"إلى فاضل سلطان"
قطعَ رجلٌ ماشٍ مسافات طويلة، على الطريق الخارجية، قبل ان تلتقطه شاحنةُ بضائع من على طريق فرعية منخفضة، انحدرَ إليها بحلول الليل. راقب الرجلُ الماشي، عن بُعد، رتلَ السيّارات التي تشحن على سطوحها حاويات البضائع المطوّقة بمصابيح صغيرة وامضة؛ تتجاوزه الواحدة تلو الثانية. تنحّى مسافةً أبعد لكي يريح قدميه في المسير، ويحمي عينيه من اختراق الأضواء الملحقة بالقوافل المهتزّة على الشارع المرتفع. سار طويلاً في طريق زراعية، متجاهلاً الأرتالَ المتقاطرة دونما انقطاع. كانت تجارة المدينة تتدفّق على المحيط الخارجي، أميالاً وفراسخ وأذرعاً، بمقاييس أرضيّة تحدّدها علاماتُ الطريق المحاذية لها بتعريفات وأرقام شتى؛ بينما يسير الرجل الماشي بموازاة تلك العلامات بحدسه الصرف ومعرفته المحبوسة في رأسه، مع مخزونه الضخم من المعلومات والقصص. كان يحثّ خطاه أسفل الطريق، قائلاً لنفسه: "ارحلْ بقصصك وانأَ بعيداً عن عالم الأحياء ما استطعتَ إلى ذلك سبيلا".
لكنّ حدَس الماشي انقطع فجأة، حين لحقتْه شاحنةٌ مطفأة الأنوار، وتوقّفت حذاءه؛ بل كادت تسحقه. جفلَ لصرير العربة المرتفعة، وتوقّفها الذي أثارَ رائحةَ التراب والزرع المسحوق، ثم انفتاح باب القيادة، وصوت السائق الأجش: "سلاماً صاحبي، أتسير وحدك في هذه الظلمة، بلا رفيق يسلّيك. بئس البشر!".
ميّز الماشي لكنةً غريبة على لسان سائق الشاحنة؛ ولعلّه حدسَ طولَ السيّارة التي تنكّبت الطريقَ المعبَّدة، وزحفت وراءه كثعبان أسطوري. أعانَه السائق في ارتقاء سلّم قُمرة القيادة المرتفعة، وأراح ظهره لِما حسِبَه جِلداً أملس مسلوخاً من ثعبان.
أجاب على سؤال السائق عن مهنته، واتجاه سيره، وجنسيته، بكلمتين: "إنّني أمشي"
تساءل السائق عن بداية هذا المسير، فأجاب الماشي: "تمرّنت على المسير في طريق المدينة الدائري، من محيطها الداخلي إلى آخر أبعد منه، حتى تخلّصتُ من جاذبية المدينة وخرجتُ إلى الخلاء".
شعر بالسائق يتفحّصه: "وأين مقصدك؟"
قال الماشي: "لا أعلم، حتى ينبلج الصباح".
حدسَ الرجلُ الماشي أنّه يرافق واحداً من الكائنات الغريبة، التي تنحرف عن الطريق لتأسِر شخصاً ضالاً مثله: "اخبِرني. ألَكَ عائلة، رفيقة بانتظارك؟".
قال الماشي: "لا. إنّي أهرب من عائلتي، إذا أردتَ الحقيقة".
قال السائق: "افهمُك. مقطوع من شجرة. أمّا أنا فلي زوجة في كلّ مدينة من مدُن الجنوب. أنا كُردي، وأسحب ورائي شحنةً كُلّفت بنقلها من ميناء أم قصر إلى أربيل. أنا مثلك قد أغيّر خطَّ سيري بين عقدة وعقدة من الطريق. لي قصّة كقصّتك سأرويها لك في وقت مناسب. هل تحبّ أن أقلّك إلى جهة ما؟"
فنّدَ الماشي ما ظنّه السائقُ توصيلةً طويلة، أو ما حسِبَه قدَراً جانبياً لا يحدث كلّ يوم بين شخصين غريبين، وعاجله بقصته (وهذا ظنّي أنا الراوي، شريكُ الرجل الماشي في الحذر وتحسُّب الأقدار؛ فسأختصر الحوار بينهما إلى أقصر حدّ من الكلام، لا بسبب اختلاف اللغة ولعبة المصير، بل لأنّ كلاً منهما يحتفظ بقصة سأعجِلُهما على تبادلها قبل الافتراق؛ بينما أطلتُ مع نفسي تخطيطَ مثل هذا اللقاء ولم أعجل).
اختصرَ الرجلُ الماشي قصّتَه بثلاثة مفاصل: (١) فراقه الأبدي لزوجه وأطفاله، إثر رؤيا رآها في منامه أرشدته لموقع كوخ على تلّة جرداء، عند الكيلو ٢٠٠، أسفل حافة الطريق الدولية بين البصرة والسماوة، يسكنه أحدُ النسّاك، وهذا سينبئه بمصير أخيه التوأم الذي فقدَه في ظروف غامضة (٢) عثوره على أكثر من بيت خاوٍ على عروشه خلال استراحاته النهارية بين التلال والأحراش والمستنقعات المحاذية للطريق، في المواقع المحتملة على خارطة الرؤيا (٣) مواصلته المشي على غير هدى حتى يُدرِك الجزءَ المهمّ من رؤياه، غير المؤشَّر بدليل أو علامة أعلى الطريق.
قاطعَه السائق: "وما الغرض من لقياك أخاك المفقود؟"
قال الماشي: "إنه نصفي الآخر أيّها السائق. لكلّ إنسان نصفُه الذي يكمِّله في الظاهر والباطن، إن كنتَ تدرك ذلك".
صمت السائق الكُردي، متأملاً في كلام الرجل الجنوبيّ، الناقص كما يزعم. ضحك عالياً، وافصحَ بلُكنة عرجاء: "أما أنا يا صديقي، فقد وجدتُ نصفي في النساء اللاتي تزوجتُهنّ وتركتُهنّ. أنا في الحقيقة أطبّق نصيحةَ الاسكندر الكبير لجنوده الغازين. أنا الغازي الأكبر الذي فقدَ الأمل في العثور على نصفه الحقيقي" وجلجلت ضحكتُه فغطّتْ على هدير محرّك الشاحنة، وكانت الأصوات الخارجية قليلاً ما تنفذ لمأوى الرجلين، اللذين أغلقا على عالميهما نوافذَ الأقدار، في عجلة القيادة، وداخل نفسيهما المتجاورتين (وقد ترِدُ على خاطرك_ أيها القارئ المتفاعل_ أنّ الماشي ربما عثر على توأمه المفقود في هذا اللقاء غير المقرر في رؤياه؛ غير أنّ الأمر ليس كما تحسب، فستسير قصةُ السائق بالاتجاه المضادّ لقصة الرجل الماشي).
عمِل السائقُ الكُردي في مِهن مختلفة: سائقاً لمتعهِّد عراقيّ، يمتلك أسطول شاحنات نقلَت ذخائر وأغذية ومواد بناء لقوّات الحلفاء التي احتلّت العراق. وقبل هذا العمل كان السائق قد التحق بمتمرّدي الجبال الكُرد، الثائرين على نظام صدام حسين، ومُهرِّباً لفريق بحثٍ عن الآثار_ نوع من الآثار المؤشَّرة على خرائط وصور التقطتها الأقمار الصناعية_ وربما ظنّ السائق المُهرِّب أنّها نوع من المعادن النادرة، أو معدّات دفنها النظامُ المُزاح سلفاً تحت الأرض، في مكان ما من صحراء الأنبار: "كاكا، هذا شيء يفوق معرفتي البشرية ومعرفتك، فنحن استثناء من هذه الأعمال الخرافية، ألسنا كذلك؟".
أفادَ السائق الكُردي بأنّ عمله الذي سلفَ شرحُه للرجل الماشي كان بعد أن انتهت قصّتُه الأصلية، التي يتلهّف لسردها على سمع صديقه الماشي: "ما سمِعتَه قبل وهلة لا يشي بحقيقتي أيها الرفيق الغريب. هذا كلّه جاء بعد ضياع جوهرتي وتشرّدي الطويل الذي يساوي بحثَك عن مرقد الناسك".
بدأ السائق الكُردي قصّته بمثل ما تبدأ قصص الوله والانجذاب لفتاة فائقة الجمال، لكنّها كانت عمياء، تحت رعاية أخيها المتشدِّد في إبعاد الطامعين بجمالها، رغم أنّه أجبرها على التسوّل في مرأب للسيارات. أحبّها سائقُنا بجماع قلبه ونفسه التائقة للاستقرار في بيت يجمعه بالفتاة الضريرة، خاطفا إياها من قبضة أخيها الظالم.
قطع السائق قصته، مهيئا لأنفاسه سيجارة؛ فيما الشاحنة الهادرة، تنسلّ بهما في مسير صامت، كأنها تشقّ سبيلها في مدار زمنٍ سحيق، كان الحبّ فيه اختطافاً أو هرباً أبدياً خارج طُرُق البشر ومُدُنهم، جوهرةً يصعب مَنالُها.
عاد السائق الكُردي الى قصته، فقال إنّه خطَبَ الفتاةَ المتسوّلة من أخيها، فردّه هذا بجلافة: "اتظنّ أختي لقمةً سائغة لسائق سيارةٍ مشرّد مثلك؟".
نفثَ السائق دخانَ السيجارة، طارداً من مخيلته تلك الذكرى الجارحة، ونظر الى رفيقه الماشي قائلاً: "مشرَّد.. مشرَّد.. نعم كاكا.. ستحزر ما يفعله عاشق مشرَّد، كما ستحزر بقيّةَ القصة، وإلا فإنّك لم تسمع شيئاً، بل لم ترَ ما رأيتَه في منامك أيها المشرَّد التافه!"
تفوّه السائق الطعين بسبابٍ لم يسمع الرجلُ الماشي مثيلاً له في مسيره خارج المدن التي هجرَها.. تافه، مفلِس، منبوذ، مسطور، مخبول... حِمَمٌ غاضبة موجَّهة لشخص حملَه معه كبضاعة لا نفع منها. وبعد ان أشفى غليلَه، صبَّ على رأس الماشي المحمول آخرَ مكنوناته: "أتعلم شيئاً أيّها النصف الناقص؟ أنت في الحقيقة لم تركب شاحنتي، بل لم يخطر ببالك أن ينقذك سائقٌ مثلي بعد أن كدتَ تصير صيداً سهلاً للذئاب. ستبقى سائراً إلى ما شاء الله أيّها الضائع الذليل، هيا ترجّل من مقعدي وسِر في طريقك.. لتهبط حالاً من سيارتي أيها الرجل الحافي!".
شاهدَ الرجلُ الماشي الشاحنةَ الطويلة تتجاوزه وتمضي كذيل ثعبان، بينما دوّى في أثرها نفيرٌ حادّ، ظلّت الآمادُ المظلمة تردِّده وتبتلع أصداءه على مهل.
قطعَ رجلٌ ماشٍ مسافات طويلة، على الطريق الخارجية، قبل ان تلتقطه شاحنةُ بضائع من على طريق فرعية منخفضة، انحدرَ إليها بحلول الليل. راقب الرجلُ الماشي، عن بُعد، رتلَ السيّارات التي تشحن على سطوحها حاويات البضائع المطوّقة بمصابيح صغيرة وامضة؛ تتجاوزه الواحدة تلو الثانية. تنحّى مسافةً أبعد لكي يريح قدميه في المسير، ويحمي عينيه من اختراق الأضواء الملحقة بالقوافل المهتزّة على الشارع المرتفع. سار طويلاً في طريق زراعية، متجاهلاً الأرتالَ المتقاطرة دونما انقطاع. كانت تجارة المدينة تتدفّق على المحيط الخارجي، أميالاً وفراسخ وأذرعاً، بمقاييس أرضيّة تحدّدها علاماتُ الطريق المحاذية لها بتعريفات وأرقام شتى؛ بينما يسير الرجل الماشي بموازاة تلك العلامات بحدسه الصرف ومعرفته المحبوسة في رأسه، مع مخزونه الضخم من المعلومات والقصص. كان يحثّ خطاه أسفل الطريق، قائلاً لنفسه: "ارحلْ بقصصك وانأَ بعيداً عن عالم الأحياء ما استطعتَ إلى ذلك سبيلا".
لكنّ حدَس الماشي انقطع فجأة، حين لحقتْه شاحنةٌ مطفأة الأنوار، وتوقّفت حذاءه؛ بل كادت تسحقه. جفلَ لصرير العربة المرتفعة، وتوقّفها الذي أثارَ رائحةَ التراب والزرع المسحوق، ثم انفتاح باب القيادة، وصوت السائق الأجش: "سلاماً صاحبي، أتسير وحدك في هذه الظلمة، بلا رفيق يسلّيك. بئس البشر!".
ميّز الماشي لكنةً غريبة على لسان سائق الشاحنة؛ ولعلّه حدسَ طولَ السيّارة التي تنكّبت الطريقَ المعبَّدة، وزحفت وراءه كثعبان أسطوري. أعانَه السائق في ارتقاء سلّم قُمرة القيادة المرتفعة، وأراح ظهره لِما حسِبَه جِلداً أملس مسلوخاً من ثعبان.
أجاب على سؤال السائق عن مهنته، واتجاه سيره، وجنسيته، بكلمتين: "إنّني أمشي"
تساءل السائق عن بداية هذا المسير، فأجاب الماشي: "تمرّنت على المسير في طريق المدينة الدائري، من محيطها الداخلي إلى آخر أبعد منه، حتى تخلّصتُ من جاذبية المدينة وخرجتُ إلى الخلاء".
شعر بالسائق يتفحّصه: "وأين مقصدك؟"
قال الماشي: "لا أعلم، حتى ينبلج الصباح".
حدسَ الرجلُ الماشي أنّه يرافق واحداً من الكائنات الغريبة، التي تنحرف عن الطريق لتأسِر شخصاً ضالاً مثله: "اخبِرني. ألَكَ عائلة، رفيقة بانتظارك؟".
قال الماشي: "لا. إنّي أهرب من عائلتي، إذا أردتَ الحقيقة".
قال السائق: "افهمُك. مقطوع من شجرة. أمّا أنا فلي زوجة في كلّ مدينة من مدُن الجنوب. أنا كُردي، وأسحب ورائي شحنةً كُلّفت بنقلها من ميناء أم قصر إلى أربيل. أنا مثلك قد أغيّر خطَّ سيري بين عقدة وعقدة من الطريق. لي قصّة كقصّتك سأرويها لك في وقت مناسب. هل تحبّ أن أقلّك إلى جهة ما؟"
فنّدَ الماشي ما ظنّه السائقُ توصيلةً طويلة، أو ما حسِبَه قدَراً جانبياً لا يحدث كلّ يوم بين شخصين غريبين، وعاجله بقصته (وهذا ظنّي أنا الراوي، شريكُ الرجل الماشي في الحذر وتحسُّب الأقدار؛ فسأختصر الحوار بينهما إلى أقصر حدّ من الكلام، لا بسبب اختلاف اللغة ولعبة المصير، بل لأنّ كلاً منهما يحتفظ بقصة سأعجِلُهما على تبادلها قبل الافتراق؛ بينما أطلتُ مع نفسي تخطيطَ مثل هذا اللقاء ولم أعجل).
اختصرَ الرجلُ الماشي قصّتَه بثلاثة مفاصل: (١) فراقه الأبدي لزوجه وأطفاله، إثر رؤيا رآها في منامه أرشدته لموقع كوخ على تلّة جرداء، عند الكيلو ٢٠٠، أسفل حافة الطريق الدولية بين البصرة والسماوة، يسكنه أحدُ النسّاك، وهذا سينبئه بمصير أخيه التوأم الذي فقدَه في ظروف غامضة (٢) عثوره على أكثر من بيت خاوٍ على عروشه خلال استراحاته النهارية بين التلال والأحراش والمستنقعات المحاذية للطريق، في المواقع المحتملة على خارطة الرؤيا (٣) مواصلته المشي على غير هدى حتى يُدرِك الجزءَ المهمّ من رؤياه، غير المؤشَّر بدليل أو علامة أعلى الطريق.
قاطعَه السائق: "وما الغرض من لقياك أخاك المفقود؟"
قال الماشي: "إنه نصفي الآخر أيّها السائق. لكلّ إنسان نصفُه الذي يكمِّله في الظاهر والباطن، إن كنتَ تدرك ذلك".
صمت السائق الكُردي، متأملاً في كلام الرجل الجنوبيّ، الناقص كما يزعم. ضحك عالياً، وافصحَ بلُكنة عرجاء: "أما أنا يا صديقي، فقد وجدتُ نصفي في النساء اللاتي تزوجتُهنّ وتركتُهنّ. أنا في الحقيقة أطبّق نصيحةَ الاسكندر الكبير لجنوده الغازين. أنا الغازي الأكبر الذي فقدَ الأمل في العثور على نصفه الحقيقي" وجلجلت ضحكتُه فغطّتْ على هدير محرّك الشاحنة، وكانت الأصوات الخارجية قليلاً ما تنفذ لمأوى الرجلين، اللذين أغلقا على عالميهما نوافذَ الأقدار، في عجلة القيادة، وداخل نفسيهما المتجاورتين (وقد ترِدُ على خاطرك_ أيها القارئ المتفاعل_ أنّ الماشي ربما عثر على توأمه المفقود في هذا اللقاء غير المقرر في رؤياه؛ غير أنّ الأمر ليس كما تحسب، فستسير قصةُ السائق بالاتجاه المضادّ لقصة الرجل الماشي).
عمِل السائقُ الكُردي في مِهن مختلفة: سائقاً لمتعهِّد عراقيّ، يمتلك أسطول شاحنات نقلَت ذخائر وأغذية ومواد بناء لقوّات الحلفاء التي احتلّت العراق. وقبل هذا العمل كان السائق قد التحق بمتمرّدي الجبال الكُرد، الثائرين على نظام صدام حسين، ومُهرِّباً لفريق بحثٍ عن الآثار_ نوع من الآثار المؤشَّرة على خرائط وصور التقطتها الأقمار الصناعية_ وربما ظنّ السائق المُهرِّب أنّها نوع من المعادن النادرة، أو معدّات دفنها النظامُ المُزاح سلفاً تحت الأرض، في مكان ما من صحراء الأنبار: "كاكا، هذا شيء يفوق معرفتي البشرية ومعرفتك، فنحن استثناء من هذه الأعمال الخرافية، ألسنا كذلك؟".
أفادَ السائق الكُردي بأنّ عمله الذي سلفَ شرحُه للرجل الماشي كان بعد أن انتهت قصّتُه الأصلية، التي يتلهّف لسردها على سمع صديقه الماشي: "ما سمِعتَه قبل وهلة لا يشي بحقيقتي أيها الرفيق الغريب. هذا كلّه جاء بعد ضياع جوهرتي وتشرّدي الطويل الذي يساوي بحثَك عن مرقد الناسك".
بدأ السائق الكُردي قصّته بمثل ما تبدأ قصص الوله والانجذاب لفتاة فائقة الجمال، لكنّها كانت عمياء، تحت رعاية أخيها المتشدِّد في إبعاد الطامعين بجمالها، رغم أنّه أجبرها على التسوّل في مرأب للسيارات. أحبّها سائقُنا بجماع قلبه ونفسه التائقة للاستقرار في بيت يجمعه بالفتاة الضريرة، خاطفا إياها من قبضة أخيها الظالم.
قطع السائق قصته، مهيئا لأنفاسه سيجارة؛ فيما الشاحنة الهادرة، تنسلّ بهما في مسير صامت، كأنها تشقّ سبيلها في مدار زمنٍ سحيق، كان الحبّ فيه اختطافاً أو هرباً أبدياً خارج طُرُق البشر ومُدُنهم، جوهرةً يصعب مَنالُها.
عاد السائق الكُردي الى قصته، فقال إنّه خطَبَ الفتاةَ المتسوّلة من أخيها، فردّه هذا بجلافة: "اتظنّ أختي لقمةً سائغة لسائق سيارةٍ مشرّد مثلك؟".
نفثَ السائق دخانَ السيجارة، طارداً من مخيلته تلك الذكرى الجارحة، ونظر الى رفيقه الماشي قائلاً: "مشرَّد.. مشرَّد.. نعم كاكا.. ستحزر ما يفعله عاشق مشرَّد، كما ستحزر بقيّةَ القصة، وإلا فإنّك لم تسمع شيئاً، بل لم ترَ ما رأيتَه في منامك أيها المشرَّد التافه!"
تفوّه السائق الطعين بسبابٍ لم يسمع الرجلُ الماشي مثيلاً له في مسيره خارج المدن التي هجرَها.. تافه، مفلِس، منبوذ، مسطور، مخبول... حِمَمٌ غاضبة موجَّهة لشخص حملَه معه كبضاعة لا نفع منها. وبعد ان أشفى غليلَه، صبَّ على رأس الماشي المحمول آخرَ مكنوناته: "أتعلم شيئاً أيّها النصف الناقص؟ أنت في الحقيقة لم تركب شاحنتي، بل لم يخطر ببالك أن ينقذك سائقٌ مثلي بعد أن كدتَ تصير صيداً سهلاً للذئاب. ستبقى سائراً إلى ما شاء الله أيّها الضائع الذليل، هيا ترجّل من مقعدي وسِر في طريقك.. لتهبط حالاً من سيارتي أيها الرجل الحافي!".
شاهدَ الرجلُ الماشي الشاحنةَ الطويلة تتجاوزه وتمضي كذيل ثعبان، بينما دوّى في أثرها نفيرٌ حادّ، ظلّت الآمادُ المظلمة تردِّده وتبتلع أصداءه على مهل.