أ. د. عادل الأسطه - الأديب الفلسطيني والحنين إلى الماضي : يحيى يخلف في " الريحانة والديك المغربي "

في قراءة الأدبيات الفلسطينية بعد النكبة ١٩٤٨ يلحظ الدارس حنين أصحابها إلى الماضي باعتباره جميلا . ومع أنه ، كما أعتقد ، لم يكن كذلك ، إذ كانت فلسطين تحت انتداب بغيض مكن الحركة الصهيونية من إقامة دولة وتشريد الفلسطينيين ، وعانى الفلسطينيون إبانه من اضطرابات وإضرابات واشتباكات وصراعات مسلحة نجم عنها قتلى وجرحى وإعدامات وسجن ونفي ، إلا أن الماضي أمام قسوة المنفى واللجوء والإقامة في الخيام عالة على الصدقات صار ماضيا جميلا يتغنى به في الأشعار ويتطلع إليه ويسعى إلى استرجاعه واسترجاع الفردوس المفقود .
ظل الفلسطينيون عشرين عاما ينتظرون لا يفعلون شيئا سوى الحنين إلى الماضي والتغني بمدنهم وقراهم وحقولهم وبياراتهم ، فلما ملوا مع هزيمة حزيران ١٩٦٧ من الانتظار انطلقت الثورة الفلسطينية التي بعثت فيهم الأمل . لقد أصبحوا فاعلين يحمل شبابهم أرواحهم على أكفهم من أجل العودة والخلاص من حياة المخيمات المذلة كما صورتها أم سعد في رواية كنفاني " أم سعد " ، وصار الفدائيون يشكلون زمنا جديدا ؛ زمنا جميلا قد يمكنهم من إنهاء حياة المنفى واسترداد الوطن .
مع خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢ عاد اليأس يسيطر على الفلسطينيين من جديد واستمر حتى اندلاع انتفاضة ١٩٨٧ التي أعادت فيهم روح التفاؤل وأحيت الأمل لديهم من جديد .
أسفر الخروج من بيروت والانتفاضة عن مشروع حل سلمي بدأ في مؤتمر مدريد في ١٩٩١ وأسفر عن اتفاقية أوسلو التي أعادت قسما من الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ، وكان يفترض أن تؤدي في ١٩٩٨ إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة لم تنجز حتى الآن . وعلى العكس من ذلك فقد صار واقع الفلسطينيين أصعب وامتلأت الضفة بالمستوطنات .
أصبح الواقع أسود وصار الماضي جميلا ، و أخذ الأدباء يكتبون عن زمنين ؛ زمن ما قبل أوسلو وزمن ما بعد أوسلو ، ما دفعني إلى كتابة سلسلة مقالات تحت عنوان " أدب السلم .. أدب الخيبة " جمعتها في كتاب " أدب المقاومة .. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات "(١٩٩٨) .
منذ ١٩٩٨ حتى الآن أنجزت كتابات كثيرة كثر فيها استرجاع للماضي وتصوير للحاضر ، وصار المرء يقرأ فيها موقف أصحابها من الزمنين .
من محمود درويش في " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟" إلى يحيى يخلف في رواياته التي كتب فيها عن الزمن الحاضر " نهر يستحم في البحيرة " و" اليد الدافئة " وأخيرا " الريحانة والديك المغربي " ومحمود شقير في كتاباته عن القدس ، مرورا بعزت الغزاوي في الخطوات " وأكرم هنية في " شارع فرعي في رام الله " يلحظ المرء صورة غير مشرقة للواقع وحنينا إلى الماضي وخوفا من المستقبل .
في " خلاف ، غير لغوي ، مع امريء القيس " أغلق الآخرون " المشهد تاركين لنا فسحة للرجوع إلى غيرنا ناقصين " و " ارتجلنا كلاما أعد لنا سلفا " و " عدنا إلى غدنا ناقصين " .
وفي " نهر يستحم في البحيرة " " منذ وطئت قدماي أرض الوطن وأنا أعيش حالة نصفها فرح ونصفها الآخر حزن وقلق " . وفي " قالت لنا القدس " تذوي الحياة في القدس الشرقية وتتريف ، بعد أن كانت مزدهرة وتشع نور الحضارة على الريف .
وفي " الخطوات " " كل أحاديثنا الطويلة عن اتفاق أوسلو لم تؤد بنا إلى التفكير الجدي بالعودة " .
وفي " شارع فرعي في رام الله " فإن " الذكريات الجميلة القديمة تبدو ملاذا وتعويضا عن غياب واقع جميل " و " يفيض ألبوم الصور القديم بحياة زاهية رغم أن جميع صوره غير ملونة " و صار الدخول إلى القدس أمنية ، ف " كم أصبحت أحلامنا صغيرة " .
على أن الصورة تتضح أكثر وأكثر في روايتي يخلف " اليد الدافئة " ( ٢٠١٧) و " الريحانة والديك المغربي " (٢٠٢٠) . في الأولى نقرأ عن شخصية مناضل كان يصنع أقداره ، فصارت الأقدار تحدد مصيره ، فيخاطب نفسه :
" عشت الزمن الجميل، والأزمان الوغدة ، عشت تحت سقف الانتماء والسجايا أيام الكفاح عندما كان رفاق الدرب يتسابقون على التضحية وإنكار الذات ، وعشت في زمن التسابق على الوظائف والمناصب " ، وفي الثانية يروي المؤلف الضمني عادل الفلسطيني عن عودته إلى تونس بعد ٢٠ عاما من مغادرتها ليلتقي بالريحانة القادمة من وراء ضباب السنين " ورائحة الزمن الجميل " فخلال العشرين عاما لم تكن بينهما " سوى محادثات هاتفية متقطعة في زمن وغد ، وما كان لهذا اللقاء أن يتم إلا بعد اختراع النت ووسائل التواصل الاجتماعي " .
عادل فلسطيني جميل محبوب يكتب الرواية تمتص السياسة دمه ، وقد غيب الرحيل والتنقل حلمه بوطن يتحرر ولكنه لم يتوقف عن الكتابة ، فمن خلالها حاول في صقيع الوطن أن يبحث عن حياة أكثر دفئا . ( عادل هو المؤلف الضمني للرواية وهو قناع ليحيى يخلف نفسه ، فثمة تطابق بين تجربتهما في علاقتهما بالثورة الفلسطيني ، وهو لا يختلف كثيرا عن المؤلف الضمني في رواية " اليد الدافئة " .)
تطلب الريحانة منه ، وهي من أصول مغربية تقيم في تونس أن يكتب سيرة جدها الرحالة الذي عاش ولم يسأم وشارك في ثورة أهل فلسطين قبل ١٩٤٨ . كانت الريحانة تغريه بجماليات المكان ليكون ضيفها في فضاء يعج بالنساء والعطور وشجرة صنوبر ، والشجرة وزارعها يستحقان أن يتحولا إلى رواية أخيرة من روايات عادل التي حظيت بالتقدير والإعجاب .
غالبا ما يقارن عادل بين زمنين يبدو الأول جميلا والثاني زمنا وغدا :
" أي دافع سيمنحك طاقة ويحفزك على الكتابة في زمن الانفصال عن قضية الإنسان وانكسار أجنحة الأحلام !
كنت في العصر الذهبي للكفاح المسلح فدائيا ، كنت ورفاقك ترفعون شعار : تحرير فلسطين هو الطريق للوحدة العربية ، كنت يساريا تحلم بالتحرير والوحدة والاشتراكية والعدالة والقيم الإنسانية .
انكسرت أحلامك وأحلام جيل . عشت زمن النهوض وعشت زمن الانكسار .
عشرون عاما خلت ، انخفض خلالها سقف التوقعات ، وما عاد الزمن مديدا ، وتوالت الخيبات ، لكنك لا تفقد الأمل " ، ويواصل عادل :
" ظلت التداعيات تتردد في مخيلتك حتى السأم " (١٢٠) .
وفي نهاية الرواية يصف عادل سهرته مع الريحانة ويحكي عن الكتاب " الذي سيعيد صياغته عن سيرة الديك المغربي ، ديك القدس ، ويصدره عن واحدة من كبريات دور النشر ، وتعهدت لالة عزيزة بترجمته إلى اللغة الفرنسية " (٣٤٨) .
ويبدو عادل كاتبا معجبا بنفسه لدرجة النرجسية ففي الصفحات الأولى من الرواية نقرأ :
" أوليس لتلك الشجرة وزارعها ، وما نسجته الحياة من حكايات وأساطير في زمنها ، ما يستحق أن يتحول إلى رواية أخيرة من رواياتك التي حظيت بالتقدير والإعجاب "(٩) .
ولعل ما يستحق الكتابة عنه هو حضور المؤلف في الروايتين وتحليل شخصية يحيى يخلف من خلالهما .

الجمعة والسبت والأحد ١١و١٢ و ١٣ شباط ٢٠٢٢ .


https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/3043855335868015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...