اليوم الثالث عشر من آذار هو ذكرى ميلاد محمود درويش وهو يوم الثقافة الوطنية الفلسطينية، ولعل أفضل احتفال بهذه الذكرى هي أن أخص الشاعر باقتباس من شعره وبالكتابة عن الشعر، وبما أنني سأكتب عن الرواية العراقية وتوظيف الموروث الشعري فيها، فليس أنسب من اقتباس سطرين للشاعر وردا في قصيدته "أتذكر السياب" من مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"(٢٠٠٣). يقول درويش:
"أتذكر السياب... إن الشعر يولد في العراق
فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي!"
ولا يخفى أن علاقة درويش بالسياب هي علاقة شاعر بشاعر قرأه فأعجب بشعره قبل أن يعجب بمواقفه، فعندما كان في الحزب الشيوعي فرض الحزب عليه أن يقرأ البياتي لا السياب والسبب معروف وواضح. كان البياتي في حينه شيوعيا في الوقت الذي ساءت فيه علاقة السياب بالحزب، فهجاه بسلسلة مقالات عنوانها "كنت شيوعيا".
التزم درويش برأي الحزب ولكنه كان يميل إلى شعر السياب أكثر من ميله إلى شعر البياتي، وهو ما أفصح عنه في مقابلات متأخرة أجريت معه قبل وفاته (انظر مجلة "مشارف" تشرين الأول ١٩٩٥ص ٧٩).
في الأسبوعين الأخيرين، طلب مني أن أبدي رأيي في بحث عنوانه "الموروث الشعري القديم في روايات الكاتبة العراقية إنعام كجه جي، وكنت قرأت ثلاثا منها وكتبت عنها، وكان علي أن أعود مجددا إلى رواياتها أقرأ ملاحظاتي عليها وتوقفت مطولا أمام "الحفيدة الأمريكية" وما ورد فيها عن علاقة الحفيدة زينة ووالدها بالشعر، ما ذكرني بقصيدة درويش المقتبس منها.
ابتداء أشير إلى أن الطالب الذي أعد رسالة الماجستير وهو معتصم غوادرة كان أحد طلابي في جامعة النجاح الوطنية، وكنت درسته رواية الكاتبة العمانية جوخة الحارثي "سيدات القمر"، ولما سألني عن روايات معاصرة وظف فيها كتابها الشعر اقترحت عليه روايات إنعام كجه جي.
ما علينا!
أعود إلى رواية "الحفيدة الأمريكية" وقصة زينة ووالدها والشعر فيها.
كان والد زينة صباح بهنام، وهو آشوري، مذيعا في عهد صدام حسين، ومرة أبدى امتعاضه من طول خطاب الرئيس وكونه مكررا، فوشى به زميله، ما أدى إلى سجنه بحجة معاداة الثورة والحزب، ولما أفرج عنه غادر العراق، وغادرت معه ابنته زينة، إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعود إلى بلدها مع الغزو الأميركي تخدم في جيشه وتعمل مترجمة.
تأتي زينة على ماضيها في العراق وحبها ووالدها الشعر العربي، فقد تربت على الشعر الذي شغف والدها المذيع. كان صباح بهنام شغوفا بالشعر القديم ومولعا به، وقد حفظ منه الكثير ومما حفظه قصائد الغزل التي أدار بها رأس "أمي فما عادت ترى رجلا غيره من البشر، وحين أصرت على الاقتران به قال لها جدي:
- هذا آشوري، اش جابو على العرب.
- آشوري بلوشي برتكيشي. أريده ولن أتزوج غيره" (ص ١٣٣).
تأتي زينة على المبارزات الشعرية بينها وبين أبيها؛ المبارزات التي جعلتها تحفظ الشعر العربي القديم، علما بأنني لم ألحظ في الرواية أي بيت منه، وربما لهذا لم يقف الطالب معتصم غوادرة في الجزء الذي قرأته من دراسته أمام رواية "الحفيدة الأمريكية".
الرواية عموما تحفل بإشارات إلى الشعر العراقي الحديث بنوعيه الشعبي والفصيح، وتقتبس من قصيدة مظفر النواب "للريل وحمد" وتذكر الجواهري وقصيدته "دجلة الخير".
شخصيا، أعادتني المبارزات الشعرية بين زينة ووالدها إلى ما كان شائعا في٦٠ القرن ٢٠ من مسابقات كانت تقام في النوادي والمدارس يتم فيها إجراء مسابقات شعرية، ولعلها انقرضت منذ ثلاثة عقود، فما عاد كثيرون يحفظون الشعر العربي القديم كما كنا نحفظه.
ومع أن المبارزات الشعرية تحفل بالشعر الموزون المقفى إلا أن أي نموذج منه لم يحضر. إنه النموذج الغائب. في موقع واحد من الرواية - إن أحسنت الرصد - يشار إلى شطر بيت من الشعر الجاهلي، ولكنه لم يذكر. مثلا في الصفحة ١٣٣ نقرأ عن علاقتها بمهيمن الشيعي أخيها في الرضاعة:
"يقرأ لي مهيمن شطرا من بيت شعر جاهلي ويتعجب عندما أكمل له العجز. يحدثني عن مظفر النواب ويكتشف أنني أحفظه خيرا منه. يفرح لأنني قادرة على مجاراته في ميوله الأدبية، ويكظم غيظا عندما أمضي في استذكاراتي إلى آفاق لم يصلها.
في كل مرة يسألني:
- أين تعلمت هذا؟
لو يعرف مهيمن بأي لغة كان يحدثني أبي... أحكي له... عن شغف المذيع صباح بهنام بالعربية وولعه بالشعر القديم، عن محفوظاته من قصائد الغزل التي أدار بها رأس أمي..".
ربما ما يستحق الالتفات إليه في هذه الرواية التعدد اللساني فيها وكنت توقفت أمامه بإيجاز في ١١/١٢/٢٠١١ تحت عنوان "الحفيدة الأمريكية: هل جنى الاحتلال على اللغة".
أ. د. عادل الأسطة
2022-03-13
"أتذكر السياب... إن الشعر يولد في العراق
فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي!"
ولا يخفى أن علاقة درويش بالسياب هي علاقة شاعر بشاعر قرأه فأعجب بشعره قبل أن يعجب بمواقفه، فعندما كان في الحزب الشيوعي فرض الحزب عليه أن يقرأ البياتي لا السياب والسبب معروف وواضح. كان البياتي في حينه شيوعيا في الوقت الذي ساءت فيه علاقة السياب بالحزب، فهجاه بسلسلة مقالات عنوانها "كنت شيوعيا".
التزم درويش برأي الحزب ولكنه كان يميل إلى شعر السياب أكثر من ميله إلى شعر البياتي، وهو ما أفصح عنه في مقابلات متأخرة أجريت معه قبل وفاته (انظر مجلة "مشارف" تشرين الأول ١٩٩٥ص ٧٩).
في الأسبوعين الأخيرين، طلب مني أن أبدي رأيي في بحث عنوانه "الموروث الشعري القديم في روايات الكاتبة العراقية إنعام كجه جي، وكنت قرأت ثلاثا منها وكتبت عنها، وكان علي أن أعود مجددا إلى رواياتها أقرأ ملاحظاتي عليها وتوقفت مطولا أمام "الحفيدة الأمريكية" وما ورد فيها عن علاقة الحفيدة زينة ووالدها بالشعر، ما ذكرني بقصيدة درويش المقتبس منها.
ابتداء أشير إلى أن الطالب الذي أعد رسالة الماجستير وهو معتصم غوادرة كان أحد طلابي في جامعة النجاح الوطنية، وكنت درسته رواية الكاتبة العمانية جوخة الحارثي "سيدات القمر"، ولما سألني عن روايات معاصرة وظف فيها كتابها الشعر اقترحت عليه روايات إنعام كجه جي.
ما علينا!
أعود إلى رواية "الحفيدة الأمريكية" وقصة زينة ووالدها والشعر فيها.
كان والد زينة صباح بهنام، وهو آشوري، مذيعا في عهد صدام حسين، ومرة أبدى امتعاضه من طول خطاب الرئيس وكونه مكررا، فوشى به زميله، ما أدى إلى سجنه بحجة معاداة الثورة والحزب، ولما أفرج عنه غادر العراق، وغادرت معه ابنته زينة، إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعود إلى بلدها مع الغزو الأميركي تخدم في جيشه وتعمل مترجمة.
تأتي زينة على ماضيها في العراق وحبها ووالدها الشعر العربي، فقد تربت على الشعر الذي شغف والدها المذيع. كان صباح بهنام شغوفا بالشعر القديم ومولعا به، وقد حفظ منه الكثير ومما حفظه قصائد الغزل التي أدار بها رأس "أمي فما عادت ترى رجلا غيره من البشر، وحين أصرت على الاقتران به قال لها جدي:
- هذا آشوري، اش جابو على العرب.
- آشوري بلوشي برتكيشي. أريده ولن أتزوج غيره" (ص ١٣٣).
تأتي زينة على المبارزات الشعرية بينها وبين أبيها؛ المبارزات التي جعلتها تحفظ الشعر العربي القديم، علما بأنني لم ألحظ في الرواية أي بيت منه، وربما لهذا لم يقف الطالب معتصم غوادرة في الجزء الذي قرأته من دراسته أمام رواية "الحفيدة الأمريكية".
الرواية عموما تحفل بإشارات إلى الشعر العراقي الحديث بنوعيه الشعبي والفصيح، وتقتبس من قصيدة مظفر النواب "للريل وحمد" وتذكر الجواهري وقصيدته "دجلة الخير".
شخصيا، أعادتني المبارزات الشعرية بين زينة ووالدها إلى ما كان شائعا في٦٠ القرن ٢٠ من مسابقات كانت تقام في النوادي والمدارس يتم فيها إجراء مسابقات شعرية، ولعلها انقرضت منذ ثلاثة عقود، فما عاد كثيرون يحفظون الشعر العربي القديم كما كنا نحفظه.
ومع أن المبارزات الشعرية تحفل بالشعر الموزون المقفى إلا أن أي نموذج منه لم يحضر. إنه النموذج الغائب. في موقع واحد من الرواية - إن أحسنت الرصد - يشار إلى شطر بيت من الشعر الجاهلي، ولكنه لم يذكر. مثلا في الصفحة ١٣٣ نقرأ عن علاقتها بمهيمن الشيعي أخيها في الرضاعة:
"يقرأ لي مهيمن شطرا من بيت شعر جاهلي ويتعجب عندما أكمل له العجز. يحدثني عن مظفر النواب ويكتشف أنني أحفظه خيرا منه. يفرح لأنني قادرة على مجاراته في ميوله الأدبية، ويكظم غيظا عندما أمضي في استذكاراتي إلى آفاق لم يصلها.
في كل مرة يسألني:
- أين تعلمت هذا؟
لو يعرف مهيمن بأي لغة كان يحدثني أبي... أحكي له... عن شغف المذيع صباح بهنام بالعربية وولعه بالشعر القديم، عن محفوظاته من قصائد الغزل التي أدار بها رأس أمي..".
ربما ما يستحق الالتفات إليه في هذه الرواية التعدد اللساني فيها وكنت توقفت أمامه بإيجاز في ١١/١٢/٢٠١١ تحت عنوان "الحفيدة الأمريكية: هل جنى الاحتلال على اللغة".
أ. د. عادل الأسطة
2022-03-13