مصطفى فودة - قراءة فى قصة الشيخوخة للكاتب الروسى الكبير أنطون تشيكوف

كان أنطون تشيكوف ( 160- 1904 ) من أفضل كتاب القص القصير فى العالم ، وقد قرأت له مؤخرا قصته الشيخوخة والحق قد أصابتنى بالدهشة والحزن الشفيف بل الألم النبيل بعد قراءتها ولوقت طويل ، أبدع تشيكوف فى بناء القصة والذى اعتمد على الحوار ، وتقطيع الزمن ( تشظى الزمن ) ، واستخدم تكنيك الاسترجاع عن طريق الحوار مع المحامى الذى تولى موضوع طلاقه من زوجته السابقة صوفيا والتى نفهم من الحوار بالقصة أنه كان يحبها ولا يزال إلى الآن وهى كذلك كانت تحبه ربما أكثر منه ، وجاء هذا اللقاء مع المحامى بعد ما يقرب من عشرين عاما وذلك بسبب تكليف بطل القصة أوزيلكوف المهندس المعمارى بترميم إحدى الكنائس بالقرية التى كان يقطنها هو وزوجته السابقة ويعلم من المحامى أثناء الحوار أن مطلقته قد ماتت بالمستشفى وانها ساءت حالتها وأدمنت الخمر بعد طلاقها ، وكفنان كبير فى عالم القصة يأتى بجمل قصيرة فى أثناء الحوار نفهم منها أنها كانت محبة له وأنها تعرضت للاستغلال المالى من هذا المحامى الذى يعترف له بالحقيقة لأنه فى سن الشيخوخة حيث قال المحامى
-وافقت على أن تمنحها عشرة آلاف روبل( فى مقابل الطلاق )
- ظننتها تلقت منى خمسة عشر ألف روبل لا عشرة .
- نعم نعم خمسة عشر الف لقد أخطأت لكن الأملر كله قد انتهى ومضى ولا جدوى من إخفاء الحقيقة .ثم عادت اليه بعد ذلك وألقت فى وجههه هذا المبلغ الا خمسائة روبل انفقتهم على الشراب ثم عادت وطلبت منه النقود إلا أنه أعاد إليها عشرة روبلات فقط ثم كتبت الى المهندس وهى بالمستشفى ولكن لم يرد عليها لإنشغاله بزواجه من امراة أخرى ومن هذا الحوار وفى أماكن أخرى بالقصة رسم الكاتب شخصية المحامى فأفاض فى رسمها بأنه لص وكاذب ومحتال عابد للمال دون أن يذكر هذه الصفات بالاسم ولكن رسمها بالمواقف وكذلك الفن الرفيع بل وصف المحامى نفسه ( كنت فى وقت ما داهية حقيقيا وشخصا حقيرا كالكلب ) وعلى لسان الناس هو شخص غشاش سئ السمعة ، أما شخصية أوزيلكوف فهو مهندس ناجح وثرى وكان محبا لزوجته السابقة بل عاشقا لها ووصف المحامى زواجه ( زواجك نزوة فارغىة وكذلك طلاقك ) أما الزوجة صوفيا فقد رسم شخصتها بعبارت متفرقة بالقصة فهى ابنة أسرة من التجار لها خادمة وهى معتدة بذاتها وعلى لسان زوجها كانت خليعة ومنغمسة فى اللذات وكان ذلك سبب طلاقها وعلى لسان المحامى مغرورة ومتكبرة ولكنها كانت محبة وعاشقة لزوجها .
ويدله المحامى بعد ذلك على مقبرة زوجته صوفيا وهنا لحظة الذروة لأوزيلكوف والذى ينفجر باكيا أمام مقبرتها " كان أوزيلكوف مغلوبا بحزنه ، شعر فجأة بشوق عارم للبكاء كم كان مشتاقا للحب وشعر بان هذه الدموع كانت لتكون حلوة المذاق منعشة ، وجد رطوبة تتسلل إلى عينيه ووجد فى حلقة غصة ...انتهز لحظة كان فيها شابكين ( المحامى) مشغولا فى حديث مع القس وأسرع مبتعدا ليبكى ، تسلل إلى القبر خلسة ناظرا حوله كل لحظة ، نظر إليه اللوح الأبيض الصغير بحزن وتفكر وبراءة كأنما ترقد تحته طفلة صغيرة لا زوجة مطلقة كانت خليعة منغمسة فى اللذات ، فكر أوزيلكوف فلتبكِ فلتبك " ذكر الكاتب عرضا بهذه الفقرة سبب طلاقه من زوجته بعبارة مختصرة كشأن الفن الرفيع الذى يلمح بكلمات مختصرة ذات مغزى سبب طلاق زوجته ولمح كذلك إلى حبها له وحبه لها بكلمات عارضة فى الحوار بين المحامى والمهندس ، كذلك لا أستطيع أن أخفى دهشتى من العبارة السابقة ( نظر إليه اللوح الأبيض الصغير) وكأن حدث أتصال روحى بينه وبين زوجته فى القبر أو كأن اللوح الحجرى الابيض الذى كان على القبر معادلا لزوجته الراقدة فى القبر وكأنها طفلته وليست زوجته ، لم أقرأ من قبل ذلك التشبيه والتصوير المعبر عن ذلك الحزن على زوجته المطلقة بأنها كطفلته الصغيرة ، تلك دقائق عميقة نفسية لا أظن أحدا قد تناولها بذلك العمق والجمال .
كان الحوار بالقصة أحد أبطال القصة فقد اتسم بالفاعلية والقوة التعبيرية التى إضاءت الاحداث السابقة واستخدم الكاتب مهارته المسرحية الهائلة -وهو الكاتب المسرحى الكبير صاحب مسرحيات النورس ، العم فانيا ، الاخوات الثلاث وبستان الكرز - بغزل ذلك الحوار الرائع .
-أرجوك أخبرنى كيف عاشت صوفيا بعد ذلك
- بآلافها العشرة ؟ للأسف يعلم الله ربما فقدت عقلها أو عذبها كبرياؤها وضميرها على بيع كرامتها أو ربما كانت تحبك .
لاحظ الجملة الاخيرة (ربما كانت تحبك) وأراها هى المفسرة لحالة صوفيا السيئة والمتدهورة بعد الطلاق حتى الموت . كان الفضاء المكانى بالقصة أشبه بالفضاء المكانى للمسرح فقد كان محدودا إلى حد كبير فقد اقتصر على معالم القرية التى تغيرت منذ مغادرته لها و مكتب المحامى والمقبرة التى بالكنيسة المكلف المهندس بترميمها .
كان الموت هو الثيمة الرئيسية بالقصة وما صاحبه من مرض وفراق وحزن ومقبرة وما يعادله من صمت كما سبق ومظاهر طبيعية تنيئ بشيخوختها (وأشجار الكرز الجرداء وأشجار السنط والصلبان الرمادية وشواهد القبور مفضضة بصقيع اشبه بشية الشعر ) ، وربما كان عنوان القصة الشيخوخة درجة ما من الاقتراب من الموت والذى يمثل الثيمة الرئيسية بالقصة وقد تلاقى المهندس والمحامى وكل منهما قد أصابته الشيخوخة بل أستطيع أن أقول إن الشيخوخة قد أصابت كل شئ فى القصة حتى مظاهر الطبيعة كالاشجار جرداء وشوهد القبور والصلبان ويذلك عبر العنوان عن موضوع القصة خير تعبير .
كانت اللغة بالقصة شفيفة ومؤثرة وجزينة وعبرت عن جو الحزن والألم النفسى الداخلى للبطل مستعينا بالصورة واللون والرائحة والصمت الذى هو معادلا للموت ( كان السكون سائدا فى كل الساحة حول القبر كأنما الهواء ميت هو الآخر ) كذلك رسم صورة جمالية مستعينا بالتشبيه ( وشواهد القيور مفضضة بصقيع أشبه بشيبة الشَّعَر كان المكان معبقا بتلك الرائحة دائمة الوجود فى المقابر رائحة البخور والارض المحفورة حديثا ) . كان الفضاء النفسى( إذا صح التعبير ) للقصة فضاءا حزينا يشوبه الألم والندم أيضا ولكنه حزن أراه تطهيريا للنفس " وشعر بأن هذه الدموع كانت حلوة المذاق منعشة ، وجد رطوبة تتسلل إلى عينيه " ، قصة الشيخوخة قصة يغلب عليها الحوار وهى من أروع ما قرأت من قصص لذلك القاص العبقرى حتى إننى لم أستطع أن أفارق تأثيرها النفسى والجمالى إلا بعد وقت طويل ولا أظن أنى قد فارقته وكذلك يكون الفن الرفيع العميق .
قراءة بقلم مصطفى فودة

NOOR-BOOK.COM
تحميل كتاب الشيخوخة pdf
قصة قصيرة للأديب الروسي (أنطون تشيخوف) مقدمة القصة وصل أوزيلكوف المهندس المعماري برتبة مستشار مدني إلى بلدته الأصلية التي كان قد دُعِيَ لزيارتها لترميم الكنيسة الم....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...