لا استذكر مصر إلا من خلال صورة جمال عبد الناصر بإنفته التي كنت أُصادفها في الصحف، وأنا طفل يُكلِّفه أبوه بقراءة جريدة العلم وهو يُجالس رفاقه للاطلاع على أخبار حرب 1967.
مذّاك صارت مصر سؤالًا يطرق الرأس ويهتز له وجيب القلب، سؤالًا يلحّ عليّ حين أعود إلى لحظة مؤلمة من حياتي، وصارت جزءًا من مسار تعلّمي القراءة والسياسة.
كان أبي عروبيًّا، وربّما جماليًّا أكثر من جمال نفسه، لكنّه لم يكن السبب الوحيد في التعلّق بمصر؛ فقد تشكّل هذا التعلّق فيما بعد، حين فُصلت من إعدادية "ابن تومرت" نهائيًّا، أنا التلميذ الشغوف بالحرف والكتاب، لا لشيء إلّا للاشتباه في كوني قد شاركت في الاستهزاء بأحد الأساتذة اليهود الذين كانوا يُدرِّسون بالمؤسسة نفسها.
قد كان الطفل الذي كنْتُه بريئًا من التهمة الملفَّقة ضدّه براءة الذئب من دم يوسف. لم يتراجع مدير الثانوية عن قرار فصلي رفقة زمرة من التلاميذ على الرغم من الدلائل التي تُبرهن على عدم تواجدي لحظة حدوث واقعة المسّ بكرامة الأستاذ المذكور التي لم تتعدَّ دفعه من الخلف من غير قصد من قِبَل تلاميذ كانوا يتسابقون جريًا للحاق بالحافلة خوفًا من أن يُفوِّتوها.
لقد تشكل وعيي بالظلم مذّاك، وكان عليّ أن أفهم لماذا كان الاعتراف ببراءتي شيئًا يُرعب المسؤول عن المؤسسة. ولم يكن بمكنة الطفل الذي كُنْتُه وقتذاك أن يمتلك من أسباب التحليل ما يسمح له باستنتاج علّة واضحة تُفسِّر الملتبِس عليه.
ستتّضح الأمور بعد أن أصرّ أبي على الاحتجاج على فصلي المتعسِّف باللجوء إلى نيابة التعليم متظلِّمًا. لقد رُبطت الواقعة التي أُقحمت فيها خطأً أو قصدًا بالرغبة في الانتقام لمصر وهزيمة 1967. هكذا لم تعد مصر- منذئذ- مجرّد اسم لبلد عربيّ يمكن أن أقرأه هنا أو هناك، وأحدد موقعه على الخارطة، بل صارت سؤالًا عريضًا لا يقف عند حدود الحرب والهزيمة والانتصار، بل يتعدّى هذا إلى ما هو أكبر وأوسع، إلى كرامة الإنسان العربيّ وعزّته.
اليوم أشعر بقلق وخوف شديدين على مصر وأُنا أطلُّ عليها من شرفة الكهولة بمنظار الخبرة والمعرفة؛ فهي القلب النابض للجسد العربيّ، عليه ألا يتوقف، فإذا ما حدث ذلك مات هذا الجسد. وأعرف اليوم أنّهم يكيدون لها، وهم كثيرون، الإخوة قبل الأعداء، ويسعون إلى نزع الريادة منها، وبخاصّة اختطاف بوصلة الفكر والثقافة منها، بكلّ السبل والحيل وأنواع المكر، حتّى يُدجِّنون من لم يُدجَّن بعد، لكن لي كبير الثقة في أهل مصر: ورثة جمال عبد الناصر وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والخال عبد الرحمن الأبنودي.
عبد الرحيم جيران
مذّاك صارت مصر سؤالًا يطرق الرأس ويهتز له وجيب القلب، سؤالًا يلحّ عليّ حين أعود إلى لحظة مؤلمة من حياتي، وصارت جزءًا من مسار تعلّمي القراءة والسياسة.
كان أبي عروبيًّا، وربّما جماليًّا أكثر من جمال نفسه، لكنّه لم يكن السبب الوحيد في التعلّق بمصر؛ فقد تشكّل هذا التعلّق فيما بعد، حين فُصلت من إعدادية "ابن تومرت" نهائيًّا، أنا التلميذ الشغوف بالحرف والكتاب، لا لشيء إلّا للاشتباه في كوني قد شاركت في الاستهزاء بأحد الأساتذة اليهود الذين كانوا يُدرِّسون بالمؤسسة نفسها.
قد كان الطفل الذي كنْتُه بريئًا من التهمة الملفَّقة ضدّه براءة الذئب من دم يوسف. لم يتراجع مدير الثانوية عن قرار فصلي رفقة زمرة من التلاميذ على الرغم من الدلائل التي تُبرهن على عدم تواجدي لحظة حدوث واقعة المسّ بكرامة الأستاذ المذكور التي لم تتعدَّ دفعه من الخلف من غير قصد من قِبَل تلاميذ كانوا يتسابقون جريًا للحاق بالحافلة خوفًا من أن يُفوِّتوها.
لقد تشكل وعيي بالظلم مذّاك، وكان عليّ أن أفهم لماذا كان الاعتراف ببراءتي شيئًا يُرعب المسؤول عن المؤسسة. ولم يكن بمكنة الطفل الذي كُنْتُه وقتذاك أن يمتلك من أسباب التحليل ما يسمح له باستنتاج علّة واضحة تُفسِّر الملتبِس عليه.
ستتّضح الأمور بعد أن أصرّ أبي على الاحتجاج على فصلي المتعسِّف باللجوء إلى نيابة التعليم متظلِّمًا. لقد رُبطت الواقعة التي أُقحمت فيها خطأً أو قصدًا بالرغبة في الانتقام لمصر وهزيمة 1967. هكذا لم تعد مصر- منذئذ- مجرّد اسم لبلد عربيّ يمكن أن أقرأه هنا أو هناك، وأحدد موقعه على الخارطة، بل صارت سؤالًا عريضًا لا يقف عند حدود الحرب والهزيمة والانتصار، بل يتعدّى هذا إلى ما هو أكبر وأوسع، إلى كرامة الإنسان العربيّ وعزّته.
اليوم أشعر بقلق وخوف شديدين على مصر وأُنا أطلُّ عليها من شرفة الكهولة بمنظار الخبرة والمعرفة؛ فهي القلب النابض للجسد العربيّ، عليه ألا يتوقف، فإذا ما حدث ذلك مات هذا الجسد. وأعرف اليوم أنّهم يكيدون لها، وهم كثيرون، الإخوة قبل الأعداء، ويسعون إلى نزع الريادة منها، وبخاصّة اختطاف بوصلة الفكر والثقافة منها، بكلّ السبل والحيل وأنواع المكر، حتّى يُدجِّنون من لم يُدجَّن بعد، لكن لي كبير الثقة في أهل مصر: ورثة جمال عبد الناصر وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والخال عبد الرحمن الأبنودي.
عبد الرحيم جيران