أحيانا كثيرة أتساءل عن بدايات اهتمامي بأدب المقاومة ، فأحك الذاكرة قليلا لعلني أتوصل إلى إجابة .
في فترة الحكم الأردني للضفة الغربية حتى ١٩٦٧ ، وكنت في الثالثة عشرة من عمري ، لم أكن سمعت بهذا المصطلح . كنا في المدارس نقرأ قصائد لإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وربما لفدوى طوقان ، وكانت هذه القصائد تتمحور حول الحنين إلى الوطن السليب والإصرار على العودة إليه " سنعود " وحمل الروح على اليد والمضي بها إلى مهاوي الردى " الشهيد " أو تعاطف الفلسطيني ابن البلد مع الفلسطينية اللاجئة في يوم العيد " مع لاجئة في العيد " و " الحبشي الذبيح " : برقت له مسنونة تتلهب " وما شابه .
في تلك الفترة كنا نعيش الظلم وأحداث السموع ونصغي إلى خطابات عبد الناصر ونرى في مكتبات الرصيف روايات عالمية مترجمة لم يعد الجيل الحالي يراها أو يرى غيرها ، فقد اختفت مكتبات الرصيف في نابلس اختفاء شبه نهائي ، وإن ما زالت ظاهرة في رام الله .
حتى العام ١٩٧٢ كانت صلتنا بأدب المقاومة شبه منعدمة مع أنه علا صيته وذاع . ربما كنا نقرأ بعض قصائد الشاعر عبد اللطيف عقل الذي درسنا في المدرسة الثانوية وطلب منا أن نشتري ديوانه الثاني في مسيرته " أغاني القمة والقاع " ( ١٩٧١ ) ولم نكن نفهم منه الكثير ، ولا أعرف إن عد ، في حينه ، من شعر المقاومة .
في الجامعة الأردنية درست في السنة الأولى مع الدكتور هاشم ياغي قصيدة " محمود درويش " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " فكانت الأولى التي قادتني إلى شعره ، وكان أن عثرت في مكتبة المحتسب في عمان على " ديوان الوطن المحتل " الذي أعده يوسف الخطيب ، فاشتريته بدينار أردني وكان راتب البعثة عشرين دينارا شهريا ، وعرفني الديوان بأشعار شعراء المقاومة في الأرض المحتلة ١٩٤٨ ، وهكذا قرأت المزيد لمحمود درويش وقرأت لسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وسالم جبران وسميح صباغ . قرأت الديوان كله وحفظت منه ما راق لي .
عندما عدت في صيف ١٩٧٣ إلى نابلس صرت أبحث عن الدواوين الفردية لكل شاعر وأقتنيها ، ومن هنا بدأت حكايتي مع هذا الشعر ، بل ومع فني القصة القصيرة والرواية .
ما الذي أعادني إلى هذا الموضوع الذي ربما خضت فيه من قبل ؟
مؤخرا اتصل بي صديقي الدكتور خليل الشيخ ، وكنا زميلي دراسة بين ١٩٧٢ و١٩٧٦ ، يسألني عن قصيدة درويش " امرؤ القيس " التي كتبت عنها في كتبي ودراساتي ، وهي قصيدة لن يعثر عليها أي دارس في العالم العربي ، ما لم يقرأ طبعة الأرض المحتلة من ديوان " يوميات جرح فلسطيني " أو نسخة مصورة عنها صدرت في العالم العربي ، فقد خلت منها طبعات أعمال الشاعر الكاملة تماما . عدت إلى ملفاتي أبحث عنها ، ولما لم أجدها كتبت إلى الروائي سهيل كيوان الذي اجتهد مشكورا وصورها لي من الطبعة المذكورة للديوان . هنا اكتشفت أخطائي الكامنة في عدم احتفاظي بالطبعات الأولى من الدواوين ولذلك أسباب .
حتى العام ١٩٨٨ لم أكن مهتما بظاهرة الحذف والإضافة والتغيير التي يجريها الأدباء على نصوصهم ، وعندما قرأت طبعتي رواية محمد العدناني " في السرير " ؛ طبعة فلسطين ١٩٤٦ وطبعة حلب ١٩٥٣ ، لاحظت إجراءه تعديلات على الثانية سببها اختلاف الزمن والموقف وفسرت هذا وكتبت عنه في رسالة الدكتوراه " صورة اليهود في الأدب الفلسطيني "( ١٩٩١) ، وستقودني هذه الكتابة إلى إنجاز ثلاث دراسات بحثية عن أشعار درويش أصدرتها معا في كتاب يعد من أهم ما كتبت ، وكان سببا من أسباب قسوة الشاعر علي وعلى تتبعي مسيرته الشعرية لدرجة أنه في لقاء موثق مع طلبة الفرير في رام الله اتهمني بأنني شرطي ، فاعتبرت ذلك دعابة وواصلت قراءة أشعاره والكتابة عنها وما زلت أكتب .
ما هي أسباب عدم احتفاظي بالطبعات الأولى ؟
كلما حصلت على الأعمال الكاملة قلت في نفسي ما حاجتي للدواوين منفردة ؟ وهكذا صرت أهديها إلى أصدقاء أو مكتبات النوادي أو مكتبة الجامعة ، فبيتي صغير المساحة لا يتسع للكثير من الكتب . هذا حدث أيضا مع ديوان الحماسة لسميح القاسم بأجزائه الثلاثة . والطريف أنني عندما أخذت أكتب عن ظاهرة الحذف في أشعار الشعراء احتجت إلى الطبعات الأولى فصرت أستعير نسخي القديمة .
الطبعات الأولى للشعراء الذين سيحترفون الكتابة مهمة جدا إن أراد الدارس تطبيق المنهج التكويني في النقد متتبعا الصياغات المتعددة للقصيدة ، وهي مهمة للناقد التاريخي الذي يدرس العمل الجديد للشاعر في ضوء أعماله السابقة ، ومهمة أيضا للناقد للماركسي الذي يتتبع مسيرة الشاعر ومواقفه في أزمنة مختلفة ، إذ يتساءل عن أسباب التغيير والإضافة والحذف ، وقد استفدت شخصيا من هذه المناهج في بعض كتبي عن درويش ، واستفدت من قسم منها في دراستي عن سميح القاسم ومظفر النواب وقصيدة سعدي يوسف " إلى ياسر عرفات " .
الكتابة تطول والمساحة محدودة .
كتب ودراسات ظهرت فيها كتابتي عن قصيدة درويش " امرؤ القيس " :
- أرض القصيدة : جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره ( دار الزاهرة ، رام الله ٢٠٠١ ) الفصل الذي عنوانه " سؤال السلالة " .
- جدل الشعر والسياسة والذائقة ، دراسة في ظاهرة الحذف والإضافة وااتغيير في شعر محمود درويش ( نابلس ، ٢٠١٢ ) يضم الكتاب ثلاث دراسات نشرت في ١٩٩٥ و ١٩٩٧ و٢٠٠٠ .
- محمود درويش وامرؤ القيس وأبو تمام والمتنبي وأبو فراس الحمداني ، دراسة مطولة نشرت معا في مواقع إلكترونية بعد نشرها منفصلة وعلى حلقات .
- كتبت دراسة عنوانها " سميح القاسم والقصائد المحذوفة " لمؤتمر " الأدب الفلسطيني في الجليل " الذي عقدته جامعة بيت لحم في ٢٠٠٦ ، وظهرت في كتاب المؤتمر .
- كتبت دراسة عن ظاهرة التغيير والحذف لدى مظفر النواب وسعدي يوسف ، ونشرت في مجلة صدرت في غزة .
قصيدة " امرؤ القيس "
لمحمود درويش " يوميات جرح فلسطيني " .
بيننا .. أفق ودخان ورمال
وعصور أرهقت ذاكرتي
وملايين أغان ، وبحار وجبال
وتناديني : تعال ؟! ..
...
ليس لي قصر ، وما عرش أبي
غير فأس خشبية
لا اغني مثلما غنيت تحت الكوكب
للخيول العربية
وتناديني: تعال ؟!..
ليس لي حان ولا عشر حسان
قدحي خال كجيبي ، والنساء
في زماني لا تحب الشعر اء ،
إنني أدفع عن رأسي بطش الصولجان
وتناديني تعال !...
وقفة الأطلال يا شاعرها
رمدتني فتلفت إليك
و تحسست يديك :
أعطني من زادك الباقي ، لعلي
أقطع الليل على أطلال داري
ورماد النار في موقد أهلي
والخوابي والجرار
.....
لا تسلني
كيف يضحي الكوخ قصرا
ونعيما ، حين يهدم !..
كل ما عندي إله .. حين أحرم
...
يا أميري ! نحن لا نطلب من أفق سوانا
مطرا ، يروي ثرانا
عبثا نمشي ، ونمشي عبثا
يومنا خمر ونرد ..
وغد الخمر ..ندم
وغد النرد .. سام
...
وقفة الأطلال يا شاعرها
في بلادي .. في زماني !
أي عار ترتدي هذي الأغاني
عندما تهدى إلى أطلال بئر .. وأوان
...
لا علينا صانع الأطلال فان ،
وأنا أبقى ، وأهلي ، والأغاني
- مقال الأحد ٢٠ / ٣ / ٢٠٢٢ في الأيام الفلسطينية
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/3066274320292783
في فترة الحكم الأردني للضفة الغربية حتى ١٩٦٧ ، وكنت في الثالثة عشرة من عمري ، لم أكن سمعت بهذا المصطلح . كنا في المدارس نقرأ قصائد لإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود وربما لفدوى طوقان ، وكانت هذه القصائد تتمحور حول الحنين إلى الوطن السليب والإصرار على العودة إليه " سنعود " وحمل الروح على اليد والمضي بها إلى مهاوي الردى " الشهيد " أو تعاطف الفلسطيني ابن البلد مع الفلسطينية اللاجئة في يوم العيد " مع لاجئة في العيد " و " الحبشي الذبيح " : برقت له مسنونة تتلهب " وما شابه .
في تلك الفترة كنا نعيش الظلم وأحداث السموع ونصغي إلى خطابات عبد الناصر ونرى في مكتبات الرصيف روايات عالمية مترجمة لم يعد الجيل الحالي يراها أو يرى غيرها ، فقد اختفت مكتبات الرصيف في نابلس اختفاء شبه نهائي ، وإن ما زالت ظاهرة في رام الله .
حتى العام ١٩٧٢ كانت صلتنا بأدب المقاومة شبه منعدمة مع أنه علا صيته وذاع . ربما كنا نقرأ بعض قصائد الشاعر عبد اللطيف عقل الذي درسنا في المدرسة الثانوية وطلب منا أن نشتري ديوانه الثاني في مسيرته " أغاني القمة والقاع " ( ١٩٧١ ) ولم نكن نفهم منه الكثير ، ولا أعرف إن عد ، في حينه ، من شعر المقاومة .
في الجامعة الأردنية درست في السنة الأولى مع الدكتور هاشم ياغي قصيدة " محمود درويش " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " فكانت الأولى التي قادتني إلى شعره ، وكان أن عثرت في مكتبة المحتسب في عمان على " ديوان الوطن المحتل " الذي أعده يوسف الخطيب ، فاشتريته بدينار أردني وكان راتب البعثة عشرين دينارا شهريا ، وعرفني الديوان بأشعار شعراء المقاومة في الأرض المحتلة ١٩٤٨ ، وهكذا قرأت المزيد لمحمود درويش وقرأت لسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وسالم جبران وسميح صباغ . قرأت الديوان كله وحفظت منه ما راق لي .
عندما عدت في صيف ١٩٧٣ إلى نابلس صرت أبحث عن الدواوين الفردية لكل شاعر وأقتنيها ، ومن هنا بدأت حكايتي مع هذا الشعر ، بل ومع فني القصة القصيرة والرواية .
ما الذي أعادني إلى هذا الموضوع الذي ربما خضت فيه من قبل ؟
مؤخرا اتصل بي صديقي الدكتور خليل الشيخ ، وكنا زميلي دراسة بين ١٩٧٢ و١٩٧٦ ، يسألني عن قصيدة درويش " امرؤ القيس " التي كتبت عنها في كتبي ودراساتي ، وهي قصيدة لن يعثر عليها أي دارس في العالم العربي ، ما لم يقرأ طبعة الأرض المحتلة من ديوان " يوميات جرح فلسطيني " أو نسخة مصورة عنها صدرت في العالم العربي ، فقد خلت منها طبعات أعمال الشاعر الكاملة تماما . عدت إلى ملفاتي أبحث عنها ، ولما لم أجدها كتبت إلى الروائي سهيل كيوان الذي اجتهد مشكورا وصورها لي من الطبعة المذكورة للديوان . هنا اكتشفت أخطائي الكامنة في عدم احتفاظي بالطبعات الأولى من الدواوين ولذلك أسباب .
حتى العام ١٩٨٨ لم أكن مهتما بظاهرة الحذف والإضافة والتغيير التي يجريها الأدباء على نصوصهم ، وعندما قرأت طبعتي رواية محمد العدناني " في السرير " ؛ طبعة فلسطين ١٩٤٦ وطبعة حلب ١٩٥٣ ، لاحظت إجراءه تعديلات على الثانية سببها اختلاف الزمن والموقف وفسرت هذا وكتبت عنه في رسالة الدكتوراه " صورة اليهود في الأدب الفلسطيني "( ١٩٩١) ، وستقودني هذه الكتابة إلى إنجاز ثلاث دراسات بحثية عن أشعار درويش أصدرتها معا في كتاب يعد من أهم ما كتبت ، وكان سببا من أسباب قسوة الشاعر علي وعلى تتبعي مسيرته الشعرية لدرجة أنه في لقاء موثق مع طلبة الفرير في رام الله اتهمني بأنني شرطي ، فاعتبرت ذلك دعابة وواصلت قراءة أشعاره والكتابة عنها وما زلت أكتب .
ما هي أسباب عدم احتفاظي بالطبعات الأولى ؟
كلما حصلت على الأعمال الكاملة قلت في نفسي ما حاجتي للدواوين منفردة ؟ وهكذا صرت أهديها إلى أصدقاء أو مكتبات النوادي أو مكتبة الجامعة ، فبيتي صغير المساحة لا يتسع للكثير من الكتب . هذا حدث أيضا مع ديوان الحماسة لسميح القاسم بأجزائه الثلاثة . والطريف أنني عندما أخذت أكتب عن ظاهرة الحذف في أشعار الشعراء احتجت إلى الطبعات الأولى فصرت أستعير نسخي القديمة .
الطبعات الأولى للشعراء الذين سيحترفون الكتابة مهمة جدا إن أراد الدارس تطبيق المنهج التكويني في النقد متتبعا الصياغات المتعددة للقصيدة ، وهي مهمة للناقد التاريخي الذي يدرس العمل الجديد للشاعر في ضوء أعماله السابقة ، ومهمة أيضا للناقد للماركسي الذي يتتبع مسيرة الشاعر ومواقفه في أزمنة مختلفة ، إذ يتساءل عن أسباب التغيير والإضافة والحذف ، وقد استفدت شخصيا من هذه المناهج في بعض كتبي عن درويش ، واستفدت من قسم منها في دراستي عن سميح القاسم ومظفر النواب وقصيدة سعدي يوسف " إلى ياسر عرفات " .
الكتابة تطول والمساحة محدودة .
كتب ودراسات ظهرت فيها كتابتي عن قصيدة درويش " امرؤ القيس " :
- أرض القصيدة : جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره ( دار الزاهرة ، رام الله ٢٠٠١ ) الفصل الذي عنوانه " سؤال السلالة " .
- جدل الشعر والسياسة والذائقة ، دراسة في ظاهرة الحذف والإضافة وااتغيير في شعر محمود درويش ( نابلس ، ٢٠١٢ ) يضم الكتاب ثلاث دراسات نشرت في ١٩٩٥ و ١٩٩٧ و٢٠٠٠ .
- محمود درويش وامرؤ القيس وأبو تمام والمتنبي وأبو فراس الحمداني ، دراسة مطولة نشرت معا في مواقع إلكترونية بعد نشرها منفصلة وعلى حلقات .
- كتبت دراسة عنوانها " سميح القاسم والقصائد المحذوفة " لمؤتمر " الأدب الفلسطيني في الجليل " الذي عقدته جامعة بيت لحم في ٢٠٠٦ ، وظهرت في كتاب المؤتمر .
- كتبت دراسة عن ظاهرة التغيير والحذف لدى مظفر النواب وسعدي يوسف ، ونشرت في مجلة صدرت في غزة .
قصيدة " امرؤ القيس "
لمحمود درويش " يوميات جرح فلسطيني " .
بيننا .. أفق ودخان ورمال
وعصور أرهقت ذاكرتي
وملايين أغان ، وبحار وجبال
وتناديني : تعال ؟! ..
...
ليس لي قصر ، وما عرش أبي
غير فأس خشبية
لا اغني مثلما غنيت تحت الكوكب
للخيول العربية
وتناديني: تعال ؟!..
ليس لي حان ولا عشر حسان
قدحي خال كجيبي ، والنساء
في زماني لا تحب الشعر اء ،
إنني أدفع عن رأسي بطش الصولجان
وتناديني تعال !...
وقفة الأطلال يا شاعرها
رمدتني فتلفت إليك
و تحسست يديك :
أعطني من زادك الباقي ، لعلي
أقطع الليل على أطلال داري
ورماد النار في موقد أهلي
والخوابي والجرار
.....
لا تسلني
كيف يضحي الكوخ قصرا
ونعيما ، حين يهدم !..
كل ما عندي إله .. حين أحرم
...
يا أميري ! نحن لا نطلب من أفق سوانا
مطرا ، يروي ثرانا
عبثا نمشي ، ونمشي عبثا
يومنا خمر ونرد ..
وغد الخمر ..ندم
وغد النرد .. سام
...
وقفة الأطلال يا شاعرها
في بلادي .. في زماني !
أي عار ترتدي هذي الأغاني
عندما تهدى إلى أطلال بئر .. وأوان
...
لا علينا صانع الأطلال فان ،
وأنا أبقى ، وأهلي ، والأغاني
- مقال الأحد ٢٠ / ٣ / ٢٠٢٢ في الأيام الفلسطينية
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/3066274320292783