-1 هل ثمة تردد؟
وأنا في عمان اقتنيت ديوان محمود درويش الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (2009). وأنا أسير مساء الجمعة في شارع المدينة الرئيسي، وسط البلد، سألت عن سعره، وعرفت أنه يباع بسبعة دنانير. هل اشتريه أم انتظر حتى الغد، فيبيعني إياه فتحي البس، صاحب مكتبة دار الشروق، بخمسة دنانير، بسعر الجملة كما يبيعني دائماً ما أشتريه من كتب؟ أيعقل أن أنتظر حتى الغد؟ أكثر قصائد الديوان كنت قرأتها في الصحف والمجلات، بخاصة على صفحات جريدة "الأيام" (رام الله)، ويمكن الانتظار. لكن ثمة قصيدة قرأت عنوانها فقط ولم أقرأها، وكنت أتطلع الى قراءتها. إنها قصيدة "طللية البروة".
2- طللية البروة:
لم يكتب محمود درويش عن البروة من قبل - أعني قبل أن يصدر هذا الديوان قصائد لافتة، والذي ربط بين درويش والبروة في كتابته هو الراحل إميل حبيبي في روايته المشهورة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). كان إميل توقف أمام مقطع درويش: "نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" وكتب- اميل: ولم يدر شاعر البروة أن الشياطين هذه تجعل من الطفل نسياً منسياً أيضا. لماذا لم يكتب درويش، من قبل، عن البروة؟ ألأنه كتب عن الوطن كله؟ عن فلسطين؟ عن حيفا؟ عن الكرمل؟ عن الاماكن التي عاش فيها، هو الذي ولد في البروة، ورحل عنها في العام 1948، وحين عاد اليها متسللاً، مع أهله، وجدها أثراً بعد عين، فأقام في الجديدة، ثم رحل عن هذه الى حيفا.
3- درويش والسياب:
ما إن نذكر السياب حتى نذكر قريته جيكور ونهرها بويب. كان السياب خلد قريته ونهرها، وحين ذهب الى بغداد لم ترق له المدينة، إذ رأى في شوارعها أفاعي تلتف حول عنقه، وظل يحن الى جيكور وبويب فكتب قصائد جميلة عن هذين: القرية والنهر. ودرويش معجب بالسياب، فقد خصه بقصيدة، ومقالة نثرية أيضاً. ظهرت الاولى في ديوان "لا تعتذر عما فعلت" )2003( والثانية في كتاب "حيرة العائد" (2006). وكان خيار درويش في النهاية سيابيا لا بياتيا. وقد أتيت على هذا وأنا أدرس قصيدة درويش "من روميات أبي فراس" وأقارن في دراستي بين روميات درويش وروميات البياتي. فلماذا غاب عن درويش الذي قرأ السياب وانحاز له ما قام به السياب حين كتب عن قريته ونهرها؟ ألأن درويش مهموم بالوطن كله، ولأن حيفا غير بغداد، وما تتعرض له الاولى غير ما تعرضت له الثانية، فلم يكن، يوم كتب السياب قصائده، عدو اجنبي محتل يهدد الوطن كله؟ ربما ولا ندري ماذا كان درويش سيكتب، لو امتد به العمر، والتفت الى التفات النقاد الى مقارنته بالسياب، ومقارنة كتابتهما حول قرية كل منهما، لماذا التفت درويش، إذاً في آخر دواوينه الى البروة.
4- طللية البروة وقصائد سابقة:
لكن السؤال الذي يثيره الدارس هو: أحقاً لم يأت درويش على البروة في قصائد سابقة له؟ قد يكون لم يذكرها بالاسم. قد يكون طبعاً أتى عليها في كتابات نثرية متأخرة. (يحتاج المرء الى مراجعة كتابه "في حضرة الغياب"). وربما وجب ان يعود المرء الى قصيدة درويش في رثاء أبيه "ربّ الأيائل، يا ابي ، ربّها" ليقرأ عن علاقة والده وجده بالارض التي حرما منها في العام 1948، إذ حولها الاسرائيليون الى كيبوتس (يتسعور)، وقد أشار درويش الى هذا في رسائله التي كتبها في العام 1986، على صفحات مجلة "اليوم السابع". وربما وجب على المرء أيضاً ان يعود الى ديوان درويش "لا تعتذر عما فعلت" )2003( ليقرأ قصائده عن المكان. أنا كنت التفت الى المكان في اشعاره، ونشرت دراسة مطولة في مجلة "الأسوار" في عكا، يوم صدر الديوان. وأظن أنني لم أكتب عن البروة تحديداً، لأنه لم يذكرها، فقد أتى على صورته في بيت امه - في الجديدة - وأتى على البئر وأتى وأتى.. ولكنه لم يذكر البروة، إذا لم تخني الذاكرة، وإلا لكنت التفت الى هذا.
وربما يتذكر قارئ "طللية البروة" قصيدة درويش في "لا تعتذر عما فعلت" التي عنوانها "لم أعتذر للبئر"، فهي بذرة "طللية البروة" وفيها أسطر ظهرت فيها - أي في الثانية، وهي: "وأمرت قلبي بالتريث: كنت حيادياً كأنك لست مني".
5- طللية البروة:
كم مرة توقفت أمام سؤال السلالة وأنا أدرس أشعار درويش؟ كلما أصدر ديواناً جديداً اخذت أبحث عن بذرته في دواوينه السابقة. كان هو من نبهني الى هذا في المقابلة التي أجريت معه ونشرت على صفحات مجلة الشعراء في العام 1999، حين أتى على سؤال السلالة وبذرة الديوان الجديد، وإن كنت، من قبل، - أي في دراسات سابقة لي عن أشعاره أربط بين قصيدة وأخرى، بخاصة دراستي "ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش" (1993 و 1995 ).
وأنا أقرأ طللية البروة تذكرت "لم اعتذر للبئر". كان الشاعر بعد عودته الى فلسطين، في العام 1996، زار أهله وقريته، وسيكتب، فيما بعد، قصائد عن هذه الزيارة، ظهرت في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت" ولا أدري كم مرة ناقشت موقف درويش من الاطلال وشعرائها، في بداية حياته، وبعد العام 1996 تحديداً. بخاصة حين قارنت بينه وبين امرئ القيس الذي استحضره درويش مبكراً، وعاد واستحضره، غير مرة، بعد (أوسلو). لم تتطابق تجربة درويش مع امرئ القيس قدر ما اختلفت، وقد عارضه مبكراً حين ربط بين امرئ القيس والوقوف على الاطلال، ذاهباً الى أن هذا الوقوف فانٍ، وأن الوقوف على الاطلال محيّر ومرمد أيضاً، فدرويش اختار الوقوف الى جانب أهله، لا الوقوف على الاطلال. كان هذا قبل أن يغادر حيفا في العام 1970، ولم يكن درويش فطن الى مكر التاريخ، فقد عاد الى حيفا والجديدة والبروة، ووقف على الاطلال، ليكتب قصائد جميلة جداً، منها "طللية البروة"
6- رؤية البروة:
في "طللية البروة" يكتب درويش عن زيارته القرية المدمرة التي أقيم على انقاضها (كيبوتس يتسعور)، ويجرد من نفسه شخصين آخرين، على عادة الشعراء الجاهليين ومنهم امرؤ القيس، يجرد من نفسه شخصاً آخر يعتبره سائحاً ويجرد من نفسه ايضاً شخصاً ثانياً يعتبره مراسلاً صحافياً لجريدة اجنبية وهو الآن يريد أن يكون محايداً:
أمشي خفيفاً كالطيور على أديم الأرض كي لا أوقظ الموتى
وأقفل باب عاطفتي لأصبح آخري، اذ لا احس بأنني حجر يئن من الحنين الى السحابة.
هكذا امشي كأني سائح ومراسل لصحيفة /غربية.
ويبدأ درويش يكتب عن علاقته بالقرية / البروة التي ولد فيها، يتذكر طفولته فيها، وغرفة منزله، وطريق مدرسته ويزن المكان وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول والرحيل. يتذكر حكايته الاولى، حليب أمه، سريره كأنه لا يكبر. وأما الصحافي فلا يرى سوى المصانع التي أقامتها اسرائيل، وحين يخاطب هذا درويش بهذا يرد عليه بأنه لا يرى في المكان الا ما كان قديماً يقول:
والطرق الحديثة هل تراها فوق انقاض البيوت/ اقول كلا. لا اراها لا ارى الا الحديقة تحتها..
لو سئلت أنا: أي القصائد ترشح لدرويش للمنهاج الفلسطيني لقلت: "طللية البروة".
أ. د. عادل الأسطة
2009-05-31
وأنا في عمان اقتنيت ديوان محمود درويش الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (2009). وأنا أسير مساء الجمعة في شارع المدينة الرئيسي، وسط البلد، سألت عن سعره، وعرفت أنه يباع بسبعة دنانير. هل اشتريه أم انتظر حتى الغد، فيبيعني إياه فتحي البس، صاحب مكتبة دار الشروق، بخمسة دنانير، بسعر الجملة كما يبيعني دائماً ما أشتريه من كتب؟ أيعقل أن أنتظر حتى الغد؟ أكثر قصائد الديوان كنت قرأتها في الصحف والمجلات، بخاصة على صفحات جريدة "الأيام" (رام الله)، ويمكن الانتظار. لكن ثمة قصيدة قرأت عنوانها فقط ولم أقرأها، وكنت أتطلع الى قراءتها. إنها قصيدة "طللية البروة".
2- طللية البروة:
لم يكتب محمود درويش عن البروة من قبل - أعني قبل أن يصدر هذا الديوان قصائد لافتة، والذي ربط بين درويش والبروة في كتابته هو الراحل إميل حبيبي في روايته المشهورة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). كان إميل توقف أمام مقطع درويش: "نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" وكتب- اميل: ولم يدر شاعر البروة أن الشياطين هذه تجعل من الطفل نسياً منسياً أيضا. لماذا لم يكتب درويش، من قبل، عن البروة؟ ألأنه كتب عن الوطن كله؟ عن فلسطين؟ عن حيفا؟ عن الكرمل؟ عن الاماكن التي عاش فيها، هو الذي ولد في البروة، ورحل عنها في العام 1948، وحين عاد اليها متسللاً، مع أهله، وجدها أثراً بعد عين، فأقام في الجديدة، ثم رحل عن هذه الى حيفا.
3- درويش والسياب:
ما إن نذكر السياب حتى نذكر قريته جيكور ونهرها بويب. كان السياب خلد قريته ونهرها، وحين ذهب الى بغداد لم ترق له المدينة، إذ رأى في شوارعها أفاعي تلتف حول عنقه، وظل يحن الى جيكور وبويب فكتب قصائد جميلة عن هذين: القرية والنهر. ودرويش معجب بالسياب، فقد خصه بقصيدة، ومقالة نثرية أيضاً. ظهرت الاولى في ديوان "لا تعتذر عما فعلت" )2003( والثانية في كتاب "حيرة العائد" (2006). وكان خيار درويش في النهاية سيابيا لا بياتيا. وقد أتيت على هذا وأنا أدرس قصيدة درويش "من روميات أبي فراس" وأقارن في دراستي بين روميات درويش وروميات البياتي. فلماذا غاب عن درويش الذي قرأ السياب وانحاز له ما قام به السياب حين كتب عن قريته ونهرها؟ ألأن درويش مهموم بالوطن كله، ولأن حيفا غير بغداد، وما تتعرض له الاولى غير ما تعرضت له الثانية، فلم يكن، يوم كتب السياب قصائده، عدو اجنبي محتل يهدد الوطن كله؟ ربما ولا ندري ماذا كان درويش سيكتب، لو امتد به العمر، والتفت الى التفات النقاد الى مقارنته بالسياب، ومقارنة كتابتهما حول قرية كل منهما، لماذا التفت درويش، إذاً في آخر دواوينه الى البروة.
4- طللية البروة وقصائد سابقة:
لكن السؤال الذي يثيره الدارس هو: أحقاً لم يأت درويش على البروة في قصائد سابقة له؟ قد يكون لم يذكرها بالاسم. قد يكون طبعاً أتى عليها في كتابات نثرية متأخرة. (يحتاج المرء الى مراجعة كتابه "في حضرة الغياب"). وربما وجب ان يعود المرء الى قصيدة درويش في رثاء أبيه "ربّ الأيائل، يا ابي ، ربّها" ليقرأ عن علاقة والده وجده بالارض التي حرما منها في العام 1948، إذ حولها الاسرائيليون الى كيبوتس (يتسعور)، وقد أشار درويش الى هذا في رسائله التي كتبها في العام 1986، على صفحات مجلة "اليوم السابع". وربما وجب على المرء أيضاً ان يعود الى ديوان درويش "لا تعتذر عما فعلت" )2003( ليقرأ قصائده عن المكان. أنا كنت التفت الى المكان في اشعاره، ونشرت دراسة مطولة في مجلة "الأسوار" في عكا، يوم صدر الديوان. وأظن أنني لم أكتب عن البروة تحديداً، لأنه لم يذكرها، فقد أتى على صورته في بيت امه - في الجديدة - وأتى على البئر وأتى وأتى.. ولكنه لم يذكر البروة، إذا لم تخني الذاكرة، وإلا لكنت التفت الى هذا.
وربما يتذكر قارئ "طللية البروة" قصيدة درويش في "لا تعتذر عما فعلت" التي عنوانها "لم أعتذر للبئر"، فهي بذرة "طللية البروة" وفيها أسطر ظهرت فيها - أي في الثانية، وهي: "وأمرت قلبي بالتريث: كنت حيادياً كأنك لست مني".
5- طللية البروة:
كم مرة توقفت أمام سؤال السلالة وأنا أدرس أشعار درويش؟ كلما أصدر ديواناً جديداً اخذت أبحث عن بذرته في دواوينه السابقة. كان هو من نبهني الى هذا في المقابلة التي أجريت معه ونشرت على صفحات مجلة الشعراء في العام 1999، حين أتى على سؤال السلالة وبذرة الديوان الجديد، وإن كنت، من قبل، - أي في دراسات سابقة لي عن أشعاره أربط بين قصيدة وأخرى، بخاصة دراستي "ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش" (1993 و 1995 ).
وأنا أقرأ طللية البروة تذكرت "لم اعتذر للبئر". كان الشاعر بعد عودته الى فلسطين، في العام 1996، زار أهله وقريته، وسيكتب، فيما بعد، قصائد عن هذه الزيارة، ظهرت في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت" ولا أدري كم مرة ناقشت موقف درويش من الاطلال وشعرائها، في بداية حياته، وبعد العام 1996 تحديداً. بخاصة حين قارنت بينه وبين امرئ القيس الذي استحضره درويش مبكراً، وعاد واستحضره، غير مرة، بعد (أوسلو). لم تتطابق تجربة درويش مع امرئ القيس قدر ما اختلفت، وقد عارضه مبكراً حين ربط بين امرئ القيس والوقوف على الاطلال، ذاهباً الى أن هذا الوقوف فانٍ، وأن الوقوف على الاطلال محيّر ومرمد أيضاً، فدرويش اختار الوقوف الى جانب أهله، لا الوقوف على الاطلال. كان هذا قبل أن يغادر حيفا في العام 1970، ولم يكن درويش فطن الى مكر التاريخ، فقد عاد الى حيفا والجديدة والبروة، ووقف على الاطلال، ليكتب قصائد جميلة جداً، منها "طللية البروة"
6- رؤية البروة:
في "طللية البروة" يكتب درويش عن زيارته القرية المدمرة التي أقيم على انقاضها (كيبوتس يتسعور)، ويجرد من نفسه شخصين آخرين، على عادة الشعراء الجاهليين ومنهم امرؤ القيس، يجرد من نفسه شخصاً آخر يعتبره سائحاً ويجرد من نفسه ايضاً شخصاً ثانياً يعتبره مراسلاً صحافياً لجريدة اجنبية وهو الآن يريد أن يكون محايداً:
أمشي خفيفاً كالطيور على أديم الأرض كي لا أوقظ الموتى
وأقفل باب عاطفتي لأصبح آخري، اذ لا احس بأنني حجر يئن من الحنين الى السحابة.
هكذا امشي كأني سائح ومراسل لصحيفة /غربية.
ويبدأ درويش يكتب عن علاقته بالقرية / البروة التي ولد فيها، يتذكر طفولته فيها، وغرفة منزله، وطريق مدرسته ويزن المكان وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول والرحيل. يتذكر حكايته الاولى، حليب أمه، سريره كأنه لا يكبر. وأما الصحافي فلا يرى سوى المصانع التي أقامتها اسرائيل، وحين يخاطب هذا درويش بهذا يرد عليه بأنه لا يرى في المكان الا ما كان قديماً يقول:
والطرق الحديثة هل تراها فوق انقاض البيوت/ اقول كلا. لا اراها لا ارى الا الحديقة تحتها..
لو سئلت أنا: أي القصائد ترشح لدرويش للمنهاج الفلسطيني لقلت: "طللية البروة".
أ. د. عادل الأسطة
2009-05-31