اللغة القومية:
صباح الثلاثاء 10/12/2013، في التاسعة أصغيت إلى برنامج بثته قناة الجزيرة عن واقع اللغة العربية ومستقبلها.
الموضوع يروق لي لأنني عربي ولأنني أدرس الأدب العربي أيضاً، وربما لأن العربية هي اللغة التي أتقنها، علما بأنني قد أقرأ بالانجليزية وبالألمانية، بمساعدة القاموس، ولا أزعم أنني أعرف العبرية التي تعلمت قليلاً منها.
ما لفت نظري أشياء كثيرة أهمها ما قاله الدكتور الصديق أحمد الخطيب، الأستاذ في جامعة البتراء، حول اعتزاز الألمان بلغتهم اعتزازاً نفتقد نحن العرب إلى مثله، من ذلك أن الألمان لا يكتبون إلا بلغتهم، فهو راسل مرة جهة ألمانية سائلاً عن مخطوط يحتاج إليه، ولأنه لا يعرف الألمانية، ولا يجد من يكتبها له، فقد راسل الجهة بلغة أخرى.
كان رد الألمان كما قال الصديق: انهم أجابوني، ولكنهم كتبوا إليّ أنهم لن يجيبوا فيما بعد على أية رسالة من رسائله ما لم تكن بلغتهم: الألمانية.
أنا لا أريد أن أقول شيئاً آخر غير ما قاله الدكتور بخصوص ما حدث معه.
لا أريد أن أصدق أو أن أنفي ما قاله وما حدث معه، ولكن ما أعرفه عن الألمان أنهم مهووسون بتعلم اللغات الأخرى، بخاصة الانجليزية، ويستغربون حين يعلمون أنك لا تتقنها، وقد بلغ هوسهم بتعلم هذه اللغة أن كانت الفتيات الألمانيات يسافرن إلى انجلترا ليعملن مربيات حتى يتعلمن اللغة.
لم يحب الألمان الشرقيون اللغة الروسية وربما ما أتقنوها، فلم تترك أثراً في لغتهم وظلت اللغة الألمانية شبه صافية في ألمانية الشرقية، لكنها لم تكن كذلك في ألمانية الغربية، فقد دخلتها مفردات كثيرة من لغات عديدة.
في ألمانية، إذا كنت تدرس في إحدى جامعاتها، ولم تتقن الألمانية، يجيز لك قانون الجامعة أن تكتب بالانجليزية، وهناك رسائل دكتوراه وماجستير كثيرة، صدرت عن دار نشر (كلاوس شفارز)، وهي متخصصة بنشر الرسائل فيما يخص العلوم الإسلامية والعربية، صدر بالانجليزية، بل إن قانون الجامعة التي درست فيها أنا (بامبرغ) يجيز للطالب أن يكتب رسالته بأية لغة يتقنها المشرف والممتحن الثاني، على شرط أن يقدم لها ملخصاً بالألمانية، لا يقل عن أربعين صفحة. من هي تلك الجهة يا د. احمد؟
منامات:
سأصغي أيضاً، من خلال قناة الجزيرة، إلى الرئيس المصري السيسي يتحدث عن مناماته.
إنه صاحب منامات منذ 35 عاماً، وآخر ما قاله إنه حلم/ رأى مناماً اجتمع فيه مع الرئيس أنور السادات، يخبره الأخير فيه أنه سيغدو رئيس جمهورية. هل كان الصوت حقاً صوت السيسي؟
المنامات جنس أدبي عرفه الأدب العربي، وقبل شيوعه في الأدب العربي قرأنا في القرآن عن رؤى الأنبياء. كم مرة تكررت كلمة رؤية في القرآن الكريم؟ لا أدري، ولكن هل يغيب عن أذهاننا ما ورد في قصة سيدنا يوسف؟
منذ قصيدة البوصيري المشهورة التي شاعت وانتشرت وقلدت وعورضت وشرحت ودرست وحفظت وعلمت في المدارس عرفنا أكثر وأكثر عن الرؤى والمنامات.
كم من مسلم حفظ تلك القصيدة حتى يبرأ من مرض ألم به؟! فصاحبها نظمها وهو مصاب بالفالج، وتحقق له ما يريد: الشفاء.
نحن، أعني دارسي الأدب العربي، درسنا المقامات أكثر مما درسنا المنامات؛ مقامات الحريري، وقبلها الهمذاني، وبعدها السيوطي، وما عاد الصديق الشاعر إبراهيم قراعين يكتب مقامات، ولا أعرف ما هي أخباره، هو الذي كتبها في نهاية 80 ق 20 وبداية 90 ق20.
قبل سنوات قليلة كتب الروائي اللبناني روايته "كأنها نائمة"، ولا أدري إن كنت قرأت، من قبل، رواية فيها حضور للمنامات كما في هذه الرواية. فيما بعد قرأت أيضا رواية علوية صبح "مريم الحكايا"، وحين كانت إحدى طالباتي تتردد على مكتبي بكثرة، وطلبت مني أن أقترح عليها موضوعاً تكتب فيه أطروحة الماجستير، اقترحت عليها أن تكتب عن المنامات في الرواية اللبنانية.
أنا شخصياً غالبا ما أدون ما أراه أو أحلم به في منامي. لا أقلد نجيب محفوظ فيما عكف عليه في آخر سنوات عمره، حيث وضع إلى جانب سريره قلماً وورقة، ليدون رأيت ما يرى النائم.
أحياناً يحدث معي بالضبط ما رأيته، وأحياناً يحدث عكسه تماماً. ولقد دونت كثيراً من مناماتي في روايتي "تداعيات ضمير المخاطب" (1993). في صباح 12/12/2013 رأيتني أقف على مفرق طرق، وتحديداً مدخل نابلس قرب مخيم بلاطة، المفرق المؤدي إلى القدس: أنا ورجل وامرأة تقود كلباً ضخماً يفلت منها فيلاحق الرجل الثاني الذي سرعان ما يختفي. حين يقترب الكلب مني أصرخ على اللحام بأن يطعمه، فيرمي له بأربع قطع كبيرة، وهكذا لا يقترب الكلب مني. الفرق بيني وبين السيسي أنني لست مسؤولاً عن دولة.
محمود درويش: كل ما كان منفى
قبل أسبوعين أتيت على ما يكتب عن محمود درويش، ومنذ أسبوعين، وربما قبل ذلك، أكرر سطره: "كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى".
السطر ورد في قصيدة درويش "أنت، منذ الآن، أنت" التي ظهرت في "أثر الفراشة" (2007) وراء "أنت، منذ الآن، غيرك". الثانية كتبها إثر أحداث غزة وما جرى فيها حين سيطرت حماس على السلطة، والأولى كتبها حين زار حيفا، وفي ضوء المناسبتين لا نرى في الواحدة ما ينقض الثانية: "أحبك أو لا أحبك" (1971).
مرة كتب حسن خضر أن محمود درويش شاعر لم يتوقف الدارسون أمام جوانب أخرى كثيرة منه: حياته وأشعاره، وأظنه قالها لي حين التقيت به في مقهى في رام الله، وكانت تجلس معنا مايا أبو الحيات الروائية الصاعدة.
وأظن أن حسن البطل أشار إلى درويش مفكراً. أنا لا أنفي هذا إطلاقاً، ومع أنني لا أزعم أنني قرأت الشعر العربي كله لأقول من هو شاعر حكيم ومن هو شاعر شاعر أو شاعر وحكيم، إلا أنني أرى غنى أشعار درويش، ومثله مظفر النواب، بالأفكار والحكمة، وأحياناً أبالغ في الزعم، فأقول: إنهما مثل المتنبي والمعري في جانب الحكمة والفلسفة.
"كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى"، قالها درويش في حيفا 2007، حين زارها ليلقي فيها أشعاره، وليحيي أمسية أثارت ضجة وجدلاً.
فهل صحيح أن كل ما كان منفى يعتذر لكل ما لم يكن منفى.
كل ما وليس كل من، وربما قصر الشاعر القول عليه هو الذي أقام في حيفا حتى 1970، ولم يرها ربع قرن، وعاد إليها زائراً غير مرة منذ 1996، وخلال فترة الغياب حنّ إلى المدينة ورأى في كرملها ما يفوق خصور كل النساء وكل العواصم، حتى أنه حين أصدر "محاولة رقم 7" عبر عن ندمه، وحين كتب "في حضرة الغياب" (2006) ردد السؤال: لماذا نزلت عن الكرمل؟ ترداداً لافتاً.
هل يقصد درويش أن على فلسطينيي المنفى أن يعتذروا لفلسطينيي الداخل؟ لا أظن هذا، وإلاّ لما كتب: كل، لماذا؟ لأن هناك، ممن أقاموا في المنفى، أفضل بكثير، من بعض من يعيشون في المنفى. أما وأنه قال: كل ما، فإن المرء يتقبل ما ذهب إليه، وربما لا يتناقض وما قاله: ولكن غصناً واحداً من الكرمل الملتهب يعادل كل خصور النساء وكل العواصم.
للحقيقة وجهان.. والثلج أسود
صباح الجمعة انقطعت الكهرباء. ماذا سأفعل؟ كان الثلج يتساقط، ولقد أعادني إلى ألمانية ومدينة بامبرغ ما بين 1988 و1991، كما أعادني إلى الجامعة الأردنية في منتصف 70 ق20، يومها عطلت الجامعة أسبوعاً. في نابلس لم أر ثلجاً كهذا حول منزلي، ربما شاهدته في سنوات خلت، قليلة، على سفوح جرزيم وعيبال. وحين كنت أتابع نشرات الأخبار وأشاهد مأساة السوريين في منافيهم الجديدة تذكرت ما كتبه محمود درويش في "أحد عشر كوكباً": "للحقيقة وجهان.. والثلج أسود".
في ضوء عتمة الشتاء ستمتد يدي إلى "أحد عشر كوكباً" لأقرأ المقطع/ القصيدة. هذا البياض المتساقط هو للسوريين سواد سواد. ماذا يفعل السوريون الآن؟ ماذا يفعلون في خيامهم التي ذكرتني بخيام أهلي لاجئين من 1948 ـ 1958، بسنة الثلجة، بمرض أخي الكبير من البرد، كما كان أبي يروي. هل ثمة فرق ما بين غزاة وطغاة ومتعصبين متشددين دينياً؟
في ضوء العتمة، عتمة الشتاء، سأقرأ القصيدة، وسأكتب هذه الصفحة. الآن، ربما أكثر من أي وقت، أفهم مقولة الشاعر: للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. لم تسعفني شروحات شراح القصيدة، لم تسعفني مقولات (جان كوهين) عن بنية اللغة الشعرية: الانزياح، قدر ما أسعفني الواقع، قدر ما أسعفني لحظة كتابة المقالة ولحظة قراءة القصيدة/ المقطع.
هذا البياض الأبيض حولي يذكرني بمأساة السوريين الآن. يذكرني بمأساة أهلي لاجئين. للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. ما يبدو لنا بياضاً يبدو للاجئين سواداً، وما يبدو لنا نعمة، يبدو لهم نقمة.
كتب درويش نصه زمن مدريد وأوسلو ولم يكن راضياً. تذكر الأندلس وتوقيع أبي عبد الله الصغير اتفاقية السلام، التي كانت استسلاماً: الخروج والتسليم، وغالباً ما كان الشاعر يربط بين الأندلس وفلسطين. ماذا تقول القصيدة؟
كيف يكون الثلج أسود؟ حين يتركنا السلام حفنة من غبار. وحين يكون العرش نعشاً. هل تنبأ درويش بنهاية أبي عمار؟ هل كان كل شيء معداً له/ ولنا.؟
في ضوء العتمة، في لحظة انقطاع الكهرباء كتبت هذه الصفحة.
أ. د. عادل الأسطة
2013-12-22
صباح الثلاثاء 10/12/2013، في التاسعة أصغيت إلى برنامج بثته قناة الجزيرة عن واقع اللغة العربية ومستقبلها.
الموضوع يروق لي لأنني عربي ولأنني أدرس الأدب العربي أيضاً، وربما لأن العربية هي اللغة التي أتقنها، علما بأنني قد أقرأ بالانجليزية وبالألمانية، بمساعدة القاموس، ولا أزعم أنني أعرف العبرية التي تعلمت قليلاً منها.
ما لفت نظري أشياء كثيرة أهمها ما قاله الدكتور الصديق أحمد الخطيب، الأستاذ في جامعة البتراء، حول اعتزاز الألمان بلغتهم اعتزازاً نفتقد نحن العرب إلى مثله، من ذلك أن الألمان لا يكتبون إلا بلغتهم، فهو راسل مرة جهة ألمانية سائلاً عن مخطوط يحتاج إليه، ولأنه لا يعرف الألمانية، ولا يجد من يكتبها له، فقد راسل الجهة بلغة أخرى.
كان رد الألمان كما قال الصديق: انهم أجابوني، ولكنهم كتبوا إليّ أنهم لن يجيبوا فيما بعد على أية رسالة من رسائله ما لم تكن بلغتهم: الألمانية.
أنا لا أريد أن أقول شيئاً آخر غير ما قاله الدكتور بخصوص ما حدث معه.
لا أريد أن أصدق أو أن أنفي ما قاله وما حدث معه، ولكن ما أعرفه عن الألمان أنهم مهووسون بتعلم اللغات الأخرى، بخاصة الانجليزية، ويستغربون حين يعلمون أنك لا تتقنها، وقد بلغ هوسهم بتعلم هذه اللغة أن كانت الفتيات الألمانيات يسافرن إلى انجلترا ليعملن مربيات حتى يتعلمن اللغة.
لم يحب الألمان الشرقيون اللغة الروسية وربما ما أتقنوها، فلم تترك أثراً في لغتهم وظلت اللغة الألمانية شبه صافية في ألمانية الشرقية، لكنها لم تكن كذلك في ألمانية الغربية، فقد دخلتها مفردات كثيرة من لغات عديدة.
في ألمانية، إذا كنت تدرس في إحدى جامعاتها، ولم تتقن الألمانية، يجيز لك قانون الجامعة أن تكتب بالانجليزية، وهناك رسائل دكتوراه وماجستير كثيرة، صدرت عن دار نشر (كلاوس شفارز)، وهي متخصصة بنشر الرسائل فيما يخص العلوم الإسلامية والعربية، صدر بالانجليزية، بل إن قانون الجامعة التي درست فيها أنا (بامبرغ) يجيز للطالب أن يكتب رسالته بأية لغة يتقنها المشرف والممتحن الثاني، على شرط أن يقدم لها ملخصاً بالألمانية، لا يقل عن أربعين صفحة. من هي تلك الجهة يا د. احمد؟
منامات:
سأصغي أيضاً، من خلال قناة الجزيرة، إلى الرئيس المصري السيسي يتحدث عن مناماته.
إنه صاحب منامات منذ 35 عاماً، وآخر ما قاله إنه حلم/ رأى مناماً اجتمع فيه مع الرئيس أنور السادات، يخبره الأخير فيه أنه سيغدو رئيس جمهورية. هل كان الصوت حقاً صوت السيسي؟
المنامات جنس أدبي عرفه الأدب العربي، وقبل شيوعه في الأدب العربي قرأنا في القرآن عن رؤى الأنبياء. كم مرة تكررت كلمة رؤية في القرآن الكريم؟ لا أدري، ولكن هل يغيب عن أذهاننا ما ورد في قصة سيدنا يوسف؟
منذ قصيدة البوصيري المشهورة التي شاعت وانتشرت وقلدت وعورضت وشرحت ودرست وحفظت وعلمت في المدارس عرفنا أكثر وأكثر عن الرؤى والمنامات.
كم من مسلم حفظ تلك القصيدة حتى يبرأ من مرض ألم به؟! فصاحبها نظمها وهو مصاب بالفالج، وتحقق له ما يريد: الشفاء.
نحن، أعني دارسي الأدب العربي، درسنا المقامات أكثر مما درسنا المنامات؛ مقامات الحريري، وقبلها الهمذاني، وبعدها السيوطي، وما عاد الصديق الشاعر إبراهيم قراعين يكتب مقامات، ولا أعرف ما هي أخباره، هو الذي كتبها في نهاية 80 ق 20 وبداية 90 ق20.
قبل سنوات قليلة كتب الروائي اللبناني روايته "كأنها نائمة"، ولا أدري إن كنت قرأت، من قبل، رواية فيها حضور للمنامات كما في هذه الرواية. فيما بعد قرأت أيضا رواية علوية صبح "مريم الحكايا"، وحين كانت إحدى طالباتي تتردد على مكتبي بكثرة، وطلبت مني أن أقترح عليها موضوعاً تكتب فيه أطروحة الماجستير، اقترحت عليها أن تكتب عن المنامات في الرواية اللبنانية.
أنا شخصياً غالبا ما أدون ما أراه أو أحلم به في منامي. لا أقلد نجيب محفوظ فيما عكف عليه في آخر سنوات عمره، حيث وضع إلى جانب سريره قلماً وورقة، ليدون رأيت ما يرى النائم.
أحياناً يحدث معي بالضبط ما رأيته، وأحياناً يحدث عكسه تماماً. ولقد دونت كثيراً من مناماتي في روايتي "تداعيات ضمير المخاطب" (1993). في صباح 12/12/2013 رأيتني أقف على مفرق طرق، وتحديداً مدخل نابلس قرب مخيم بلاطة، المفرق المؤدي إلى القدس: أنا ورجل وامرأة تقود كلباً ضخماً يفلت منها فيلاحق الرجل الثاني الذي سرعان ما يختفي. حين يقترب الكلب مني أصرخ على اللحام بأن يطعمه، فيرمي له بأربع قطع كبيرة، وهكذا لا يقترب الكلب مني. الفرق بيني وبين السيسي أنني لست مسؤولاً عن دولة.
محمود درويش: كل ما كان منفى
قبل أسبوعين أتيت على ما يكتب عن محمود درويش، ومنذ أسبوعين، وربما قبل ذلك، أكرر سطره: "كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى".
السطر ورد في قصيدة درويش "أنت، منذ الآن، أنت" التي ظهرت في "أثر الفراشة" (2007) وراء "أنت، منذ الآن، غيرك". الثانية كتبها إثر أحداث غزة وما جرى فيها حين سيطرت حماس على السلطة، والأولى كتبها حين زار حيفا، وفي ضوء المناسبتين لا نرى في الواحدة ما ينقض الثانية: "أحبك أو لا أحبك" (1971).
مرة كتب حسن خضر أن محمود درويش شاعر لم يتوقف الدارسون أمام جوانب أخرى كثيرة منه: حياته وأشعاره، وأظنه قالها لي حين التقيت به في مقهى في رام الله، وكانت تجلس معنا مايا أبو الحيات الروائية الصاعدة.
وأظن أن حسن البطل أشار إلى درويش مفكراً. أنا لا أنفي هذا إطلاقاً، ومع أنني لا أزعم أنني قرأت الشعر العربي كله لأقول من هو شاعر حكيم ومن هو شاعر شاعر أو شاعر وحكيم، إلا أنني أرى غنى أشعار درويش، ومثله مظفر النواب، بالأفكار والحكمة، وأحياناً أبالغ في الزعم، فأقول: إنهما مثل المتنبي والمعري في جانب الحكمة والفلسفة.
"كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى"، قالها درويش في حيفا 2007، حين زارها ليلقي فيها أشعاره، وليحيي أمسية أثارت ضجة وجدلاً.
فهل صحيح أن كل ما كان منفى يعتذر لكل ما لم يكن منفى.
كل ما وليس كل من، وربما قصر الشاعر القول عليه هو الذي أقام في حيفا حتى 1970، ولم يرها ربع قرن، وعاد إليها زائراً غير مرة منذ 1996، وخلال فترة الغياب حنّ إلى المدينة ورأى في كرملها ما يفوق خصور كل النساء وكل العواصم، حتى أنه حين أصدر "محاولة رقم 7" عبر عن ندمه، وحين كتب "في حضرة الغياب" (2006) ردد السؤال: لماذا نزلت عن الكرمل؟ ترداداً لافتاً.
هل يقصد درويش أن على فلسطينيي المنفى أن يعتذروا لفلسطينيي الداخل؟ لا أظن هذا، وإلاّ لما كتب: كل، لماذا؟ لأن هناك، ممن أقاموا في المنفى، أفضل بكثير، من بعض من يعيشون في المنفى. أما وأنه قال: كل ما، فإن المرء يتقبل ما ذهب إليه، وربما لا يتناقض وما قاله: ولكن غصناً واحداً من الكرمل الملتهب يعادل كل خصور النساء وكل العواصم.
للحقيقة وجهان.. والثلج أسود
صباح الجمعة انقطعت الكهرباء. ماذا سأفعل؟ كان الثلج يتساقط، ولقد أعادني إلى ألمانية ومدينة بامبرغ ما بين 1988 و1991، كما أعادني إلى الجامعة الأردنية في منتصف 70 ق20، يومها عطلت الجامعة أسبوعاً. في نابلس لم أر ثلجاً كهذا حول منزلي، ربما شاهدته في سنوات خلت، قليلة، على سفوح جرزيم وعيبال. وحين كنت أتابع نشرات الأخبار وأشاهد مأساة السوريين في منافيهم الجديدة تذكرت ما كتبه محمود درويش في "أحد عشر كوكباً": "للحقيقة وجهان.. والثلج أسود".
في ضوء عتمة الشتاء ستمتد يدي إلى "أحد عشر كوكباً" لأقرأ المقطع/ القصيدة. هذا البياض المتساقط هو للسوريين سواد سواد. ماذا يفعل السوريون الآن؟ ماذا يفعلون في خيامهم التي ذكرتني بخيام أهلي لاجئين من 1948 ـ 1958، بسنة الثلجة، بمرض أخي الكبير من البرد، كما كان أبي يروي. هل ثمة فرق ما بين غزاة وطغاة ومتعصبين متشددين دينياً؟
في ضوء العتمة، عتمة الشتاء، سأقرأ القصيدة، وسأكتب هذه الصفحة. الآن، ربما أكثر من أي وقت، أفهم مقولة الشاعر: للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. لم تسعفني شروحات شراح القصيدة، لم تسعفني مقولات (جان كوهين) عن بنية اللغة الشعرية: الانزياح، قدر ما أسعفني الواقع، قدر ما أسعفني لحظة كتابة المقالة ولحظة قراءة القصيدة/ المقطع.
هذا البياض الأبيض حولي يذكرني بمأساة السوريين الآن. يذكرني بمأساة أهلي لاجئين. للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. ما يبدو لنا بياضاً يبدو للاجئين سواداً، وما يبدو لنا نعمة، يبدو لهم نقمة.
كتب درويش نصه زمن مدريد وأوسلو ولم يكن راضياً. تذكر الأندلس وتوقيع أبي عبد الله الصغير اتفاقية السلام، التي كانت استسلاماً: الخروج والتسليم، وغالباً ما كان الشاعر يربط بين الأندلس وفلسطين. ماذا تقول القصيدة؟
كيف يكون الثلج أسود؟ حين يتركنا السلام حفنة من غبار. وحين يكون العرش نعشاً. هل تنبأ درويش بنهاية أبي عمار؟ هل كان كل شيء معداً له/ ولنا.؟
في ضوء العتمة، في لحظة انقطاع الكهرباء كتبت هذه الصفحة.
أ. د. عادل الأسطة
2013-12-22