قبل العيد بأيام فكرت أن أكتب عن رسائلها التي وصلتني. هل أقفر الذهن وشح الواقع وقلّت، في رمضان، القراءات؟ لا أظن ذلك، ولكني آثرت، في رمضان، ألا أشاهد التلفاز، فلا أصغي إلى الأخبار ولا أتابع المسلسلات، وإنما أجلس في ساحة الدار أتأمل الأشجار، وضوء المصباح وأتنسم هواء الليل البارد. في النهار يقولون لي: الجو حار، فأجيبهم: وفي الليل براد محتمل، هواء منعش. أقرأ في النهار ثلاث ساعات، وأتكاسل بقية الوقت، نعم أكتب؟ عن الشام وما يجري فيها؟ غدت الحرب مسلسلاً يبعث على الاكتئاب، على الرغم من أن الساحة التي بلطتها العام الماضي تجعلني أردد العبارة: كان الله في عون أهل الشام، فلقد دمرت سورية.
قبل العيد بأيام فكرت أن أكتب عن رسائلها التي وصلتني، علماً بأنني كنت انتهيت من قراءة رواية واسيني الأعرج "البيت الأندلسي"، وأثرت حولها أسئلة، ولفتت في جانب منها، يهمني وأتابعه، نظري، وأجلت الكتابة عنها، فرسائلها على مكتبي، وقد كنت أفرغتها من "الجوال" حتى لا تضرب الشريحة ثانية فتضيع، كما كنت أفرغت رسائل فتاة ثانية لأكتب عنها ذات نهار قصة عنوانها: رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني، فقد تكون هي أفرغت رسائلي، لتغدو هي، حين تغدو كاتبة شهيرة، لتغدو غادة أخرى.
وذكرتني رسائلها بقصة (استيفان زفايج/ اشتيفان) الطويلة "رسالة امرأة مجهولة" وزمن قراءتها. في أيلول من العام 1989، اشتريت الأعمال القصصية الكاملة لزفايج وقد راق لي عنوان القصة، فبدأت أقرؤها. كنت بدأت أعاني من الوحدة التي غدت لي أمراً مألوفاً، وغدا غير المألوف لي غيرها، حتى أنني بدأت أكرر عبارة المؤمنين: الوحدة عبادة، والله وحيد لا شريك له، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. فهل ستقودني الوحدة إلى الإيمان؟ ربما.
وسأوظف قصة "رسالة امرأة مجهولة" في إحدى رواياتي، سأدخل معها في علاقة تناص، دون أن يكون ما جرى في قصة (زفايج) جرى معي حقاً، والمرأة التي تراسلني/ الجهة الأمنية/ الفصيل/ عالم النفس، لم أرها ولا أعرف اسمها، وهي تلح وتكتب لي، بين فترة وفترة، الرسائل. ماذا تريد؟ ماذا تريد الجهات الأمنية مني؟
ماذا تريد الفصائل مني؟ ماذا يريد عالم النفس مني؟ أكون في شقتي وحيداً فيقرع شخص ما الجرس. أكون أقرأ في ساعات النهار، فيتصل شخص اتصالاً ما، ليسأل سؤالاً سخيفاً و.. و.. يا لفضول الناس وتفاهة الكثيرين منهم. هل المرأة هذه امرأة حقيقية أم أنها دمية؟ تأتيني رسائلها. أحياناً أرد عليها وأحياناً لا أرد.
تكتب لي: أحلى لحظات العمر شوفة عيونك.. واقسى لوعات الدهر لحظة بدونك. كيفك؟ فأتمنى لها السعادة، دون أن أعرفها وأكتب لها طالباً من الله أن "يرزقها".
ويبدو أنها مولعة بالعيون وجمالها، علماً بأن مرض السكر بدأ يفتك فيها، فثمة انحراف، قال لي الطبيب، في الشبكية، وثمة مياه بيضاء تحتاج إلى قميص يوسف حتى يرتدّ البصر إلى ما كان عليه. (عملية ليزر).
تكتب لي: لك عيوني إذا بعيوني لك راحة (لك تعني: إليك).
ولك قلبي وسط دنيا لعطش واحة
أنا الموجودة بوجودك وأنا اللّي
ظلّي بورودك وأنا عمري ابتدأ / ونهاية عمري حدودك.
هل هي أستاذة في الأدب الشعبي؟ هل يروق لها السجع الذي لا يروق لي. في المساء تكتب وفي الصباح تكتب، والسجع مطلبها، ربما أكثر مما أنا مطلبها: إن كان تعذيبي يسرك ويرضيك/ أعطني عذاب وخذ بداله/ سعادة أهجر على كيفك/ وزوّد تحديك/ وأنا بدال الهجر أحبك.
وسأكتب لها: الذي يعلم مساق الأدب الشعبي هو فلان ـ أذكر لها اسمه ـ فاكتبي له، ما دمت تصرّين على التخفّي.
صباح السنة الجديدة تتفنّن في رسالتها، فتذكرني بأشعار العصر العثماني. هكذا تأتيني رسالتها:
" بكل
حب
أهنئ
أحبائي بالعام الجديد. "Happy New Year"
وأنا لا أضرب في المندل. سأتذكّر الصغير يوم كان مشاكساً. قلت: هل هي؟ الأشياء لا تأتينا حين نطلبها. الأشياء تأتي متأخرة. كنت قدمت، ذات يوم، عرضاً لامرأة، ولم يكن السكر استفحل في جسدي (لعلها أندريا التي أشاعت أنني مصاب بالسكر، قبل أن أكون أصبت به. لعلها. تتذكر الحلوى Mars والتهامي لها، وفعلها في جسدي. لعلها أندريا). وسأكتب لها أسخر. فمن هي التي تكتب لي رسائل في العيد ولا تفصح: "هل تعرفين كم سعر البطاطا؟ الشمّام سعره مرتفع، لكنه شمّام".
تفكيري الآن في بامبرغ، في شارع هيجل شتراسه (شارع هيجل). مبنى الطلبة. ليلة القدر. كان أبي مغرماً باللغة الإيحائية للشمّام والبطّيخ.
ما الذي ذكرها بنجوى ـ أظنها نجوى كرم؟ هل هو سؤالي لها من تكون؟ تكتب لي "ما سمعت أغنية نجوى لما تقول.. عندك شخصية كثير قوية وبخاف عليك من الحسد، حرارة قلبك فوق المية، وعيونك بتولّع بلد".
ماذا جرى يومها من أحداث في الجامعة؟ هل هي على صلة بأحد ما هناك يخبرها بما جرى، أم تراها قريبة مني ولا أراها، فشدة القرب حجاب.
"لا أسمع نجوى.. أحياناً يجب أن أكون إنجليزياً فأقف احتراماً للسيدات. هناك تورية، مع أنني لا أميل إليها بحكم كوني أستاذاً. أحياناً أضطر للجوء إليها، لكن متى يكتشف الآخرون أنها حقاً ثورية؟ هذا ذكائي، مع أنني أحياناً أكون غبياً. تحياتي".
"عندما تعجز النفس عن لقاء الأحبة، فإنها تشتاق لهم، ولكن بصمت مؤلم"
"وبعدين" أسألها.
"الغياب ما هو جفا، والحضور ما هو وفا. الأهم شوف القلوب حتى لو شخص اختفى. بحسد حرارة قلبك فوق المية، وعيونك بتولّع بلد. احترامي لك".
"أشكرك".
"وفيك يا نهر الوفا ما أسمع ينابيعك. حفيت وأنا أنتظر أجمل مراسيك. طمني أنت بخير.".
لماذا كانت زعلانة مني قد الدنيا، كما كتبت في رسالة سابقة لهذه الرسائل؟ لست أدري، فأنا لا أعرفها. أخمّن أحياناً هُويّتها.
تكتب لي: "نعزك حتى بغيابك/ همنا راحة أعصابك. نريد لك تفرح وتضحك، ولا دمعة تدق بابك. مساءك سعيد" ولا أرد. ألتزم الصمت. تأتيني رسالتها: "لنا أحبة لا يسكنون بؤربنا (بقربنا) ولكن يسكنون (بؤلوبنا) (بقلوبنا)، يظل شذى ذكراهم يعطر أرواحنا. كيفك يا طيب؟". ولا أرد. أنسى الأمر خمسة عشر شهراً. لا أنا أكتب لها، ولا هي تكتب لي. فجأة في آذار، حين أسافر إلى عمّان، تأتيني رسالة منها. من هي؟ لا أرد. سأكتب في مقالاتي بما يوحي أنني لست على ما يرام. وهذا حق. هل أدركت استحالة اللقاء؟
في العيد تأتيني رسائلها من جديد. "هناك أرواح راقية، تخجلني عظمتها، تجبرني أن أحبها، لأنها لا تستحق إلاّ الحب.. كل عام وأنتم بألف خير". أجيبها ما يدفعها لمواصلة الكتابة "مساء الفلا وكلمة هلا، مساء الورد وعظيم الود. مسا الشوق في كامل الذوق.. والله وحشتونا.". كان سعيد أبو النحس المتشائل هو اميل حبيبي، وكان يكتب رسائله منه إليه. فهل هي الأنثى في الذكر من كتب رسائلها. هل اخترعتُ رسائلها؟ ربما.
أ. د. عادل الأسطة
2013-08-18
قبل العيد بأيام فكرت أن أكتب عن رسائلها التي وصلتني، علماً بأنني كنت انتهيت من قراءة رواية واسيني الأعرج "البيت الأندلسي"، وأثرت حولها أسئلة، ولفتت في جانب منها، يهمني وأتابعه، نظري، وأجلت الكتابة عنها، فرسائلها على مكتبي، وقد كنت أفرغتها من "الجوال" حتى لا تضرب الشريحة ثانية فتضيع، كما كنت أفرغت رسائل فتاة ثانية لأكتب عنها ذات نهار قصة عنوانها: رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني، فقد تكون هي أفرغت رسائلي، لتغدو هي، حين تغدو كاتبة شهيرة، لتغدو غادة أخرى.
وذكرتني رسائلها بقصة (استيفان زفايج/ اشتيفان) الطويلة "رسالة امرأة مجهولة" وزمن قراءتها. في أيلول من العام 1989، اشتريت الأعمال القصصية الكاملة لزفايج وقد راق لي عنوان القصة، فبدأت أقرؤها. كنت بدأت أعاني من الوحدة التي غدت لي أمراً مألوفاً، وغدا غير المألوف لي غيرها، حتى أنني بدأت أكرر عبارة المؤمنين: الوحدة عبادة، والله وحيد لا شريك له، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. فهل ستقودني الوحدة إلى الإيمان؟ ربما.
وسأوظف قصة "رسالة امرأة مجهولة" في إحدى رواياتي، سأدخل معها في علاقة تناص، دون أن يكون ما جرى في قصة (زفايج) جرى معي حقاً، والمرأة التي تراسلني/ الجهة الأمنية/ الفصيل/ عالم النفس، لم أرها ولا أعرف اسمها، وهي تلح وتكتب لي، بين فترة وفترة، الرسائل. ماذا تريد؟ ماذا تريد الجهات الأمنية مني؟
ماذا تريد الفصائل مني؟ ماذا يريد عالم النفس مني؟ أكون في شقتي وحيداً فيقرع شخص ما الجرس. أكون أقرأ في ساعات النهار، فيتصل شخص اتصالاً ما، ليسأل سؤالاً سخيفاً و.. و.. يا لفضول الناس وتفاهة الكثيرين منهم. هل المرأة هذه امرأة حقيقية أم أنها دمية؟ تأتيني رسائلها. أحياناً أرد عليها وأحياناً لا أرد.
تكتب لي: أحلى لحظات العمر شوفة عيونك.. واقسى لوعات الدهر لحظة بدونك. كيفك؟ فأتمنى لها السعادة، دون أن أعرفها وأكتب لها طالباً من الله أن "يرزقها".
ويبدو أنها مولعة بالعيون وجمالها، علماً بأن مرض السكر بدأ يفتك فيها، فثمة انحراف، قال لي الطبيب، في الشبكية، وثمة مياه بيضاء تحتاج إلى قميص يوسف حتى يرتدّ البصر إلى ما كان عليه. (عملية ليزر).
تكتب لي: لك عيوني إذا بعيوني لك راحة (لك تعني: إليك).
ولك قلبي وسط دنيا لعطش واحة
أنا الموجودة بوجودك وأنا اللّي
ظلّي بورودك وأنا عمري ابتدأ / ونهاية عمري حدودك.
هل هي أستاذة في الأدب الشعبي؟ هل يروق لها السجع الذي لا يروق لي. في المساء تكتب وفي الصباح تكتب، والسجع مطلبها، ربما أكثر مما أنا مطلبها: إن كان تعذيبي يسرك ويرضيك/ أعطني عذاب وخذ بداله/ سعادة أهجر على كيفك/ وزوّد تحديك/ وأنا بدال الهجر أحبك.
وسأكتب لها: الذي يعلم مساق الأدب الشعبي هو فلان ـ أذكر لها اسمه ـ فاكتبي له، ما دمت تصرّين على التخفّي.
صباح السنة الجديدة تتفنّن في رسالتها، فتذكرني بأشعار العصر العثماني. هكذا تأتيني رسالتها:
" بكل
حب
أهنئ
أحبائي بالعام الجديد. "Happy New Year"
وأنا لا أضرب في المندل. سأتذكّر الصغير يوم كان مشاكساً. قلت: هل هي؟ الأشياء لا تأتينا حين نطلبها. الأشياء تأتي متأخرة. كنت قدمت، ذات يوم، عرضاً لامرأة، ولم يكن السكر استفحل في جسدي (لعلها أندريا التي أشاعت أنني مصاب بالسكر، قبل أن أكون أصبت به. لعلها. تتذكر الحلوى Mars والتهامي لها، وفعلها في جسدي. لعلها أندريا). وسأكتب لها أسخر. فمن هي التي تكتب لي رسائل في العيد ولا تفصح: "هل تعرفين كم سعر البطاطا؟ الشمّام سعره مرتفع، لكنه شمّام".
تفكيري الآن في بامبرغ، في شارع هيجل شتراسه (شارع هيجل). مبنى الطلبة. ليلة القدر. كان أبي مغرماً باللغة الإيحائية للشمّام والبطّيخ.
ما الذي ذكرها بنجوى ـ أظنها نجوى كرم؟ هل هو سؤالي لها من تكون؟ تكتب لي "ما سمعت أغنية نجوى لما تقول.. عندك شخصية كثير قوية وبخاف عليك من الحسد، حرارة قلبك فوق المية، وعيونك بتولّع بلد".
ماذا جرى يومها من أحداث في الجامعة؟ هل هي على صلة بأحد ما هناك يخبرها بما جرى، أم تراها قريبة مني ولا أراها، فشدة القرب حجاب.
"لا أسمع نجوى.. أحياناً يجب أن أكون إنجليزياً فأقف احتراماً للسيدات. هناك تورية، مع أنني لا أميل إليها بحكم كوني أستاذاً. أحياناً أضطر للجوء إليها، لكن متى يكتشف الآخرون أنها حقاً ثورية؟ هذا ذكائي، مع أنني أحياناً أكون غبياً. تحياتي".
"عندما تعجز النفس عن لقاء الأحبة، فإنها تشتاق لهم، ولكن بصمت مؤلم"
"وبعدين" أسألها.
"الغياب ما هو جفا، والحضور ما هو وفا. الأهم شوف القلوب حتى لو شخص اختفى. بحسد حرارة قلبك فوق المية، وعيونك بتولّع بلد. احترامي لك".
"أشكرك".
"وفيك يا نهر الوفا ما أسمع ينابيعك. حفيت وأنا أنتظر أجمل مراسيك. طمني أنت بخير.".
لماذا كانت زعلانة مني قد الدنيا، كما كتبت في رسالة سابقة لهذه الرسائل؟ لست أدري، فأنا لا أعرفها. أخمّن أحياناً هُويّتها.
تكتب لي: "نعزك حتى بغيابك/ همنا راحة أعصابك. نريد لك تفرح وتضحك، ولا دمعة تدق بابك. مساءك سعيد" ولا أرد. ألتزم الصمت. تأتيني رسالتها: "لنا أحبة لا يسكنون بؤربنا (بقربنا) ولكن يسكنون (بؤلوبنا) (بقلوبنا)، يظل شذى ذكراهم يعطر أرواحنا. كيفك يا طيب؟". ولا أرد. أنسى الأمر خمسة عشر شهراً. لا أنا أكتب لها، ولا هي تكتب لي. فجأة في آذار، حين أسافر إلى عمّان، تأتيني رسالة منها. من هي؟ لا أرد. سأكتب في مقالاتي بما يوحي أنني لست على ما يرام. وهذا حق. هل أدركت استحالة اللقاء؟
في العيد تأتيني رسائلها من جديد. "هناك أرواح راقية، تخجلني عظمتها، تجبرني أن أحبها، لأنها لا تستحق إلاّ الحب.. كل عام وأنتم بألف خير". أجيبها ما يدفعها لمواصلة الكتابة "مساء الفلا وكلمة هلا، مساء الورد وعظيم الود. مسا الشوق في كامل الذوق.. والله وحشتونا.". كان سعيد أبو النحس المتشائل هو اميل حبيبي، وكان يكتب رسائله منه إليه. فهل هي الأنثى في الذكر من كتب رسائلها. هل اخترعتُ رسائلها؟ ربما.
أ. د. عادل الأسطة
2013-08-18