يتبادر إلى ذهن الكثيرين أنهما مترادفان يدل أحدهما على الآخر سيما وفي الأمر اتساع عند غير النقاد.
نعم السرد حكي ممزوج بملحة من تفرد تغني الأسلوب وتزين الكلام وتخايل به، فكل سارد يحكي وليس العكس؛ الحكي انطلاق قاطرة دون مراعاة لأنظمة السير، قد يهرف الحكاء ويأتى بما يود غير مأتلف أو مشذب فتشعر حين ذاك بغير انتظام.
للسرد نظام في توزيع مفرداته أشبه بالنوتة الموسيقية تتداخل لكنها لا تختلط، يحسن الناس الحكي اليومي، في الحافلات وفي المقاهي بل حتى وهم نيام يحكون وساوسهم ورؤاهم؛ وقلة منهم من يدركون قواعد لعبة السرد.
حين تقرأ للجاحظ مقالة تدرك أنه يراعي قانونا خفيا يداخل به بين مفرداته، يمسك بريشته ومن ثم يراعي النسق وانتظام الفكرة واستقامتها، أما الحكاء فلا تعنيه غير تزجية الوقت وقد يأتي بحركة من حركات جسده تعوض نقص مفرداته لتسعفه في بعض سمره.
يمثل السرد ثقافة ومقدرة صاحبه على المزاوجة بين المفردات حتى يخلص إلى ما أراد؛ معنى هذا أن السارد عالم بأصول اللعبة يحدد هدفه ويرجو غاية من تأطير عباراته وفقراته.
يحق لنا من هذه الوجهة أن نضم كتابات العقاد والرافعي والزيات وزكي مبارك وطه حسين وغيرهم إلى قائمة الروائيين الذين مروا بمسيرة النثر العربي؛ فكتاباتهم محددة ذات غرض.
لكننا من وجهة أخرى نبعد بهم أن يكونوا أصحاب سرد مفعم بالحياة؛ لأنهم غلبوا العقل على العاطفة فصارت كتاباتهم آلية باهتة.
حين قرأ أحد أقرباء الطيب صالح سرده أبان أن ذلك كلامهم لولا هذه اللولوة التي تداخله؛ بمعنى أنه يحكي عنه ويشخص حيواتهم لكن في صورة يعجزون أن يأتوا بمثلها؛ كل من قرأ لنجيب محفوظ يعلم أنه يحكي عن عالمه هو نفس الأمكنة بل والأحداث هي هي؛ لكنه لا يحسن نظمها في ذلك الخيط البديع الذي وضعها فيه نجيب.
تقرأ رواية مترجمة كمائة عام من العزلة أو الطاعون أو العمى أو مزرعة الحيوانات تدرك أنها وإن تحدثت عن بلاد بعيدة لكنها تتداخل بين عقلك وفكرك؛ لمهارة السارد وبراعته.
لذا كانت براعة السارد أن يلقي بأذنه جهة الحكي؛ يضرب في عمق بيئته ويجمع متناثرها من هنا ومن هناك، فالأدب شعبي في مقامه الأول؛ من المنمنمات التي لا ترى تأتلف الحكايات، ربما تتكرر وتتشابه في صورتها العامة لكنها تحمل تاريخ الإنسان؛ يسارع قلم السارد فيملأ فجوات النص بخياله ويزين لوحته بما وهب من مقدرة معجمية؛ أبدع الساردين من تخلصوا من ربقة الحكي إلى فسحة القلم به يسطرون. ثمة أشياء بسيطة ربما لايلتفت إليها الكثيرون؛ الاهتمام بها ومحاولة إبرازها في ثنايا السرد يعطي له الرونق؛ تكون مادة الطلاء بل لا أعدو الحقيقة حين أصفها: النكهة المميزة لأي سارد يبحر في ذلك البحر اللجي؛ حين اهتم نجيب محفوظ بعناصر حارة زقاق المدق استطاع أن يصور الأمكنة ونوازع الشخصية التي كتب عنها؛ هل تحلو تلك الرواية دون حميدة تلك الفتاة الناهد التي تعابث عباس الحلو ثم تنفلت من بين يديه في مراوغة الأنثى؛ جعدة صانع العاهات في زقاق يعتاش على المكر وتغلفه رائحة الدهاء.
نموذجان في الزقاق على سبيل المثال قدمهما نجيب محفوظ وبين حركية الأداء؛ سلط قلمه على حميدة في تثنيها وتدللها وهي الفتاة اللقيطة لأم تراها كنزها الذي تضن به؛ لتحتوش به المال.
تعال معي أيها القاريء للطيب صالح وكيف رسم لنا شخصية مصطفى سعيد فتى ومعلما أو في خفايا لندن وقتاله الاستعمار فوق سرير الخطيئة؛ إنه يزهو بعقله وبفحولته في آن؛ في حجرة إفريقية تعبق بالبخور والأشكال الإفريفية المستوحاة من الغابة؛ صياد يقنص كل يوم فريسة ثم يرفع عقيرته منتصرا في موسم هجرة إلى الشمال؛ يعود إلى السودان مأزوما؛ تتبعه آثار معركة فقد فيها سلاحه؛ عاد بلاهوية يفلح الأرض؛ ثم حسنة بنت محمود يتركها بين نارين: حب وترمل!
عبد الرحمن الشرقاوي في حديثه عن محمد أبوسويلم؛ شخصية جسدت المقاومة ولم تستسلم لسوط القهر؛ وأبدع الفن في تجسيده الفلاح وهو يتشبث بأرضه ولو عطشانه!
الكاتب المبدع هو من يتغلل في ثنايا شخصياته ويرقب خط سيرها؛ ينظر البيئة ويهتم بمفرداتها؛ يعيش زمن الحكي؛ لايكون وصيا على الحدث فيلوي عنقه ليبتسر حكمة أو يؤدي دور الواعظ؛ للفن مهارات وأدوات قلما يلتفت إليها الساردون في طريق النص.
يعنى بحركات اليد وتمايل الجسد وتثنيه فتنة وإغراء كما ينظر لسانه وكيف ينطق في موقف ما؛ يدع السرد ينطلق لكنه يمسك بعنانه خشية جموحه ومن ثم تفلته؛ يحزنني أن يقلد الكتاب بعضهم بعضا؛ يكون لدينا نسخ شائهة من نجيب محفوظ ويحيى حقي ويحيى الطاهر عبدالله؛ ستكون أكوام من ورق وبضاعة مزجاة؛ والأغرب أن يقلد من لا ينتمي ثقافة ولا لغة من الآخرين.
الكتابة بصمة وراثية؛ يصعب تزييفها أو العبث بها؛ سطر واحد من نجيب محفوظ بل شخصية من روائعه تكشف انتماءه وتعبر إلى القاريء في سلاسة ويسر؛ محجوب عبدالدايم تلك الشخصية هي مولود شرعي لنجيب؛ مهما قلدها المقلدون أو خايلوا بها تناصا فهي له؛ معجمه اللغوي وتراكيبه كما صوره وأخيلته.
هل يعني ذلك أن يتوقف المبدعون؟
الفضاء متسع واللغة بحر والأحداث مؤاتية متدافعة؛ ينطلق كل كاتب ويعبر؛ شرط أن يسرد إبداعا ويتفرد حدثا.
أن تمسك بالقلم وتشرع في الكتابة فذلك عنت؛ تتخلص من الزمن وتتغافل المكان الذي يتلبسك؛ تعايش الحدث الذي تحاول اقتناصه؛ تتخفى كما الثعلب بين ثنايا اللغة؛ هل سترتكب جناية؟
أعتبر الكاتب متهما؛ إن كتب عن أنثى فكيف له بعالمها؟
إن تعالى بقيمه قالوا: كاتب أخلاقي وعظي؛ إن دخل القصور ووصف مباذلها صاحوا به: حاقد بغيض!
إن رسم ظلال المهمشين والساربين في متاهة الفوضى اقتنصه الرقيب بدعوى الفوضوية؛ كيف يكتب؟
يتخفى وراء الرمز ويلبس الأشياء غير مسمياتها ويمعن في حبكة مسيجة بألف سور دون باب كشف رأوه ملغزا.
إن تخلص من كل هذا وكتب عن الهوى وبنات الليل عد زهيد القيمة؛ إنه يعاني في كل حالاته من الرهق والتتبع؛ يحاول جاهدا أن يوجد مساحة للسرد تختلف عن الآخرين ليكون عالمه له وحده.
ثمة رأي أن الأدب المترجم باهت؛ فقد حرارة اللغة ودفء الحدث؛ إنه معلب فغدا باهت الوجه؛ لكن المترجم يضفي عليه حياة ورواء حين يعالجه.
نعم السرد حكي ممزوج بملحة من تفرد تغني الأسلوب وتزين الكلام وتخايل به، فكل سارد يحكي وليس العكس؛ الحكي انطلاق قاطرة دون مراعاة لأنظمة السير، قد يهرف الحكاء ويأتى بما يود غير مأتلف أو مشذب فتشعر حين ذاك بغير انتظام.
للسرد نظام في توزيع مفرداته أشبه بالنوتة الموسيقية تتداخل لكنها لا تختلط، يحسن الناس الحكي اليومي، في الحافلات وفي المقاهي بل حتى وهم نيام يحكون وساوسهم ورؤاهم؛ وقلة منهم من يدركون قواعد لعبة السرد.
حين تقرأ للجاحظ مقالة تدرك أنه يراعي قانونا خفيا يداخل به بين مفرداته، يمسك بريشته ومن ثم يراعي النسق وانتظام الفكرة واستقامتها، أما الحكاء فلا تعنيه غير تزجية الوقت وقد يأتي بحركة من حركات جسده تعوض نقص مفرداته لتسعفه في بعض سمره.
يمثل السرد ثقافة ومقدرة صاحبه على المزاوجة بين المفردات حتى يخلص إلى ما أراد؛ معنى هذا أن السارد عالم بأصول اللعبة يحدد هدفه ويرجو غاية من تأطير عباراته وفقراته.
يحق لنا من هذه الوجهة أن نضم كتابات العقاد والرافعي والزيات وزكي مبارك وطه حسين وغيرهم إلى قائمة الروائيين الذين مروا بمسيرة النثر العربي؛ فكتاباتهم محددة ذات غرض.
لكننا من وجهة أخرى نبعد بهم أن يكونوا أصحاب سرد مفعم بالحياة؛ لأنهم غلبوا العقل على العاطفة فصارت كتاباتهم آلية باهتة.
حين قرأ أحد أقرباء الطيب صالح سرده أبان أن ذلك كلامهم لولا هذه اللولوة التي تداخله؛ بمعنى أنه يحكي عنه ويشخص حيواتهم لكن في صورة يعجزون أن يأتوا بمثلها؛ كل من قرأ لنجيب محفوظ يعلم أنه يحكي عن عالمه هو نفس الأمكنة بل والأحداث هي هي؛ لكنه لا يحسن نظمها في ذلك الخيط البديع الذي وضعها فيه نجيب.
تقرأ رواية مترجمة كمائة عام من العزلة أو الطاعون أو العمى أو مزرعة الحيوانات تدرك أنها وإن تحدثت عن بلاد بعيدة لكنها تتداخل بين عقلك وفكرك؛ لمهارة السارد وبراعته.
لذا كانت براعة السارد أن يلقي بأذنه جهة الحكي؛ يضرب في عمق بيئته ويجمع متناثرها من هنا ومن هناك، فالأدب شعبي في مقامه الأول؛ من المنمنمات التي لا ترى تأتلف الحكايات، ربما تتكرر وتتشابه في صورتها العامة لكنها تحمل تاريخ الإنسان؛ يسارع قلم السارد فيملأ فجوات النص بخياله ويزين لوحته بما وهب من مقدرة معجمية؛ أبدع الساردين من تخلصوا من ربقة الحكي إلى فسحة القلم به يسطرون. ثمة أشياء بسيطة ربما لايلتفت إليها الكثيرون؛ الاهتمام بها ومحاولة إبرازها في ثنايا السرد يعطي له الرونق؛ تكون مادة الطلاء بل لا أعدو الحقيقة حين أصفها: النكهة المميزة لأي سارد يبحر في ذلك البحر اللجي؛ حين اهتم نجيب محفوظ بعناصر حارة زقاق المدق استطاع أن يصور الأمكنة ونوازع الشخصية التي كتب عنها؛ هل تحلو تلك الرواية دون حميدة تلك الفتاة الناهد التي تعابث عباس الحلو ثم تنفلت من بين يديه في مراوغة الأنثى؛ جعدة صانع العاهات في زقاق يعتاش على المكر وتغلفه رائحة الدهاء.
نموذجان في الزقاق على سبيل المثال قدمهما نجيب محفوظ وبين حركية الأداء؛ سلط قلمه على حميدة في تثنيها وتدللها وهي الفتاة اللقيطة لأم تراها كنزها الذي تضن به؛ لتحتوش به المال.
تعال معي أيها القاريء للطيب صالح وكيف رسم لنا شخصية مصطفى سعيد فتى ومعلما أو في خفايا لندن وقتاله الاستعمار فوق سرير الخطيئة؛ إنه يزهو بعقله وبفحولته في آن؛ في حجرة إفريقية تعبق بالبخور والأشكال الإفريفية المستوحاة من الغابة؛ صياد يقنص كل يوم فريسة ثم يرفع عقيرته منتصرا في موسم هجرة إلى الشمال؛ يعود إلى السودان مأزوما؛ تتبعه آثار معركة فقد فيها سلاحه؛ عاد بلاهوية يفلح الأرض؛ ثم حسنة بنت محمود يتركها بين نارين: حب وترمل!
عبد الرحمن الشرقاوي في حديثه عن محمد أبوسويلم؛ شخصية جسدت المقاومة ولم تستسلم لسوط القهر؛ وأبدع الفن في تجسيده الفلاح وهو يتشبث بأرضه ولو عطشانه!
الكاتب المبدع هو من يتغلل في ثنايا شخصياته ويرقب خط سيرها؛ ينظر البيئة ويهتم بمفرداتها؛ يعيش زمن الحكي؛ لايكون وصيا على الحدث فيلوي عنقه ليبتسر حكمة أو يؤدي دور الواعظ؛ للفن مهارات وأدوات قلما يلتفت إليها الساردون في طريق النص.
يعنى بحركات اليد وتمايل الجسد وتثنيه فتنة وإغراء كما ينظر لسانه وكيف ينطق في موقف ما؛ يدع السرد ينطلق لكنه يمسك بعنانه خشية جموحه ومن ثم تفلته؛ يحزنني أن يقلد الكتاب بعضهم بعضا؛ يكون لدينا نسخ شائهة من نجيب محفوظ ويحيى حقي ويحيى الطاهر عبدالله؛ ستكون أكوام من ورق وبضاعة مزجاة؛ والأغرب أن يقلد من لا ينتمي ثقافة ولا لغة من الآخرين.
الكتابة بصمة وراثية؛ يصعب تزييفها أو العبث بها؛ سطر واحد من نجيب محفوظ بل شخصية من روائعه تكشف انتماءه وتعبر إلى القاريء في سلاسة ويسر؛ محجوب عبدالدايم تلك الشخصية هي مولود شرعي لنجيب؛ مهما قلدها المقلدون أو خايلوا بها تناصا فهي له؛ معجمه اللغوي وتراكيبه كما صوره وأخيلته.
هل يعني ذلك أن يتوقف المبدعون؟
الفضاء متسع واللغة بحر والأحداث مؤاتية متدافعة؛ ينطلق كل كاتب ويعبر؛ شرط أن يسرد إبداعا ويتفرد حدثا.
أن تمسك بالقلم وتشرع في الكتابة فذلك عنت؛ تتخلص من الزمن وتتغافل المكان الذي يتلبسك؛ تعايش الحدث الذي تحاول اقتناصه؛ تتخفى كما الثعلب بين ثنايا اللغة؛ هل سترتكب جناية؟
أعتبر الكاتب متهما؛ إن كتب عن أنثى فكيف له بعالمها؟
إن تعالى بقيمه قالوا: كاتب أخلاقي وعظي؛ إن دخل القصور ووصف مباذلها صاحوا به: حاقد بغيض!
إن رسم ظلال المهمشين والساربين في متاهة الفوضى اقتنصه الرقيب بدعوى الفوضوية؛ كيف يكتب؟
يتخفى وراء الرمز ويلبس الأشياء غير مسمياتها ويمعن في حبكة مسيجة بألف سور دون باب كشف رأوه ملغزا.
إن تخلص من كل هذا وكتب عن الهوى وبنات الليل عد زهيد القيمة؛ إنه يعاني في كل حالاته من الرهق والتتبع؛ يحاول جاهدا أن يوجد مساحة للسرد تختلف عن الآخرين ليكون عالمه له وحده.
ثمة رأي أن الأدب المترجم باهت؛ فقد حرارة اللغة ودفء الحدث؛ إنه معلب فغدا باهت الوجه؛ لكن المترجم يضفي عليه حياة ورواء حين يعالجه.