في الأول من شباط من العام 1977 توفي راشد حسين، في ظروف غامضة، في مدينة نيويورك، وكان راشد، ابن قرية مصمص في المثلث في فلسطين، غادر فلسطين، واستقر به المقام أولاً في دمشق، ثم غادر إلى نيويورك، وإن كان شعره يفصح عن سبب ذهابه إلى هناك، فإنه غادر طلباً للعلاج. "أتيت الطب في نيويورك/ أطلب منه مستشفى/ فقالوا: /أنت مجنون/ ولن تشفى/ أمامك جنة الدنيا/ ولست ترى سوى حيفا؟!" (أ. ك. 523) ولم تكن حيفا أول مدينة يزورها الشاعر أو يكتب فيها الشعر، فقد زار عكا وخصها بقصيدة مطلعها:
حلم الرعاة ورقصة الريحان والأرض الندية
وعنوانها "عكا والبحر" وأهداها إلى "الأصدقاء الذين عرفتهم في عكا"، وبدت عكا في قصيدته حلوة البسمات، طهورة، قبل البحر راحتيها وجاءها يسألها المشورة، فهو أمير يريد ودّ قلبها هي الأميرة، آملاً ألا تجرح شعوره، هي المدينة الهازئة أسوارها بالبحر، وهو يخشى إن رفضت مشاعر البحر النبيلة أن ينثني عنها ليخطب قلب جارتها الجميلة: حيفا، وجمال حيفا إن يكن نقصه النسب الأصيل الذي امتازت به عكا، فثمة ما يعوض هذا: ثراؤها وكرملها. ولا يمعن الشاعر في إثارة غيرة عكا، إذ يطلب منها أن تصفح عنه، هو الذي جاء إليها من قريته العزلاء محملاً برائحة الأزاهر ووداعة الأطفال الطاهرة. (أ. ك، 124).
بعد كتابته قصيدته "عكا والبحر" سيخص حيفا بقصيدة عنوانها: "إلى حيفا".. وفي الإهداء نقرأ "إلى حيفا التي شبّت طفولتي فيها" هل يعني هذا أنه عرف حيفا قبل زيارته عكا".
حيفا هي موطن الذهب النضير، وهي مسرح للفاتنات وسوق أقمشة الحرير، وقد زرع راشد حبها يوم كان فتى غريرا، وحين ارتحل عنها بكاها دموعاً. لقد أزهرت طفولته القصيرة في صدر حيفا الدافئ، وهي طفولة سرعان ما تبخّرت، كما تتبخر مياه بحر حيفا، مع فارق أن مياه حيفا تعود إلى بحرها إن أمطرت سماءُ حيفا، في حين لا تعود طفولة الشاعر إليه.
ما بين 1948 ـ 1967 زار راشد حسين القدس الغربية بتصريح عسكري إسرائيلي، ويبدو أنه سرّ فيها فخصها بقصيدة عنوانها: "إلى أورشليم" افتتحها بقوله:
أمدينة الزيتون! زيتون الهوى أثمر
لما بسطت على فؤادي زندك الأخضر
وكانت (أورشليم) زرعت في قلب الشاعر، بعد أن عصته، عينين للحب فيهما آثارٌ من قسوة الرومان. أورشليم هي ربّة الزيتون التي أثمر زيتون حب الشاعر يوم ذهب إلى أورشليم زائرا. ويبدو أن سرور الشاعر في المدينة كان كبيرا، وأنه أحب المدينة وأحبته، ولهذا خاطبها:
يا ربّة الزيتون !
قومي اصلبيني فوق صدر الحلوة السمرا .
ورأى فيها مدينة الأحلام، دورها من خيال العيد، وأحجارها مهج سبتها الفاتنات الصيد، وكم تمنى الشاعر لو بقي في المدينة، ولم تنته فيه مدة التصريح:
لظللت فيك مجرحا لتضاعفي التجريح
بمغامز الزيتون
ولأحتسي من كأس حبك ثرثرات الغيد (أز ك، ص256) والطريف أن الشاعر الذي عبّر عن مآسي شعبه، وانتصر للثورات العربية، ومنها ثورة الجزائر، لم ير الوجه الآخر لأورشليم، المتمثل بأنها قامت على أنقاض شعبه، وأن جزءاً من بيوتها هي بيوت إخوانه الفلسطينيين وأهله ممن رَحَلُوا أو رُحِّلُوا في العام 1948. وما لم يره في القدس الغربية فيما يخص هذا الجانب، رآه في يافا التي خصها بأكثر من قصيدة، بدت فيها صورة يافا قاتمة، قياساً إلى ما كانت عليه قبل أن تغدو مدينة محتلة. خصّ الشاعر يافا بقصيدة عنوانها "ما زال في يافا" وهي قصيدة طويلة كتبها في العام 1958.
تروي يافا حكايات شجيّة، وحكايات برتقال لم يزل يهب البطون الظامئات عصيرا. وما زال في ميناء المدينة باخرة تقهقه مداخنها جاءت ترحِّلُ برتقالا، رحّلت من قبل، زمن إيدن، أهل البرتقال، جاءت ترحِّلُ البرتقال، إلى بلاد الشقر في بلد الضباب الأسود. ويافا ما زالت بياراتها الخضر مغمضة الجفون في خصرها زنار سرو مزقته يد الجنون وحمامة خدشت بصوت هديلها وجه السكون. لقد رحّل أهل المدينة، وما زال الشاعر يأمل أن تكون عودتهم قريبة.
الأهم من هذه القصيدة هي قصيدة "الحب والجيتو" التي كتبها في 1963، أي بعد 5 سنوات من كتابة القصيدة الأولى، وهي قصيدة طويلة، يرثي فيها راشد ما آلت إليه المدينة، وما آل إليها سكانها. إنها من قصائد رثاء المدن حقاً، وهي قصائد عرفها الشعر العربي القديم جيداً.
يفتح راشد قصيدته بقوله:
مداخن الحشيش في "يافا" توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى.. بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت... أغلقه حجر
وفي شوارع السما.. جنازة القمر
ويافا غدت بلا قلب وبلا قمر.. إنها دم على حجر، وكان الشاعر يعرفها من قبل، فقد رضع من أثدائها حليب البرتقال. لقد شلّت ذراعها وانكسر ظهرها بعد العام 1948، وبعد أن كانت حديقة أشجارها الرجال مسخت محششة توزع الخدر، وبعد أن كانت مهنتها تصدير برتقال غدت مهنتها تصدير لاجئين.
بعد خروجه من الأرض المحتلة وإقامته في دمشق، في اثناء حرب تشرين، سنجده يخص دمشق بقصائد تبدو فيها دمشق مدينة مقاومة. وسيكتب يوميات المدينة "يوميات دمشق".
في قلب دمشق، في حرب تشرين، ولدت ثانية حطين، وغدت دمشق على شفتَي الشاعر محطة حب تعتذر لها الأزهار. إنها مدينة مقاومة كتب أعداؤها على أكفان موتاهم: "من صنع دمشق"، وغدا الورد في المدينة أحلى ورد، وفيها شاهد الشاعر كل الحب في الدنيا يسير مجنداً يحتضن بندقيته يشبك عليها الياسمين، وغدت البندقية جيبة الجندي وعليها اسم دمشق، والشاعر الفلسطيني الذي ذهب إلى دمشق، لم يذهب إليها سائحاً: "أنا فلسطين/ ومن حبّي.. أنا أيضاً دمشق" (488) دمشق أخت فلسطين يراها راشد مسافرة في دمائه، وهو يحبها إما/ أختاً/ طفلاً/ طفلة/ شعراً يذيب جميع الشفاه ليطبع قبلة وحين يودعها يخاطب ربّه: "إلهي/ كيف خلقت جمال دمشق/ نضال دمشق.. وحب دمشق" (496).
طبعاً سيكتب راشد قصائد يذكر فيها لبنان والمخيمات الفلسطينية فيها، وسيكتب أيضاً قصيدة عنوانها "في نيويورك"، ولم يكن في هذه يشعر بأنه حي، إنه يسير فيها ميتاً، ويكره فيها أن يغازل النساء، وهن كثيرات، لأنه ما زال يعشق البنت التي جاءت من الصحراء، وليس أمامه وهو هناك، وقد تخلّى عنه أصدقاؤه الذين يغازلون الدولارات، لم يكن أمامه إلاّ أن يكتب الشعر في مدينة بدون أصدقاء. (536).
وهو في المنفى، وفي ديوانه الأخير، "أنا الأرض لا تحرميني المطر" سيكتب راشد حسين قصائد عن القدس، وستكون كتابته مختلفة. هناك قصيدتان يحضر دال القدس في عنوانهما وفي متنهما، الأولى "القدس في عينين" (433) والثانية "القدس والساعة" (450). ينظر الشاعر في عينيّ المخاطبة ويرى فيهما نخيلاً ودوالي، ويرى أن لونيهما كحبه القدس: غالٍ، ألفُ غالٍ. القدس في عينين نخيل ودوالي، وهو لونٌ جريحٌ كشِعر الشاعر، ولكنه جميل مثل حبه، وإن كان طويلاً كاعتقاله. لون عينيها أبوه يزرع رمانا وتينا، وهو صلاح الدين من دون رجال، وعذابٌ لونُ عينيها لأشباه الرجال. إنه حصاد وبيادر وكفاح يسافر فيه الوطن، وفوق هذا صبور كأمه، وكريم كسهوله، وأبيّ كجباله. إنه حمام ونسور في نضاله.
في قصيدة "القدس والساعة" يأتي على احتلال القدس في العام 1967. الاحتلال موت وجراح وقنابل وتشويه. وكان العرب يومها أصفارا، وكان ربّ الشعب في البار يصلي لعشيقة، ولكن القس تثور وتتمرّد، وهكذا تتحول إلى مدينة مقاومة، وستغدو فيها العذارى حبالى وأُمهات للنضال، وسيؤرق هذا الاحتلال الذي كلما مرت بعيونه طفلة وبنت صغيرة فتش الجندُ في صدرها وفي رحمها وفي عقلها عن قنبلة، وإذا لم يجدوا شيئاً معها أصرُّوا:
"هذه البنت الصغيرة
ولدت في القدس
والمولود في القدس
سيضحي قنبلة
صدقوا... المولود في ظل القنابل
سوف يضحي قنبلة"
هكذا تغدو القدس مدينة مقاومة مختلفة عن تلك التي زارها في 60 ق20 قبل الاحتلال، ورآها مدينة الغيد الحسان اللاتي ثرثر معهن. وفي قصيدة "عائدون" (ص539) يغدو شباب القدس بين مكانين: السجن أو المنفى.
ما الذي نخلص إليه بعد تتبع كتابة راشد حسين عن المدينة وعن القدس؟
لم تكن القدس، قبل العام 1967، مدينة راشد حسين الأولى. كانت مدنه الأولى عكا وحيفا ويافا، وصارت القدس في أشعاره، بعد هزيمة حزيران، لا تقل عن عكا وحيفا ويافا، وعلى العكس فقد ارتقت إلى مكانة تلك المدن، وخصها بقصائد أكثر، واستحضر اسمها في عناوين قصائده، كما فعل من قبل وهو يكتب عن المدن المذكورة. ومع أن راشد كتب عن دمشق في فترة صعودها، وعدها مدينة مقاومة في حرب 1973، وكتب عن لبنان ومخيماته إلاّ أن انتماءه في المنفى ظل لمدن فلسطين، بل إنه سيكتب قصيدة عن الناصرة يعلن فيها أنه هو الناصرة. أليس غريباً أنه رأى في نيويورك تابوتاً، وهي جنة الدنيا في نظر البعض، وظل لا يرى سوى عكا؟!
2015-03-03
حلم الرعاة ورقصة الريحان والأرض الندية
وعنوانها "عكا والبحر" وأهداها إلى "الأصدقاء الذين عرفتهم في عكا"، وبدت عكا في قصيدته حلوة البسمات، طهورة، قبل البحر راحتيها وجاءها يسألها المشورة، فهو أمير يريد ودّ قلبها هي الأميرة، آملاً ألا تجرح شعوره، هي المدينة الهازئة أسوارها بالبحر، وهو يخشى إن رفضت مشاعر البحر النبيلة أن ينثني عنها ليخطب قلب جارتها الجميلة: حيفا، وجمال حيفا إن يكن نقصه النسب الأصيل الذي امتازت به عكا، فثمة ما يعوض هذا: ثراؤها وكرملها. ولا يمعن الشاعر في إثارة غيرة عكا، إذ يطلب منها أن تصفح عنه، هو الذي جاء إليها من قريته العزلاء محملاً برائحة الأزاهر ووداعة الأطفال الطاهرة. (أ. ك، 124).
بعد كتابته قصيدته "عكا والبحر" سيخص حيفا بقصيدة عنوانها: "إلى حيفا".. وفي الإهداء نقرأ "إلى حيفا التي شبّت طفولتي فيها" هل يعني هذا أنه عرف حيفا قبل زيارته عكا".
حيفا هي موطن الذهب النضير، وهي مسرح للفاتنات وسوق أقمشة الحرير، وقد زرع راشد حبها يوم كان فتى غريرا، وحين ارتحل عنها بكاها دموعاً. لقد أزهرت طفولته القصيرة في صدر حيفا الدافئ، وهي طفولة سرعان ما تبخّرت، كما تتبخر مياه بحر حيفا، مع فارق أن مياه حيفا تعود إلى بحرها إن أمطرت سماءُ حيفا، في حين لا تعود طفولة الشاعر إليه.
ما بين 1948 ـ 1967 زار راشد حسين القدس الغربية بتصريح عسكري إسرائيلي، ويبدو أنه سرّ فيها فخصها بقصيدة عنوانها: "إلى أورشليم" افتتحها بقوله:
أمدينة الزيتون! زيتون الهوى أثمر
لما بسطت على فؤادي زندك الأخضر
وكانت (أورشليم) زرعت في قلب الشاعر، بعد أن عصته، عينين للحب فيهما آثارٌ من قسوة الرومان. أورشليم هي ربّة الزيتون التي أثمر زيتون حب الشاعر يوم ذهب إلى أورشليم زائرا. ويبدو أن سرور الشاعر في المدينة كان كبيرا، وأنه أحب المدينة وأحبته، ولهذا خاطبها:
يا ربّة الزيتون !
قومي اصلبيني فوق صدر الحلوة السمرا .
ورأى فيها مدينة الأحلام، دورها من خيال العيد، وأحجارها مهج سبتها الفاتنات الصيد، وكم تمنى الشاعر لو بقي في المدينة، ولم تنته فيه مدة التصريح:
لظللت فيك مجرحا لتضاعفي التجريح
بمغامز الزيتون
ولأحتسي من كأس حبك ثرثرات الغيد (أز ك، ص256) والطريف أن الشاعر الذي عبّر عن مآسي شعبه، وانتصر للثورات العربية، ومنها ثورة الجزائر، لم ير الوجه الآخر لأورشليم، المتمثل بأنها قامت على أنقاض شعبه، وأن جزءاً من بيوتها هي بيوت إخوانه الفلسطينيين وأهله ممن رَحَلُوا أو رُحِّلُوا في العام 1948. وما لم يره في القدس الغربية فيما يخص هذا الجانب، رآه في يافا التي خصها بأكثر من قصيدة، بدت فيها صورة يافا قاتمة، قياساً إلى ما كانت عليه قبل أن تغدو مدينة محتلة. خصّ الشاعر يافا بقصيدة عنوانها "ما زال في يافا" وهي قصيدة طويلة كتبها في العام 1958.
تروي يافا حكايات شجيّة، وحكايات برتقال لم يزل يهب البطون الظامئات عصيرا. وما زال في ميناء المدينة باخرة تقهقه مداخنها جاءت ترحِّلُ برتقالا، رحّلت من قبل، زمن إيدن، أهل البرتقال، جاءت ترحِّلُ البرتقال، إلى بلاد الشقر في بلد الضباب الأسود. ويافا ما زالت بياراتها الخضر مغمضة الجفون في خصرها زنار سرو مزقته يد الجنون وحمامة خدشت بصوت هديلها وجه السكون. لقد رحّل أهل المدينة، وما زال الشاعر يأمل أن تكون عودتهم قريبة.
الأهم من هذه القصيدة هي قصيدة "الحب والجيتو" التي كتبها في 1963، أي بعد 5 سنوات من كتابة القصيدة الأولى، وهي قصيدة طويلة، يرثي فيها راشد ما آلت إليه المدينة، وما آل إليها سكانها. إنها من قصائد رثاء المدن حقاً، وهي قصائد عرفها الشعر العربي القديم جيداً.
يفتح راشد قصيدته بقوله:
مداخن الحشيش في "يافا" توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى.. بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت... أغلقه حجر
وفي شوارع السما.. جنازة القمر
ويافا غدت بلا قلب وبلا قمر.. إنها دم على حجر، وكان الشاعر يعرفها من قبل، فقد رضع من أثدائها حليب البرتقال. لقد شلّت ذراعها وانكسر ظهرها بعد العام 1948، وبعد أن كانت حديقة أشجارها الرجال مسخت محششة توزع الخدر، وبعد أن كانت مهنتها تصدير برتقال غدت مهنتها تصدير لاجئين.
بعد خروجه من الأرض المحتلة وإقامته في دمشق، في اثناء حرب تشرين، سنجده يخص دمشق بقصائد تبدو فيها دمشق مدينة مقاومة. وسيكتب يوميات المدينة "يوميات دمشق".
في قلب دمشق، في حرب تشرين، ولدت ثانية حطين، وغدت دمشق على شفتَي الشاعر محطة حب تعتذر لها الأزهار. إنها مدينة مقاومة كتب أعداؤها على أكفان موتاهم: "من صنع دمشق"، وغدا الورد في المدينة أحلى ورد، وفيها شاهد الشاعر كل الحب في الدنيا يسير مجنداً يحتضن بندقيته يشبك عليها الياسمين، وغدت البندقية جيبة الجندي وعليها اسم دمشق، والشاعر الفلسطيني الذي ذهب إلى دمشق، لم يذهب إليها سائحاً: "أنا فلسطين/ ومن حبّي.. أنا أيضاً دمشق" (488) دمشق أخت فلسطين يراها راشد مسافرة في دمائه، وهو يحبها إما/ أختاً/ طفلاً/ طفلة/ شعراً يذيب جميع الشفاه ليطبع قبلة وحين يودعها يخاطب ربّه: "إلهي/ كيف خلقت جمال دمشق/ نضال دمشق.. وحب دمشق" (496).
طبعاً سيكتب راشد قصائد يذكر فيها لبنان والمخيمات الفلسطينية فيها، وسيكتب أيضاً قصيدة عنوانها "في نيويورك"، ولم يكن في هذه يشعر بأنه حي، إنه يسير فيها ميتاً، ويكره فيها أن يغازل النساء، وهن كثيرات، لأنه ما زال يعشق البنت التي جاءت من الصحراء، وليس أمامه وهو هناك، وقد تخلّى عنه أصدقاؤه الذين يغازلون الدولارات، لم يكن أمامه إلاّ أن يكتب الشعر في مدينة بدون أصدقاء. (536).
وهو في المنفى، وفي ديوانه الأخير، "أنا الأرض لا تحرميني المطر" سيكتب راشد حسين قصائد عن القدس، وستكون كتابته مختلفة. هناك قصيدتان يحضر دال القدس في عنوانهما وفي متنهما، الأولى "القدس في عينين" (433) والثانية "القدس والساعة" (450). ينظر الشاعر في عينيّ المخاطبة ويرى فيهما نخيلاً ودوالي، ويرى أن لونيهما كحبه القدس: غالٍ، ألفُ غالٍ. القدس في عينين نخيل ودوالي، وهو لونٌ جريحٌ كشِعر الشاعر، ولكنه جميل مثل حبه، وإن كان طويلاً كاعتقاله. لون عينيها أبوه يزرع رمانا وتينا، وهو صلاح الدين من دون رجال، وعذابٌ لونُ عينيها لأشباه الرجال. إنه حصاد وبيادر وكفاح يسافر فيه الوطن، وفوق هذا صبور كأمه، وكريم كسهوله، وأبيّ كجباله. إنه حمام ونسور في نضاله.
في قصيدة "القدس والساعة" يأتي على احتلال القدس في العام 1967. الاحتلال موت وجراح وقنابل وتشويه. وكان العرب يومها أصفارا، وكان ربّ الشعب في البار يصلي لعشيقة، ولكن القس تثور وتتمرّد، وهكذا تتحول إلى مدينة مقاومة، وستغدو فيها العذارى حبالى وأُمهات للنضال، وسيؤرق هذا الاحتلال الذي كلما مرت بعيونه طفلة وبنت صغيرة فتش الجندُ في صدرها وفي رحمها وفي عقلها عن قنبلة، وإذا لم يجدوا شيئاً معها أصرُّوا:
"هذه البنت الصغيرة
ولدت في القدس
والمولود في القدس
سيضحي قنبلة
صدقوا... المولود في ظل القنابل
سوف يضحي قنبلة"
هكذا تغدو القدس مدينة مقاومة مختلفة عن تلك التي زارها في 60 ق20 قبل الاحتلال، ورآها مدينة الغيد الحسان اللاتي ثرثر معهن. وفي قصيدة "عائدون" (ص539) يغدو شباب القدس بين مكانين: السجن أو المنفى.
ما الذي نخلص إليه بعد تتبع كتابة راشد حسين عن المدينة وعن القدس؟
لم تكن القدس، قبل العام 1967، مدينة راشد حسين الأولى. كانت مدنه الأولى عكا وحيفا ويافا، وصارت القدس في أشعاره، بعد هزيمة حزيران، لا تقل عن عكا وحيفا ويافا، وعلى العكس فقد ارتقت إلى مكانة تلك المدن، وخصها بقصائد أكثر، واستحضر اسمها في عناوين قصائده، كما فعل من قبل وهو يكتب عن المدن المذكورة. ومع أن راشد كتب عن دمشق في فترة صعودها، وعدها مدينة مقاومة في حرب 1973، وكتب عن لبنان ومخيماته إلاّ أن انتماءه في المنفى ظل لمدن فلسطين، بل إنه سيكتب قصيدة عن الناصرة يعلن فيها أنه هو الناصرة. أليس غريباً أنه رأى في نيويورك تابوتاً، وهي جنة الدنيا في نظر البعض، وظل لا يرى سوى عكا؟!
2015-03-03
مدن راشد حسين.. عكا وحيفا ويافا والقدس و.. و..
www.al-ayyam.ps