.. إلخ.
النقطة الثانية التي أثارها رحيل حنا إبراهيم هي قول بعض الكتاب: إن حنا هو أستاذ محمود، وإنه هو الذي اكتشف موهبته الشعرية، ولم يصدر عن الشاعر اعتراف بهذا ولم يبح به حنا نفسه، وهنا - اعتماداً على مقابلات أجريت مع درويش، وعلى سيرة حنا أبو حنا - أرى أن ثمة خلطاً حدث بين حنا إبراهيم وحنا أبو حنا، فالثاني هو الذي ترك أثراً في شعر محمود درويش، وهو ما أقر به الشاعر نفسه وألمح إليه حنا أبو حنا، بل أفصح عنه.
في حديث للشاعر مع الأستاذ محمد دكروب، نشر في كتاب «شيء عن الوطن» ١٩٧١ تحت عنوان «حياتي.. وقضيتي.. وشعري»، يقول الشاعر «عن الشكل الجديد للشعر والإلقاء أمام الجماهير»، وأذكر أن القصيدة الأولى المنتمية إلى الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا أبو حنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري..». ويضيف: «وأذكر أني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي «بطاقة هوية» أجبرت على إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة أدركت أن القصيدة الإنسانية، مهما كان بناؤها، يمكن أن تلقى أمام الجماهير..».
يأتي حنا أبو حنا في سيرته على علاقته المبكرة بمحمود درويش، فقد التقى به واستضافه في بيته، وعرض عليه محمود مجموعته الأولى «عصافير بلا أجنحة»، فأولاها يحيى عناية كبيرة، وأعجب بصاحبها وأحب «هذا الطائر الذي أخذ الريش يقوى في جناحيه، رأى كيف تبرعم اللغة بين يديه في خلق جديد حتى وهو يكتب التقرير والتعليق، إن لما يكتبه نكهة خاصة تمتاز بالأصالة.»(خميرة الرماد، ص ٤٧).
ولما وجد محمود ترحيباً من يحيى/ حنا، فقد طلب منه أن يكتب لمجموعته الثانية «تقديماً وأن يكتب بخطه عنوان المجموعة: «أوراق الزيتون» وعناوين القصائد، و»لبى يحيى ذلك الطلب بمحبة، وصدر التقديم على غلاف الكتاب». واستمر محمود يعرض مجموعاته الجديدة «عاشق من فلسطين» و»آخر الليل» على حنا، فيكتب له بخطه عناوين القصائد «أما الغلاف وفيه العنوان فأعده فنان تشكيلي مختص». (ص ٤٨)
يذهب حنا أبو حنا إلى ما هو أكثر مما سبق، فيذكر أنه عندما اقترح عليه محمود فكرة هجرته إلى العالم العربي، قال له:
«أعتقد أنه يصعب على الواحد منا أن يعيش هناك في هذه الظروف، فقد تعودنا هنا أن ننتقد ونحتج ونتحمل المعاناة في سبيل ذلك، ولكننا نبقى في الوطن... ثم عاد وقد نشر في «الاتحاد» قصيدته «آت ..»، ثم عاد إلى موسكو. وفوجئ حنا بسماع خبر هجرة محمود وسيخبر المهاجر الباقي لاحقاً بأنه في موسكو استشار إميل توما فشجعه، وقال له: «انطلق فأمامك الدنيا». (ص ٤٩)
ومما سبق يفهم مدى تأثير حنا أبو حنا، لا حنا إبراهيم، في مسيرة محمود درويش الشعرية، وبذلك يزال اللبس بخصوص من يعد أستاذاً للشاعر.
أ. د. عادل الأسطة
2020-10-25