ستظل شخصية ( الياسمين ) التي قدمتها منى العساسي في روايتها الأولى، عالقة بالأذهان، يستعيدها القارئ، ويعاود تأملها، ويستعيد ما مرت به من أحداث، فهي من الشخصيات التي لا تُنسى، الفتاة المأزومة في زمن العولمة، ومعاناتها من الغربة والاغتراب، الغربة المكانية والغربة الزمانية، فبعد ظهور النفط في دول الخليج العربي، برح المصريين الديار بحثا عن لقمة العيش والعمل في تلك الدول، وطاب للكثيرين الإقامة والاستقرار على أراضيها، و " محمد " والد " الياسمين " واحد من هؤلاء، وولدت " الياسمين " لأب مصري وأم شامية على أرض المملكة العربية السعودية، وأخذت " الياسمين " جمال أمها، الابنة الوحيدة للتاجر السوري الثري، فعاشت مرفهة ومدللة، فوالدها جعلها تعيش في مستوى اجتماعي واقتصادي لا يقل عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه صفوة المجتمع السعودي إن لم يفقه، وأحبها محمد المصري، وبعد زواجه منها، واصل ما كان يفعله والدها معها، فلا يرفض لها طلبا أبدا، ولا يضن عليها بشيء مهما ارتفع ثمنه.
وجاءت " الياسمين " بارعة الحُسن، حلوة الملامح، عذبة التقاطيع، يأسر جمالها كل من يراه.
وكما في الحواديت، يسقط من قرص الشمس، فتى جرئ، مغوار، فتمتد يده ليقبض بها على ذراعها، ويمطرها بعبارات الغزل والهيام، ويقبلها، لترتبك، وبسرعة البرق يدون لها رقم جواله، ويقول لها : أنت لي ..
إنه " علاوي " الشاب الإماراتي، البدوي، صاحب الشركات التي تعمل في السعودية والإمارات ومصر واسطنبول والعديد من دول العالم، وهذه من ملامح العصر الجديد، الشركات الإقتصادية العملاقة ذات رؤوس الأموال الضخمة، التي تجاوز تحكمها في الأفراد إلى الدول ذاتها، وهذا " العلاوي " دارت بينه وبين " الياسمين " قصة حب عنيفة، وصار دنياها كما صارت دنياه ..
و " الياسمين " مولعة بقراءة الروايات، وخاصة الروايات العالمية، وتكتب الخاطرة والقصة القصيرة، وحبيبها البدوي مولع بالشعر النبطي، قراءة وكتابة، ويتطارحان الغرام ويتبادلان الرسائل على أحد المنتديات، وما نشرته الياسمين على المنتدى تحت مسمى ( خواطر ) هي قصائد نثر بامتياز، ولم تأت هذه القصائد عبئا على السرد، بل وظفته الكاتبة توظيفا رائعا، جعل السرد أكثر تدفقا وحيوية، لغة وجدانية محلقة، كما وظفت الوسائط الحديثة من الموبايل إلى وسائل التواصل والمنتديات توظيفا جيدا، وكان لهذه الوسائط دورها المهم، وبرهافة شديدة ( آنسنتها ) الكاتبة.
والكاتبة على وعي وإلمام كبيرين بالمفاهيم الفلسفية والنفسية الجديدة، ودراستها في علم النفس ساعدها على فهم شخصياتها، وتحليل نوازعها النفسية، وساعدتها هذه المعرفة أيضا على أن تكون رؤيتها للعالم أكثر نضجا واكتمالا، فالياسمين تعرضت لسلسلة من الحوادث، أودت بها إلى الاكتئاب، والعزلة، فالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي، هو زواج علاوي من غيرها، فانتصر لتقاليد البادية وتزوج من ابنة العم! والسؤال الذي يلح على ذهن القارئ وهو يقرأ الرواية، هل هذا الحب الكبير يمكن أن ينتهي بهما إلى الزواج؟ .. لقد كانت الصدمة الحضارية للياسمين عندما تحلقت مع علاوي في أحد المطاعم الفاخرة حول الطعام، فنحى الشوك والملاعق والسكاكين جانبا، وراح يلتهم الطعام بيده، فاستاءت الياسمين، ووجلت وجزعت، فحزن وأسرها في نفسه، هل يمكن أن تلتقي حضارة وثقافة الوادي بحضارة وثقافة الصحراء؟ فالياسمين فيها جينات الحضارة المصرية والشامية وهو فيه جينات البادية، فغلبت عليه رغم قشرة الثقافة، هل هي إشارة رمزية من الكاتبة، وكأنها أرادت أن تقول يصعب التلاقي بين الثقافتين.
إن ردة فعل زواج علاوي على الياسمين، كان قاسيا وعنيفا، فاستلت من المطبخ سكينا وراحت تغرسها بعنف في خاصرتها وفي مكامن الشهوة التي تذكرها بعلاوي، فأرادت أن تربط ذكراه بالألم فتنساه، فأحاطت خصرها بعشرات الطعنات، ولزمت مصحة نفسية لأياما وأسابيع حتى برأت، ورغم عمليات التجميل، ظلت آثارها تشكل نقوشا حول خاصرتها!!
والياسمين تعرضت في طفولتها، فيما قبل مرحلة البلوغ بقليل، لإعتداء جنسي بشع من شاب عشريني، كان له هو الآخر أثره البالغ على نفسها، وكانت الكاتبة بارعة وهي تضع دائما بطلة نصها في مواقف جديدة لتفجر الوعي لديها، ولدي القارئ أيضا، فالحوادث التي مرت بها الياسمين وربط الأحداث ببعضها البعض والمسارات التي تتحرك عبرها شخصيات الرواية كلها، كل هذا يحتاج إلى وقفة، لنؤكد فيها على وعي الكاتبة بالأصول الفنية والموضوعية التي يقف عليها العمل الروائي دون عثرات، وهذا ما نرجو أن ننجزه لاحقا، في دراسة تليق بالكاتبة والرواية لا قراءة على عجل محكومة بزمن ومساحة محدودتين، الكاتبة تجعلنا نعيد اكتشاف شخصياتها من خلال بعض المؤثرات الخارجية، مثل إعادة اكتشاف اللوحات من خلال تسليط الأضواء أو الظلال عليها، وشخصية ( فاطمة ) أم الياسمين، وعلاقتها المتوترة بالياسمين، وشخصية الأب ونزوته بالزواج بإمرأة عراقية، وتسميته لإبنته بالياسمين على اسمها، فكانت المرارة والغصة من الإسم الذي يذكرها بها، وعودته إلى القرية حزينا مكتئبا بعد موت زوجته المباغت، وزوجة علاوي وابنتها التي اختار " الياسمين " اسمها في أحلامها مع علاوي، والغيرة التي تنهش قلبها، ولجوئها إلى أقذر الطرق وأخسها، للانتقام من الياسمين، فلم يزل علاوي يحبها، وتريده نسيانها، و.. و ... وكل شخصيات الرواية اهتمت بها الكاتبة، ورسمتها من الخارج، كما اهتمت بأبعادها النفسانية ( الجوانية ) وبمستوى تقكيرها، وحركتها في محيطها الاجتماعي.
جاءت اللغة متوترة توتر شخصية الياسمين، والحوار في أكثر مشاهد الرواية جاء هو الاخر متوترا، واللغة عموما تجنح إلى الشعرية، وتصل أحيانا إلى الشعر إن لم تكنه، وأخذ الوصف الماتع مساحة لا بأس بها، فتصف الشوارع والبيوت والغرف والأشخاص، وقد يمتد الوصف لقاعة ليحتل ثلاث صفحات، تصف لنا أو تكشف لنا عن حال ووضع المرأة السعودية، وحياة الترف والبذخ التي تعيش فيه، وتقارن بينها وبين معاناة المرأة المصرية!.
وأرجو أن أكون قد نثرت ولو القليل من قطرات الضوء حول الرواية، على أمل أن أعود إليها لاحقا في قراءة أكثر عمقا وأكشف فيها عن كل ما تطرحه الرواية من قضايا وأفكار، والحيل الفنية التي استخدمتها ولجأت إليها، وجماليات السرد في روايتها الأولى التي تشي بكاتبة موهوبة، أنجزت بعدها روايتين أخريين هما " الهدنة " و " جبل التيه "، فالكاتبة قادمة بقوة، وقادرة على التجديد والإضافة وإثراء حقل السرد العربي.
( ورقة نقدية أُلقيت بالنادي الرياضي " بأبو حماد – الشرقية " لمناقشة المجموعة في احتفالات النادي الأدبي بإبداعات الكاتبة يوم الخميس الموافق 17 / 2 / 2022م )
وجاءت " الياسمين " بارعة الحُسن، حلوة الملامح، عذبة التقاطيع، يأسر جمالها كل من يراه.
وكما في الحواديت، يسقط من قرص الشمس، فتى جرئ، مغوار، فتمتد يده ليقبض بها على ذراعها، ويمطرها بعبارات الغزل والهيام، ويقبلها، لترتبك، وبسرعة البرق يدون لها رقم جواله، ويقول لها : أنت لي ..
إنه " علاوي " الشاب الإماراتي، البدوي، صاحب الشركات التي تعمل في السعودية والإمارات ومصر واسطنبول والعديد من دول العالم، وهذه من ملامح العصر الجديد، الشركات الإقتصادية العملاقة ذات رؤوس الأموال الضخمة، التي تجاوز تحكمها في الأفراد إلى الدول ذاتها، وهذا " العلاوي " دارت بينه وبين " الياسمين " قصة حب عنيفة، وصار دنياها كما صارت دنياه ..
و " الياسمين " مولعة بقراءة الروايات، وخاصة الروايات العالمية، وتكتب الخاطرة والقصة القصيرة، وحبيبها البدوي مولع بالشعر النبطي، قراءة وكتابة، ويتطارحان الغرام ويتبادلان الرسائل على أحد المنتديات، وما نشرته الياسمين على المنتدى تحت مسمى ( خواطر ) هي قصائد نثر بامتياز، ولم تأت هذه القصائد عبئا على السرد، بل وظفته الكاتبة توظيفا رائعا، جعل السرد أكثر تدفقا وحيوية، لغة وجدانية محلقة، كما وظفت الوسائط الحديثة من الموبايل إلى وسائل التواصل والمنتديات توظيفا جيدا، وكان لهذه الوسائط دورها المهم، وبرهافة شديدة ( آنسنتها ) الكاتبة.
والكاتبة على وعي وإلمام كبيرين بالمفاهيم الفلسفية والنفسية الجديدة، ودراستها في علم النفس ساعدها على فهم شخصياتها، وتحليل نوازعها النفسية، وساعدتها هذه المعرفة أيضا على أن تكون رؤيتها للعالم أكثر نضجا واكتمالا، فالياسمين تعرضت لسلسلة من الحوادث، أودت بها إلى الاكتئاب، والعزلة، فالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي، هو زواج علاوي من غيرها، فانتصر لتقاليد البادية وتزوج من ابنة العم! والسؤال الذي يلح على ذهن القارئ وهو يقرأ الرواية، هل هذا الحب الكبير يمكن أن ينتهي بهما إلى الزواج؟ .. لقد كانت الصدمة الحضارية للياسمين عندما تحلقت مع علاوي في أحد المطاعم الفاخرة حول الطعام، فنحى الشوك والملاعق والسكاكين جانبا، وراح يلتهم الطعام بيده، فاستاءت الياسمين، ووجلت وجزعت، فحزن وأسرها في نفسه، هل يمكن أن تلتقي حضارة وثقافة الوادي بحضارة وثقافة الصحراء؟ فالياسمين فيها جينات الحضارة المصرية والشامية وهو فيه جينات البادية، فغلبت عليه رغم قشرة الثقافة، هل هي إشارة رمزية من الكاتبة، وكأنها أرادت أن تقول يصعب التلاقي بين الثقافتين.
إن ردة فعل زواج علاوي على الياسمين، كان قاسيا وعنيفا، فاستلت من المطبخ سكينا وراحت تغرسها بعنف في خاصرتها وفي مكامن الشهوة التي تذكرها بعلاوي، فأرادت أن تربط ذكراه بالألم فتنساه، فأحاطت خصرها بعشرات الطعنات، ولزمت مصحة نفسية لأياما وأسابيع حتى برأت، ورغم عمليات التجميل، ظلت آثارها تشكل نقوشا حول خاصرتها!!
والياسمين تعرضت في طفولتها، فيما قبل مرحلة البلوغ بقليل، لإعتداء جنسي بشع من شاب عشريني، كان له هو الآخر أثره البالغ على نفسها، وكانت الكاتبة بارعة وهي تضع دائما بطلة نصها في مواقف جديدة لتفجر الوعي لديها، ولدي القارئ أيضا، فالحوادث التي مرت بها الياسمين وربط الأحداث ببعضها البعض والمسارات التي تتحرك عبرها شخصيات الرواية كلها، كل هذا يحتاج إلى وقفة، لنؤكد فيها على وعي الكاتبة بالأصول الفنية والموضوعية التي يقف عليها العمل الروائي دون عثرات، وهذا ما نرجو أن ننجزه لاحقا، في دراسة تليق بالكاتبة والرواية لا قراءة على عجل محكومة بزمن ومساحة محدودتين، الكاتبة تجعلنا نعيد اكتشاف شخصياتها من خلال بعض المؤثرات الخارجية، مثل إعادة اكتشاف اللوحات من خلال تسليط الأضواء أو الظلال عليها، وشخصية ( فاطمة ) أم الياسمين، وعلاقتها المتوترة بالياسمين، وشخصية الأب ونزوته بالزواج بإمرأة عراقية، وتسميته لإبنته بالياسمين على اسمها، فكانت المرارة والغصة من الإسم الذي يذكرها بها، وعودته إلى القرية حزينا مكتئبا بعد موت زوجته المباغت، وزوجة علاوي وابنتها التي اختار " الياسمين " اسمها في أحلامها مع علاوي، والغيرة التي تنهش قلبها، ولجوئها إلى أقذر الطرق وأخسها، للانتقام من الياسمين، فلم يزل علاوي يحبها، وتريده نسيانها، و.. و ... وكل شخصيات الرواية اهتمت بها الكاتبة، ورسمتها من الخارج، كما اهتمت بأبعادها النفسانية ( الجوانية ) وبمستوى تقكيرها، وحركتها في محيطها الاجتماعي.
جاءت اللغة متوترة توتر شخصية الياسمين، والحوار في أكثر مشاهد الرواية جاء هو الاخر متوترا، واللغة عموما تجنح إلى الشعرية، وتصل أحيانا إلى الشعر إن لم تكنه، وأخذ الوصف الماتع مساحة لا بأس بها، فتصف الشوارع والبيوت والغرف والأشخاص، وقد يمتد الوصف لقاعة ليحتل ثلاث صفحات، تصف لنا أو تكشف لنا عن حال ووضع المرأة السعودية، وحياة الترف والبذخ التي تعيش فيه، وتقارن بينها وبين معاناة المرأة المصرية!.
وأرجو أن أكون قد نثرت ولو القليل من قطرات الضوء حول الرواية، على أمل أن أعود إليها لاحقا في قراءة أكثر عمقا وأكشف فيها عن كل ما تطرحه الرواية من قضايا وأفكار، والحيل الفنية التي استخدمتها ولجأت إليها، وجماليات السرد في روايتها الأولى التي تشي بكاتبة موهوبة، أنجزت بعدها روايتين أخريين هما " الهدنة " و " جبل التيه "، فالكاتبة قادمة بقوة، وقادرة على التجديد والإضافة وإثراء حقل السرد العربي.
( ورقة نقدية أُلقيت بالنادي الرياضي " بأبو حماد – الشرقية " لمناقشة المجموعة في احتفالات النادي الأدبي بإبداعات الكاتبة يوم الخميس الموافق 17 / 2 / 2022م )