الشعر المغربي المعاصر إبداع مرتبط بسيرورة ثقافية وتاريخية وحضارية عرفت إبدالات جديدة على المستوى البنى النصية، و التصورات المتجددة بتجدد الشروط المجتمعية، والسياسية والفكرية، فهذه العوامل تلعب دورا أساسا في وسم التجارب الإنسانية؛ بالعديد من سمات التطور والتغير، انسجاما مع ما يعتري الواقع من تحلحلات على مستوى الوعي الملتصق بالذات وبالمجتمع، فالوعي بالذات يؤدي حتماً إلى إدراك المجتمع، والتعبير عن الهواجس والأحلام التي يصبو إليها. من هذا المنطلق، يمكن القول إن القصيدة المغربية المعاصرة وليدة هذه المعطيات، مما دفع بالشعراء المغاربة، الذين عايشوا ذلك إلى خلق بنية نصية شعرية تستجيب لهذه التغيرات، و تعبر عن رؤى وأفكار نابعة من مكابدات إبداعية، ذات الصلة، بالقلق الوجودي، وما يعتور الواقع من تململات لها تأثير على تعقد العلاقات الاجتماعية وتشابكها، وعلى كينونة الشعراء. الشيء الذي كان وراء ارتياد الشعر المغربي المعاصر المغامرة، واجتراح مسالك تعبيرية شعرية معبرة؛ عن هذا الرغبة الجامحة؛ في إبداع نص شعري مفعم بحرارة المرحلة التاريخية العصيبة، التي تمر منها الأمة العربية والوضع السياسي، الاجتماعي والاقتصادي المحتدم في المغرب ،في بداية الستينيات، مما شكل بؤرة مشتعلة، بأسئلة ضاجة ومقلقة انسجاما مع المد القومي العروبي والمد الاشتراكي. هذه الدواعي أسهمت في خلق نص شعري مغربي يستمد وجوده الشعري، من الشعرية العربية في المشرق العربي،أُسُّهُ هدم بنية النص التقليدي؛وخلق بنية نصية شعرية تتماشى مع ما يجري في الواقع العربي. هذه القصيدة المغامرة والممتدة في نسغ المغايرة الشعرية العربية، اكتسبت خصوصيتها الشعرية من هذا الإبدال الشعري، خالقة ومبدعة لتجربة تؤسس كيانها الشعري، من خلال، الفاعلية والتفاعلية مع شعريات عربية رائدة في الممارسة النصية الشعرية، ومن تم يمكن الحديث عن شعراء مؤسسين لهذه القصيدة، الذين أثروا، المشهد الشعري المغربي والعربي، بتجارب ممعنة في الإنصات إلى نبض المجتمع، وضالعة في اقتراف جنحة الإبتداع؛ بدل الاتباعية المهيمنة على النص الشعري المتسم بكلاسية اجترارية، وفي هذا السياق، يمكننا الحديث عن قصيدة مغربية معاصرة، تمتح من الخصوصية المغربية معالمها الجمالية والفنية، في تفاعل عميق مع الانشغالات والأحلام، التي حولت النص الشعري، يحتفي بالخارج النصي، ويغيب الداخل النصي، لكن هذا لا يدل إطلاقا على أن القصيدة المغربية لم تعبر عن الذات بالشكل العميق ، بقدر ما خلقت نصا شعريا معبرا عنها، منطلقه ما هو إبداعي . ولعل تجربة الشاعر الرائد للقصيدة المغامرة أحمد المجاطي يفند هذا، إذ تمكن من إبداع نص شعري يزاوج بين الهم الجمعي والقلق الذاتي؛ في نص يستحق ديمومة شعرية متأصلة، لما يتصف به من إبداعية متفردة ومنفردة، وهذا ليس ادعاءً أو إسقاطاً اعتباطياً، بل عمق تجربته يبرهن على موقفنا هذا، المنطلق من تصور نقدي يعتمد على آليات موضوعية، تكمن في بنية النص الشعري لاغير، يقول الشاعر أحمد المجاطي:
” تلبسني الأشياء
يرحل النهار
تلبسني شوارع المدينة
أسكن قرارة الكأس
أحيل شبحي مرايا
أرقص في مملكة العرايا“ (1)
حتى يقول :
” تسعفني الكأس
ولا تسعفني العبارة“ (2)
لغة شعرية مفارقة ومتجاوزة لما هو كائن في القصيدة المغربية، تكشف عن وعي شعري جديد، يؤسس لتجربة شعرية تنصت للأعماق، طارحة أسئلة مرتبطة بما هو ذاتي ووجودي، فالذات تحولت، بفضل التغيرات الحضارية والإنسانية، إلى بؤرة لمراودة الأسئلة الحارقة والمقلقة. فبنية الاغتراب شارعة ذراعيها لاحتضان ذات مسلوبة الإرادة وعاجزة عن الفعل، لكن شعريتها تنم عن عمق التجربة الشعرية المعبر عنها، وعلى هذه المتوالية الشعرية يمكن نعت تجربة الرواد لقصيدة المغامرة ،كما الشأن بالنسبة لمحمد الخمار الكنوني ومحمد السرغيني ومحمد الميموني وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري وغيرهم، فقصيدتهم لم تكن سوى صدى للخارج النصي، مع الاعتراف بفضل الأسبقية في خلق قطيعة مع النص الشعري التقليدي الذي كان منحصرا في ما هو مناسباتي .وما تتسم به تجربة الرواد كونها شرعت الباب لخلق شعرية مجددة ومفعمة بالخلق والإبداعية.
إقرأ العدد الخامس
إقرأ العدد الخامس
-2-
ولابد من القول إن الإبداع، بصفة عامة، تعبير عن التحولات الحضارية والاجتماعية والثقافية، وتجسيد لوعي الذات، بحثا عن الكينونة الشعرية والأنطولوجية، وهذا شأن القصيدة المغربية المعاصرة ؛ فقد كانت مستجيبة لهذه الحاجة الإبدالية، في بنية النص الشعري المعاصر. هكذا يمكننا الحديث عن نصية شعرية؛ ارتضت الخروج عن السائد، في الشعرية العربية، واختارت التجاوز والهدم والتخطي، كديدن تجديدي انسجاما مع ما يجري على الواقع من تغيرات، وما تشهده الشعرية العربية من أسئلة جديدة ومربكة للذات، بفعل الارتجاجات، التي مست الوعي الفردي بحقيقة هذه التحولات، فجاءت النصية الشعرية السبعينية مخالفة ومختلفة عن قصيدة السقوط والانتطار –على حد تعبير محمد بنيس- إلى نص تخلَّق من رحم الوعي الفكري والالتزام بقضايا المجتمع المضطرب، والباحث عن مخرج للتحرر من الأغلال التعبيرية المتجاوزة ، التي تحد من الرغبة الجامحة في ابتداع شعرية مفتوحة على إشكالات وجودية وذاتية، ومن أبرز هؤلاء الشعراء نشير إلى محمد الوديع الأسفي ومحمد الحبيب الفرقاني اللذين ظلا منتصرين للخارج النصي أي قضايا المجتمع، ثم جاءت زمرة من الشعراء تحمل هاجس الخلق والتجديد، التي يمثلها الشعراء إدريس الملياني، ومحمد الشيخي، وعبد الله راجع، ومحمد بنيس، ومحمد بنطلحة، وأحمد بن ميمون،و…و…الذين أضافوا إضافات الجدة والإبداع على قصيدة التفعيلة. حيث فتحت جغرافيات نصية جديدة؛ تمثلت في “القصيدة الكاليغرافية” التي أعادت الاعتبار إلى القراءة البصرية. وهي تجربة فتحت أفقا للخرق والإبداعية النابضة برؤى شعرية ثرية؛ بمحمولاتها الموضوعاتية والجمالية، و الاحتفاء بالذات كمقوم من مقومات نصية جديدة .وحتى نؤكد أحقية هذا التحول في القصيدة المغربية المعاصرة نورد نموذجا شعريا للشاعر عبد الله راجع أصبغ النص الشعري، بملامح مغربية ذات دلالات عميقة في تشكيل ذاكرة شعرية مغربية أصيلة يقول:
” هي الأرض التي تحبو على كتفي تترك في القصيدة لحمها
وأنا امتداد الحلم في الجسد المحاصر بالكتابة
لاشيء ينقدني من الأرض التي تمشي
سوى الأرض التي تأتي
وليس رحيل أحبابي سوى مرّ سحابة “ (3)
إن الملمح الجمالي من بين سمات هذه التجربة الشعرية، حيث الذهاب باللغة الشعرية إلى ارتياد عوالم الحلم والتعبير عن القلق الإبداعي الذي يساور الذات الشاعرة أثناء لحظة الكتابة، وبالتالي فالقصيدة هنا التحمت بالهم الذاتي، كسيرة شعرية لتجربة خارجة من النفق الإيديولوجي إلى أفق مفتوح على أسئلة الإبداع، فتحول النص الشعري إلى بؤرة للشعر لا غير، أي كتابة شعرية تحتفي بالإبداع الشعري.
-3-
كانت قصيدة النثر البنية التعبيرية لتجربة شعرية نفضت يديها مما هو إيديولوجي، وعارية من الهموم الجمعية، نحو الانخراط في الهم الفردي المرتبط بأسئلة الذات
لقد سعت القصيدة المغربية المعاصرة إلى خلق تصورات ورؤى تختلف، عما سبقها من تجارب شعرية، كان لها الدور الفعال في وسم النصية الشعرية المغربية ، وفق الحاضر الذي تعيشه وتعايشه،والإشكالات الذاتية والوجودية، فجاء النص الشعري مجسدا لهذه الانعطافات، ومتجاوزا لبنيات تعبيرية ذات تصورات ضيقة وغير مسعفة للذات لتشكيل نص يستجيب لأفقها الجمالي والفني. هذه الذات التي تعبر عن كينونتها نثريا، إذ لم الوزن /التفعيلة الهاجس الرئيسي، بل خلقت إيقاعية شعرية مندغمة مع إيقاع الداخل، وذبذبات العواطف وزلازل البواطن المتشظية، بفعل عوامل حضارية وتاريخية لم تكن في صالح الذات، بقدر ما زادت من تأزيم علاقة الشاعر مع الواقع المتشرذم والمتشظي، فكانت قصيدة النثر البنية التعبيرية لتجربة شعرية نفضت يديها مما هو إيديولوجي، وعارية من الهموم الجمعية، نحو الانخراط في الهم الفردي المرتبط بأسئلة الذات، بتعبير آخر الهم الأساس لها هي العودة إلى الذات كمرجع للعملية الإبداعية، والاحتفاء باليومي والمهمش والمبتذل، وأصبح النص الشعري منفتحا على أساليب السرد والجنوح نحو التشذير /الشذرة في ابتعاد تام عما هو إيديولوجي، ومن أبرز شعراء تجربة قصيدة النثر نشير إلى أحمد بركات، إدريس عيسى، حسن نجمي، صلاح بوسريف، وفاء العمراني، ،محمد بوجبيري، محمد عرش، محمد عزيز الحصيني، عبد السلام المساوي وسعيد الباز ومحمد رفيق وغيرهم، حيث الرؤيا والنهل من التجربة والمنابع الثقافية والفكرية المختلفة والمتنوعة هي من سمات التجربة الثمانينية ، وفي هذا السياق ندرج مقطعا تمثيليا للشاعر أحمد بركات:
” حذر كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم
الأشياء الأكثر فداحة
قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة
والأسطح المتبقية من خراب البارحة“ (4)
يمكن وسم التجربة التسعينية وتجربة الألفية الثالثة بشعرية تنحو نحو الاحتفاء بالذات والخيبات والانكسارات، بلغة جريحة تحتفي بالتشظي
فالتجربة الثمانينية تقول كينونتها الشعرية، عبر أخذ مسافة بعيدة، للتأمل في عالم لا يستحق إلاالتوبيخ، نظرا لفظاعاته تجاه الذات الشاعرة المتشظية، والغارقة في خرائب وجود يزداد نزيفا وجرحا، لذلك يحتاج الشاعر إلى لغة شعرية تحتفي بالخراب الناجم عن الحروب، بسبب انعدام القيم الإنسانية. إنها شعرية تجعل العالم والذات فكرة للكتابة الشعرية. ومن ثم يمكن وسم التجربة التسعينية وتجربة الألفية الثالثة بشعرية تنحو نحو الاحتفاء بالذات والخيبات والانكسارات، بلغة جريحة تحتفي بالتشظي، وتختزل العالم في إيقاعية داخلية تفضح كوامن الذات وارتجاج العالم ، ونذكر من الشعراء حكيم عنكر، عبد الغني فوزي،مصطفى ملح ،كمال أخلاقي ، محمد اللغافي، الطيب هلو،وعبد اللطيف الوراري،عبد الله بن ناجي، صالح لبريني، وجواد أحمو، محمد أحمد بنيس، محمد بشكار، منير الإدريسي، علية الإدريسي، ووداد بنموسى، أحمد الدمناتي، عبد السلام دخان، محمد العناز، ورشيد طلبي، وعبد الهادي روضي، ورشيد الخديري، والقائمة طويلة ونمثل لهذه التجربة التسعينية بقول الشاعرة وداد بن موسى:
” آيات العشق ينابيعي
سماوات العشق مثواي
وليس لي ما أخسره سوى الخسران
له وهبتني“ (5)
مما سبق يمكن القول، إن الشعر المغربي المعاصر خرج من المغامرة الإبداعية إلى تجربة الكتابة،استجابة للتغيرات التي مست جوهر العملية الإبداعية، حيث غدت الفاعلية الشعرية مرتبطة بأجناس إبداعية، تمنح للنص جماليته الفنية والرؤيوية ،بوساطة الاهتمام بما هو بصري تشكيلي،والغوص في تفاعلية أجناسية مثورة للنصية الشعرية، الشيء الذي وسمها بديناميكية تجديدية؛ تروم الخلق ومد جسور الارتباط بالمنجز النصي الشعري.
~*~
مصادر وهوامش:
1- 2 – أحمد المجاطي”الفروسية”،شركة النشر والتوزيع المدارس،ط2،السنة 2001،ص53
3- .عبد الله راجع : الأعمال الكاملة ،منشورات وزارة الثقافة ، 2013 ،ص 233
4- أحمد بركات :الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة، الرباظ 2014،ص115
5- وداد بنموسى :زوبعة في جسد، منشورات مرسم، الرباط،2008،ص56،
www.poetryletters.com
” تلبسني الأشياء
يرحل النهار
تلبسني شوارع المدينة
أسكن قرارة الكأس
أحيل شبحي مرايا
أرقص في مملكة العرايا“ (1)
حتى يقول :
” تسعفني الكأس
ولا تسعفني العبارة“ (2)
لغة شعرية مفارقة ومتجاوزة لما هو كائن في القصيدة المغربية، تكشف عن وعي شعري جديد، يؤسس لتجربة شعرية تنصت للأعماق، طارحة أسئلة مرتبطة بما هو ذاتي ووجودي، فالذات تحولت، بفضل التغيرات الحضارية والإنسانية، إلى بؤرة لمراودة الأسئلة الحارقة والمقلقة. فبنية الاغتراب شارعة ذراعيها لاحتضان ذات مسلوبة الإرادة وعاجزة عن الفعل، لكن شعريتها تنم عن عمق التجربة الشعرية المعبر عنها، وعلى هذه المتوالية الشعرية يمكن نعت تجربة الرواد لقصيدة المغامرة ،كما الشأن بالنسبة لمحمد الخمار الكنوني ومحمد السرغيني ومحمد الميموني وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري وغيرهم، فقصيدتهم لم تكن سوى صدى للخارج النصي، مع الاعتراف بفضل الأسبقية في خلق قطيعة مع النص الشعري التقليدي الذي كان منحصرا في ما هو مناسباتي .وما تتسم به تجربة الرواد كونها شرعت الباب لخلق شعرية مجددة ومفعمة بالخلق والإبداعية.
إقرأ العدد الخامس
إقرأ العدد الخامس
-2-
ولابد من القول إن الإبداع، بصفة عامة، تعبير عن التحولات الحضارية والاجتماعية والثقافية، وتجسيد لوعي الذات، بحثا عن الكينونة الشعرية والأنطولوجية، وهذا شأن القصيدة المغربية المعاصرة ؛ فقد كانت مستجيبة لهذه الحاجة الإبدالية، في بنية النص الشعري المعاصر. هكذا يمكننا الحديث عن نصية شعرية؛ ارتضت الخروج عن السائد، في الشعرية العربية، واختارت التجاوز والهدم والتخطي، كديدن تجديدي انسجاما مع ما يجري على الواقع من تغيرات، وما تشهده الشعرية العربية من أسئلة جديدة ومربكة للذات، بفعل الارتجاجات، التي مست الوعي الفردي بحقيقة هذه التحولات، فجاءت النصية الشعرية السبعينية مخالفة ومختلفة عن قصيدة السقوط والانتطار –على حد تعبير محمد بنيس- إلى نص تخلَّق من رحم الوعي الفكري والالتزام بقضايا المجتمع المضطرب، والباحث عن مخرج للتحرر من الأغلال التعبيرية المتجاوزة ، التي تحد من الرغبة الجامحة في ابتداع شعرية مفتوحة على إشكالات وجودية وذاتية، ومن أبرز هؤلاء الشعراء نشير إلى محمد الوديع الأسفي ومحمد الحبيب الفرقاني اللذين ظلا منتصرين للخارج النصي أي قضايا المجتمع، ثم جاءت زمرة من الشعراء تحمل هاجس الخلق والتجديد، التي يمثلها الشعراء إدريس الملياني، ومحمد الشيخي، وعبد الله راجع، ومحمد بنيس، ومحمد بنطلحة، وأحمد بن ميمون،و…و…الذين أضافوا إضافات الجدة والإبداع على قصيدة التفعيلة. حيث فتحت جغرافيات نصية جديدة؛ تمثلت في “القصيدة الكاليغرافية” التي أعادت الاعتبار إلى القراءة البصرية. وهي تجربة فتحت أفقا للخرق والإبداعية النابضة برؤى شعرية ثرية؛ بمحمولاتها الموضوعاتية والجمالية، و الاحتفاء بالذات كمقوم من مقومات نصية جديدة .وحتى نؤكد أحقية هذا التحول في القصيدة المغربية المعاصرة نورد نموذجا شعريا للشاعر عبد الله راجع أصبغ النص الشعري، بملامح مغربية ذات دلالات عميقة في تشكيل ذاكرة شعرية مغربية أصيلة يقول:
” هي الأرض التي تحبو على كتفي تترك في القصيدة لحمها
وأنا امتداد الحلم في الجسد المحاصر بالكتابة
لاشيء ينقدني من الأرض التي تمشي
سوى الأرض التي تأتي
وليس رحيل أحبابي سوى مرّ سحابة “ (3)
إن الملمح الجمالي من بين سمات هذه التجربة الشعرية، حيث الذهاب باللغة الشعرية إلى ارتياد عوالم الحلم والتعبير عن القلق الإبداعي الذي يساور الذات الشاعرة أثناء لحظة الكتابة، وبالتالي فالقصيدة هنا التحمت بالهم الذاتي، كسيرة شعرية لتجربة خارجة من النفق الإيديولوجي إلى أفق مفتوح على أسئلة الإبداع، فتحول النص الشعري إلى بؤرة للشعر لا غير، أي كتابة شعرية تحتفي بالإبداع الشعري.
-3-
كانت قصيدة النثر البنية التعبيرية لتجربة شعرية نفضت يديها مما هو إيديولوجي، وعارية من الهموم الجمعية، نحو الانخراط في الهم الفردي المرتبط بأسئلة الذات
لقد سعت القصيدة المغربية المعاصرة إلى خلق تصورات ورؤى تختلف، عما سبقها من تجارب شعرية، كان لها الدور الفعال في وسم النصية الشعرية المغربية ، وفق الحاضر الذي تعيشه وتعايشه،والإشكالات الذاتية والوجودية، فجاء النص الشعري مجسدا لهذه الانعطافات، ومتجاوزا لبنيات تعبيرية ذات تصورات ضيقة وغير مسعفة للذات لتشكيل نص يستجيب لأفقها الجمالي والفني. هذه الذات التي تعبر عن كينونتها نثريا، إذ لم الوزن /التفعيلة الهاجس الرئيسي، بل خلقت إيقاعية شعرية مندغمة مع إيقاع الداخل، وذبذبات العواطف وزلازل البواطن المتشظية، بفعل عوامل حضارية وتاريخية لم تكن في صالح الذات، بقدر ما زادت من تأزيم علاقة الشاعر مع الواقع المتشرذم والمتشظي، فكانت قصيدة النثر البنية التعبيرية لتجربة شعرية نفضت يديها مما هو إيديولوجي، وعارية من الهموم الجمعية، نحو الانخراط في الهم الفردي المرتبط بأسئلة الذات، بتعبير آخر الهم الأساس لها هي العودة إلى الذات كمرجع للعملية الإبداعية، والاحتفاء باليومي والمهمش والمبتذل، وأصبح النص الشعري منفتحا على أساليب السرد والجنوح نحو التشذير /الشذرة في ابتعاد تام عما هو إيديولوجي، ومن أبرز شعراء تجربة قصيدة النثر نشير إلى أحمد بركات، إدريس عيسى، حسن نجمي، صلاح بوسريف، وفاء العمراني، ،محمد بوجبيري، محمد عرش، محمد عزيز الحصيني، عبد السلام المساوي وسعيد الباز ومحمد رفيق وغيرهم، حيث الرؤيا والنهل من التجربة والمنابع الثقافية والفكرية المختلفة والمتنوعة هي من سمات التجربة الثمانينية ، وفي هذا السياق ندرج مقطعا تمثيليا للشاعر أحمد بركات:
” حذر كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم
الأشياء الأكثر فداحة
قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة
والأسطح المتبقية من خراب البارحة“ (4)
يمكن وسم التجربة التسعينية وتجربة الألفية الثالثة بشعرية تنحو نحو الاحتفاء بالذات والخيبات والانكسارات، بلغة جريحة تحتفي بالتشظي
فالتجربة الثمانينية تقول كينونتها الشعرية، عبر أخذ مسافة بعيدة، للتأمل في عالم لا يستحق إلاالتوبيخ، نظرا لفظاعاته تجاه الذات الشاعرة المتشظية، والغارقة في خرائب وجود يزداد نزيفا وجرحا، لذلك يحتاج الشاعر إلى لغة شعرية تحتفي بالخراب الناجم عن الحروب، بسبب انعدام القيم الإنسانية. إنها شعرية تجعل العالم والذات فكرة للكتابة الشعرية. ومن ثم يمكن وسم التجربة التسعينية وتجربة الألفية الثالثة بشعرية تنحو نحو الاحتفاء بالذات والخيبات والانكسارات، بلغة جريحة تحتفي بالتشظي، وتختزل العالم في إيقاعية داخلية تفضح كوامن الذات وارتجاج العالم ، ونذكر من الشعراء حكيم عنكر، عبد الغني فوزي،مصطفى ملح ،كمال أخلاقي ، محمد اللغافي، الطيب هلو،وعبد اللطيف الوراري،عبد الله بن ناجي، صالح لبريني، وجواد أحمو، محمد أحمد بنيس، محمد بشكار، منير الإدريسي، علية الإدريسي، ووداد بنموسى، أحمد الدمناتي، عبد السلام دخان، محمد العناز، ورشيد طلبي، وعبد الهادي روضي، ورشيد الخديري، والقائمة طويلة ونمثل لهذه التجربة التسعينية بقول الشاعرة وداد بن موسى:
” آيات العشق ينابيعي
سماوات العشق مثواي
وليس لي ما أخسره سوى الخسران
له وهبتني“ (5)
مما سبق يمكن القول، إن الشعر المغربي المعاصر خرج من المغامرة الإبداعية إلى تجربة الكتابة،استجابة للتغيرات التي مست جوهر العملية الإبداعية، حيث غدت الفاعلية الشعرية مرتبطة بأجناس إبداعية، تمنح للنص جماليته الفنية والرؤيوية ،بوساطة الاهتمام بما هو بصري تشكيلي،والغوص في تفاعلية أجناسية مثورة للنصية الشعرية، الشيء الذي وسمها بديناميكية تجديدية؛ تروم الخلق ومد جسور الارتباط بالمنجز النصي الشعري.
~*~
مصادر وهوامش:
1- 2 – أحمد المجاطي”الفروسية”،شركة النشر والتوزيع المدارس،ط2،السنة 2001،ص53
3- .عبد الله راجع : الأعمال الكاملة ،منشورات وزارة الثقافة ، 2013 ،ص 233
4- أحمد بركات :الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة، الرباظ 2014،ص115
5- وداد بنموسى :زوبعة في جسد، منشورات مرسم، الرباط،2008،ص56،
الشعر المغربي المعاصر : من المغامرة إلى الكتابة | صالح لبريني | مجلة رسائل الشعر
بحث بعنوان " الشعر المغربي المعاصر : من المغامرة إلى الكتابة " كتبه لمجلة رسائل الشعر الباحث والشاعر المغربي صالح لبريني. مجلة رسائل الشعر، العدد الخامس