كل قراءة هي إساءة قراءة:
يقول التفكيكيون إن كل قراءة هي إساءة قراءة. هل في مقولتهم هذه كثير من الصواب، أو بعض صواب؟
إذا ما أعاد المرء النظر في كثير من كتاباته السابقة فإنه، لا شك، سيأخذ بهذه المقولة، إن لم يكن دائماً فأحياناً.
في أيام الدراسة الثانوية كنت أقرأ بيت الشعر:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده؟
قراءة خاطئة. كانت معلوماتي النحوية أقل من عادية، وكنت أحفظ القصائد، ولم أكن أفهم معانيها فهماً جيداً، ربما لأنني أريد علامة، ربما لأن المدرس كان يعطينا الأفكار الرئيسة فيها ولا يشرحها لنا شرحاً تاماً.
وإلاّ فما معنى أن ندرس المعلقات كلها في سنة دراسية واحدة؟ كنا نحفظ أفكار المعلقة، كما يعطيها لنا المعلم، ونحفظ أبياتاً عليها، ونجيب عن السؤال التقليدي: ما هي الأفكار الرئيسة في المعلقة؟ هات أبياتاً على كل فكرة.
في 70 ق20 قرأت مظفر النواب، وتوقفت أمام مجموعته "أربع قصائد" التي أعيدت طباعتها في فلسطين. وكنت أكرر مقاطع من "بحار البحارين" ولم أكن لأفكر في معناها جيداً.
اتكأت على القصيدة كما وردت في المجموعة كما لو أنها صواب مائة بالمائة، وهكذا كنت أقرأ: "سيف وبغا" متفقان على نفط البصرة، دون أن أسائل، نفسي: ماذا يقصد الشاعر بـ "سيف وبغا"؟ وغاب عن ذهني الدلالة التاريخية والرمزية. أخطأ الناشر ولم أنتبه أن سيف وبغا خطأ والصواب "وصيف وبغا"، وغاب عن ذهني قول الشاعر العباسي:
"خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا"
وأن وصيف وبغا هما قائدان تركيان يتحكمان بالخليفة. ولم ألتفت إلى الصواب إلاّ بعد عشرين عاماً، حين قرأت القصيدة ثانية:
في قراءتي الأولى لجدارية محمود درويش، في العام 2000، أخطأت في فهم أسطر منها هي تلك التي يأتي فيها على عكا وذكرياته فيها وحواره مع ابن الجندي الإسرائيلي، وحين أعدت قراءة القصيدة، بعد سنوات، راجعت قراءتي الأولى، فاكتشفت الخطأ، ما جعلني أكتب مقالة في "الأيام" تحت عنوان "القراءة وإساءة القراءة" (13/3/2013).
كان درويش يحاور نفسه في قوله "بكى الولد الذي ضيّعته"، وظننت أنه يحاور ابن السجان. التبس الأمر عليّ، وأخطأت في التفسير، ثم صحّحت الخطأ بعد 13 عاماً.
شتاء ريتا الطويل:
مرة، في العام 1997، كتبت مقالة/ دراسة تحت عنوان "محمود درويش: بين ريتا وعيوني" وكنت أظنّ أن الشاعر يستعيد تجربة حبه لريتا في 60 ق20 ليكتب عنها، وأن القصيدة هي بنت الحنين إلى الماضي ليس أكثر.
لم يكن خطر ببالي أن ثمة اتصالاً بين الشاعر وريتا تم في 80 ق20، يوم كتب الشاعر القصيدة الجديدة "شتاء ريتا الطويل".
وكنت أرى، بخاصة حين درست ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" أن الشاعر يعيد كتابة قصائد قديمة كتابة جديدة، فالديوان هو سيرة ذاتية شعرية لمحمود درويش، وهو يتكون من أجزاء، كل جزء يعبر عن تجربة من تجارب حياته الماضية.
مؤخراً، وأنا أخربش على صفحة الـ"فيس بوك" الخاصة بي، بعد كتابة مقالتي عن رواية رشاد أبو شاور "سأرى بعينيك يا حبيبي" ستكتب لي إحدى صديقات الشاعر رسالة تخبرني فيها أن الشاعر وريتا اتصلا معاً، وهو في باريس، وكان من المفترض أن يلتقيا هناك، ولكن الشاعر اعتذر.
وحين أكتب على صفحتي هذه المعلومة، ستعقب قارئة جيدة للشاعر، وتعرفه معرفة جيدة، أن الشاعر اعتذر، في اللحظة الأخيرة، عن الموعد، ولم يلتق بريتا... وإذ سألتها عن مصدر معلوماتها أجابتني بأن ريتا قالت هذا في مقابلة تلفزيونية.
ما قالته صديقة الشاعر المقربة منه ومن إميل حبيبي عززته قارئة الشاعر، وهذا كله جعلني أعيد النظر في قراءتي السابقة، وأرى شيئاً مختلفاً.
إن قصيدة "شتاء ريتا الطويل" ليست، إذن، هي ابنة الحنين إلى الماضي، وليست محاولة إعادة كتابة قديمة كتابة جديدة.
لقد كنت على خطأ في حكمي. و"كل قراءة هي إساءة قراءة" و"ليس ثمة قراءة نهائية لنص من النصوص".
في "شتاء ريتا الطويل" ما يعزز كلام صديقة الشاعر، وكلام قارئة أشعاره، فكيف لم أنتبه لهذا؟
يرد في القصيدة:
"لا تقرأ الآن الجريدة، فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي، وأنا أنا. هل أنت أنت،
أنا هو
هو من رآك غزالة ترمي لآلئها
هو من رأى شهواته تجري وراءك كالغدير".
أ. د. عادل الأسطة
2017-02-19
يقول التفكيكيون إن كل قراءة هي إساءة قراءة. هل في مقولتهم هذه كثير من الصواب، أو بعض صواب؟
إذا ما أعاد المرء النظر في كثير من كتاباته السابقة فإنه، لا شك، سيأخذ بهذه المقولة، إن لم يكن دائماً فأحياناً.
في أيام الدراسة الثانوية كنت أقرأ بيت الشعر:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده؟
قراءة خاطئة. كانت معلوماتي النحوية أقل من عادية، وكنت أحفظ القصائد، ولم أكن أفهم معانيها فهماً جيداً، ربما لأنني أريد علامة، ربما لأن المدرس كان يعطينا الأفكار الرئيسة فيها ولا يشرحها لنا شرحاً تاماً.
وإلاّ فما معنى أن ندرس المعلقات كلها في سنة دراسية واحدة؟ كنا نحفظ أفكار المعلقة، كما يعطيها لنا المعلم، ونحفظ أبياتاً عليها، ونجيب عن السؤال التقليدي: ما هي الأفكار الرئيسة في المعلقة؟ هات أبياتاً على كل فكرة.
في 70 ق20 قرأت مظفر النواب، وتوقفت أمام مجموعته "أربع قصائد" التي أعيدت طباعتها في فلسطين. وكنت أكرر مقاطع من "بحار البحارين" ولم أكن لأفكر في معناها جيداً.
اتكأت على القصيدة كما وردت في المجموعة كما لو أنها صواب مائة بالمائة، وهكذا كنت أقرأ: "سيف وبغا" متفقان على نفط البصرة، دون أن أسائل، نفسي: ماذا يقصد الشاعر بـ "سيف وبغا"؟ وغاب عن ذهني الدلالة التاريخية والرمزية. أخطأ الناشر ولم أنتبه أن سيف وبغا خطأ والصواب "وصيف وبغا"، وغاب عن ذهني قول الشاعر العباسي:
"خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا"
وأن وصيف وبغا هما قائدان تركيان يتحكمان بالخليفة. ولم ألتفت إلى الصواب إلاّ بعد عشرين عاماً، حين قرأت القصيدة ثانية:
في قراءتي الأولى لجدارية محمود درويش، في العام 2000، أخطأت في فهم أسطر منها هي تلك التي يأتي فيها على عكا وذكرياته فيها وحواره مع ابن الجندي الإسرائيلي، وحين أعدت قراءة القصيدة، بعد سنوات، راجعت قراءتي الأولى، فاكتشفت الخطأ، ما جعلني أكتب مقالة في "الأيام" تحت عنوان "القراءة وإساءة القراءة" (13/3/2013).
كان درويش يحاور نفسه في قوله "بكى الولد الذي ضيّعته"، وظننت أنه يحاور ابن السجان. التبس الأمر عليّ، وأخطأت في التفسير، ثم صحّحت الخطأ بعد 13 عاماً.
شتاء ريتا الطويل:
مرة، في العام 1997، كتبت مقالة/ دراسة تحت عنوان "محمود درويش: بين ريتا وعيوني" وكنت أظنّ أن الشاعر يستعيد تجربة حبه لريتا في 60 ق20 ليكتب عنها، وأن القصيدة هي بنت الحنين إلى الماضي ليس أكثر.
لم يكن خطر ببالي أن ثمة اتصالاً بين الشاعر وريتا تم في 80 ق20، يوم كتب الشاعر القصيدة الجديدة "شتاء ريتا الطويل".
وكنت أرى، بخاصة حين درست ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" أن الشاعر يعيد كتابة قصائد قديمة كتابة جديدة، فالديوان هو سيرة ذاتية شعرية لمحمود درويش، وهو يتكون من أجزاء، كل جزء يعبر عن تجربة من تجارب حياته الماضية.
مؤخراً، وأنا أخربش على صفحة الـ"فيس بوك" الخاصة بي، بعد كتابة مقالتي عن رواية رشاد أبو شاور "سأرى بعينيك يا حبيبي" ستكتب لي إحدى صديقات الشاعر رسالة تخبرني فيها أن الشاعر وريتا اتصلا معاً، وهو في باريس، وكان من المفترض أن يلتقيا هناك، ولكن الشاعر اعتذر.
وحين أكتب على صفحتي هذه المعلومة، ستعقب قارئة جيدة للشاعر، وتعرفه معرفة جيدة، أن الشاعر اعتذر، في اللحظة الأخيرة، عن الموعد، ولم يلتق بريتا... وإذ سألتها عن مصدر معلوماتها أجابتني بأن ريتا قالت هذا في مقابلة تلفزيونية.
ما قالته صديقة الشاعر المقربة منه ومن إميل حبيبي عززته قارئة الشاعر، وهذا كله جعلني أعيد النظر في قراءتي السابقة، وأرى شيئاً مختلفاً.
إن قصيدة "شتاء ريتا الطويل" ليست، إذن، هي ابنة الحنين إلى الماضي، وليست محاولة إعادة كتابة قديمة كتابة جديدة.
لقد كنت على خطأ في حكمي. و"كل قراءة هي إساءة قراءة" و"ليس ثمة قراءة نهائية لنص من النصوص".
في "شتاء ريتا الطويل" ما يعزز كلام صديقة الشاعر، وكلام قارئة أشعاره، فكيف لم أنتبه لهذا؟
يرد في القصيدة:
"لا تقرأ الآن الجريدة، فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي، وأنا أنا. هل أنت أنت،
أنا هو
هو من رآك غزالة ترمي لآلئها
هو من رأى شهواته تجري وراءك كالغدير".
أ. د. عادل الأسطة
2017-02-19