الملخص:
يعد الخطاب ما بعد الكولونيالي مشروعا ثقافيا وتيارا إيديولوجيا مقاوما يهدف إلى تقويض كل التراتبات الطبقية التي أسست لثنائيات ضدية جائرة سعيا لخلق عالم وجهه الاختلاف والتعدد، ومن ثم رد الاعتبار لكل الهوامش والحواف بوصفها هويات قابلة للانوجاد، من خلال أهم رموزه وهو الأنتيلي فرانز فانون الذي أصّل لفلسفة التحرر و التمرد على الفعل الاستعماري حين اعتبره فعلا جنونيا؛ إذ لا يمكن لحضارة تدعي الحكمة والعقلانية أن تقوم بهذه الأفعال الوحشية وتكشف عنها أهم مؤلفاته: معذبو الأرض، بشرة سوداء أقنعة بيضاء التي ظهر فيها بمظهر الناقم على الاستعمار و بمظهر الساخط على الشعوب المضطهدة التي ارتضت بحالها فغابت فيها شرارة الثورة والتمرد، وتكمن جدة الطرح الفانوني أنه حارب على عدة جبهات نضالية سياسية وفكرية ونفسية حين التزم بسيكولوجية الإنسان المقهور؛أي أنه حلل نتائج العنف المولّد للتوترات العقلية التي خلفتها السياسة الاستعمارية على مستعمراتها كالعصاب و الرهاب المفرط وعقد النقص والتبعية والحرمان باعتباره طبيب مختص في الأمراض النفسية والعقلية.
مقدمة:
جاءت ما بعد الحداثة كرد فعل على تيار الحداثة خاصة في اتهامها بالتحيز والتشيُّع لجنس دون آخر واتهامها بالمركزية حين جعلت الغرب مركزا وقطبا تحوم حوله الهوامش على سبيل الاستكانة والخضوع،وكان نتاج هذه الظروف ظهور عدة نظريات من بينها النظرية ما بعد الكولونيالية وهي من أهم إفرازات ما بعد الحداثة التي وضعت كل منجزات الحداثة على محك النقد والمساءلة فكان هدفها هو إعادة الاعتبار للهويات الموازية من خلال الاهتمام بكل ما هو”مهمش و قابع على حواف التحقير وتوضيح أنه لا وجود لثقافة نخبوية في مقابل أخرى دونية، وهذا ما يؤكد الاحتفاء بالتعدد والتحول وإلغاء الفواصل بين الثنائيات الضدية والتي أدانتها ووجدت فيها سببا للقمع والإرهاب والاستبعاد، مما جعل اهتمامها ينصب على المبتذل واليومي والسطحي، لتقويض التراتبات ولإعادة الاعتبار للعرضي والمفارقة واللغة اليومية سعيا لخلق عالم وجهه التعدد.”[1]
وبما أن ما بعد الكولونيالية هي من أهم اتجاهات ما بعد الحداثة فقد تبنى الفرع أطروحة الأصل، فاتجهت إلى رد الاعتبار للثقافات المهمشة التي تأثرت بالعملية الكولونيالية وكشف تجلياتها الامبريالية، ويعد فرانز فانون(Frantz Fanon) من أهم رموز هذه النظرية وتكشف عن توجهاته مؤلفاته الكثيرة كمعذبو الأرض وبشرة سوداء أقنعة بيضاء التي طرح فيها أبرز القضايا التي هي من صميم الخطاب الكولونيالي، فأرسى فانون دعائم هذه النظرية وهو يحاول التأصيل لفلسفة التحرر و التمرد على كل عمليات الهيمنة من هنا يطرح البحث إشكاليته الرئيسية وهي ما هي أهم الطروحات الفكرية التي وظفها فانون في نقده للخطاب الكولونيالي؟ وقد اقتضت طبيعة البحث التحليل والوصف للوصول إلى الأهداف المرجوة التي طرحتها الإشكالية وانطلاقا من ذلك جاءت الدراسة موزعة على عدة محاور متمثلة في: الغرب وإرادة الهيمنة، ما بعد الكولونيالية كخطاب مضاد، فرانز فانون يفكك الشرط الكولونيالي وما تضمنه هذه المحاور من عناوين فرعية.
1.الغرب وإرادة القوة والهيمنة:
بين النحن والآخر علاقة أزلية لكنها علاقة تحكمها في الغالب ثنائيات من قبيل المركز والهامش، العقل والعاطفة، هذه الثنائيات هي في الغالب نتاج تمثلات وأحكام خيالية ليس لها أي مبدأ عقلاني ومنطقي مبرر كان هدفها إبقاء الشرق تحت سيطرة الغرب لأن “إرادة الهيمنة مسوغها هو الرغبة في التفوق وضرورة أن يكون هنالك غالب ومغلوب، أو متفوق ومتخلف، فكل حضارة راقية تنشئ علاقة تراتبية أو هرمية تستعبد من خلالها ما عاداها من الثقافات المهمشة لتنفرد بالتفوق والقوة في تجلياتها السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية، فمن طبع المتفوق أن يحافظ على تفوقه وتقدمه المادي والفكري، ومن طبعه أيضا أن يتمركز لتحوم حوله الهوامش الثقافية على سبيل الإذعان والاعتراف بالشوكة والعظمة، وأن يبسط سيطرته على جميع الأطراف التي يتحكم فيها أو يصبو إلى امتلاكها.”[2]
وفي استعارة لا تخلو من اختزال تكثيفي يمكن تفسير علاقة الأنا بالآخر”عبر علاقة اللون بالظل، والكلام بالصمت، ففي العلاقتين معا تلازم إشكالي، فلا بزوغ للون بغياب الظلال، كما أن لا أثر لكلام بلا فجوة صمت، بالطبع ثمة إيحاء دائم بانعدام التكافؤ، وتأكيد للهيمنة، وتصريح بالتعلق، والعطف الجدلي إن كان في بيان الماهية، أو اشتغال الوظائف، أو إنفاذ المقاصد.”[3]و مما لا شك أن هذه الاستعارة التمثيلية هي تجسيد لارتباط الغرب باللون والكلام والحضور أما الشرق فيقترن بالظل والصمت والغياب، إن هذه المتقابلات تكرس لسلطة غربية متمركزة يحوم حولها الشرق على سبيل الاندماج أو التماهي والاعتراف والولاء والإذعان.
إن ما سبق يحيلنا إلى جبهتين متعارضين الغرب الذي اعتبر نفسه مركز الكون وإشعاعه واصما الشرق بكل موجبات الهمجية والبدائية والوضاعة، لذلك بسط نفوذه العسكري عليه تحت مبررات ومقولات سعى لترويجها مثل مقولة التقدم و الرسالة الحضارية لكن هذا الخطاب الكولونيالي يضمر وراءه منافع وغايات”من أجل الاستحواذ على الثروات والخيرات،وإن كانت قد تلبست بتبريرات تحديثية للثقافات أو المجتمعات الدنيا أو ما يسمى في لغة لوسيان ليفي برول Lucien Levi-Bruhl)) المجتمعات البدائية غير الرشيدة.”[4]
ولا يمكن لأي باحث في النظرية ما بعد الكولونيالية أن ينكر أفضال الناقد الأمريكي من الأصول الفلسطينية إدوارد سعيد(Edward said) باعتباره قطب من أقطابها بالإضافة إلى هومي بابا (Homi Bhabha)وغياتري سبيفاك(Gayatri Spivak)الثالوث المقدس للنظرية ما بعد الكولونيالية بتعبير يونغ (Jung)،ويعد إدوارد سعيد واضع اللبنات الأولى لها من خلال كتابه الاستشراق(orientalism) والذي بيّن فيه”أنه ليس ثمة شكل أو نشاط عقلي أو ثقافي بريء الصلة الوثيقة بتراتب القوة، الأمر الذي يكشف عن أشكال التواطؤ بين أشكال التمثيل الأدبي والقوة الكولونيالية، ويوضح أن كل فرع من فروع العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس ذا صلة وثيقة بالهيمنة السياسية لأوروبا من خلال الغزو الاستعماري والسيطرة فحسب؛بل هو جزء لا يتجزأ منها.”[5]
لقد أورد إدوارد سعيد في مؤلفاته نماذج عن الصور النمطية التي اختزل فيها الغرب الشرق”بطريقة تستبعد هويته وتطمس حقيقته حيث يصبح معه الشرق صنعا غربيا يتم إدراكه بوصفه عالما عجائبيا ومكونا تتجمع فيه الذكريات و الغرائبية وكل ما هو استثنائي مما يتيح لفكرة التراتب والتمايز أن تظهر بين شرق وغرب.”[6] فالغرب هو عالم الاختراعات والفكر والمعرفة والرجل الغربي فيه عقلي، منهجي، حكيم، مهذب، أما الشرق فهو عالم الغرائز والرومانسية و السحر والخرافة وموطن السندباد وألف ليلة وليلة وبالتالي تلتحم فيه الأضداد وتستحيل فيه الصفات إلى نقيضها فيكون الرجل الشرقي همجي، بربري، ساذج، بدائي …
لكن هذه الرؤية التي يتبناها الغرب تفضح خلالها العملية الاستشراقية بكاملها المحملة بالقيم الامبريالية والعنصرية القائمة على التمييز بين الشعوب على أساس الدين والعرق والجنس والثقافة، هي رؤية قاصرة و ضيقة وأحادية لأن هناك من المستشرقين من اعترف بالحضارة الشرقية حين تعامل معها تعاملا موضوعيا وعلميا نزيها فالخطاب الاستشراقي”لا يعني التطابق مع الشرق لأن الشرق أكبر بكثير من الاستشراق والدليل على ذلك تحيّر الكثير من الرحالة الغربيين من المفارقة التي يجدونها واقعيا في الشرق وبين السجل الاستشراقي.”[7]
وقد أكد إدوارد سعيد بأن الاستشراق أداة معرفية وظفها الغرب ليحكم سيطرته على الشرق، وقد غلّف نوازع سيطرته تلك بغلاف الرسالة الحضارية مثلما هو شائع عند الغرب والعرب على حد سواء، أن الحملة النابليونية هي حملة حضارية بامتياز”استطاعت أن تمد شرايين التحضر إلى العرب عبر بوابة مصر وتضخ في أوديتهم وخرابهم دماء الحضارة الإنسانية التي يجب ألا تكون ألا بنموذج غربي لكن إدوارد سعيد يراها عملا كولونياليا بامتياز وخبثا استشراقيا بكل معانيه.”[8]
إن هذه الدوال تنبئ باقتناع راسخ لدى الغربي بالشعور بالعظمة والتفوق واعتبار الآخر مجرد شبح بات يهدد أمنه وكيانه، لذلك لا يتردد في نعته بنعوت التوحش والشيطنة و الشبقية والعنف”هذه المقولات و النعوتات تبين إلى أي حد لا تزال السياسة العاصرة في عصرها الحجري ولم ترتق بعد إلى قراءة الأسباب وفهم المعضلات ولا يزال الفكر السياسي، نظريا وعلميا سجين الرؤية المانوية أو المقاربة الازدواجية التي تفصل بين عالمين، أحدهما أدنى ومتخلف والآخر أعلى ومتحضر.”[9]
2.ما بعد الكولونيالية كخطاب مضاد:
إن الظلم التاريخي والسياسي والفكري والثقافي الذي مارسه الغرب على الشعوب الأخرى ولد ردة فعل قوية في الأوساط التي كانت ميدانا لهذا الظلم، لذلك سعت جاهدة إلى الفكاك من قبضة الاستعمار بشتى الطرق العسكرية منها والسياسية إلى جانب حركات فكرية ثقافية، قادها نقاد ومفكرون من العالم المستعمَر أخذت على عاتقها مهمة نقد الخطاب الامبريالي لاستعادة ذواتها المفقودة ولملمة شتاتها، من هذا المنطلق ارتسم ميلاد حقل جديد هو حقل ما بعد الكولونيالية والذي يعنى بمساءلة الخطابات الكولونيالية وتفكيك كل أشكال الهيمنة فيها.
و يمتنع مصطلح ما بعد الكولونيالية عن التعريف أين وضعت له تعريفات عديدة فهو عند جماعة أشكروفت”يشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الامبريالية منذ اللحظة الكولونيالية إلى يومنا هذا، ويرجع هذا الاستخدام إلى استمرار هذا الانشغال طوال العملية التاريخية التي بدأت بالعدوان الامبريالي الأوروبي.”[10]فهو عند هذه الجماعة يشمل المرحلة الاستعمارية وما تلاها و يهتم بالمستعمر قدر اهتمامه بالمستعمَر، و بما أن الخطاب ما بعد الكولونيالي مظهر آخر من مظاهر ما بعد الحداثة التي سعت إلى نقد الفرضيات التي قامت عليها المركزية الغربية فقد تبنى الفرع أطروحة الأصل؛ حيث حلل المقولات التي شُيّد على صرحها العقل الأوروبي وكشف تجلياتها الامبريالية المغلفة بنوازع التحضر والتمدن والمبطنة بنوايا الاستنزاف وتعميم الثقافة الغربية فهو”خطاب نقدي نشأ في عدد من مناطق العالم المستعمَر سابقا على شكل حركات وتوجهات فكرية وأخرى بحثية تستهدف نهضة الثقافات المحلية والقومية، بالإضافة إلى تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافية والمعرفية.”[11]
ويشتغل الأدب ما بعد الكولونيالي على قضية”الكتابة الرجعية(Writing back) أو إعادة الكتابة(Rewrting) أو إعادة القراءة(Rereading)…فالسرد المضاد للاحتلال يعيد تشكيل صياغة السكان المحليين على أنهم ضحايا وليس بصفتهم أعداء للمستعمَرين.”[12] فيضطلع النص الأدبي في خطاب ما بعد الكولونيالية بدور رئيس”فإذا كان الغربي يختزل الشعوب الأخرى ضمن تحديدات وفئات وأحكام محددة، تقوم على التفسير العرقي والجنسي والثقافي، فإن ذلك دفع المهيمن عليه إلى أن ينشىء خطابا مضادا يعمل على مستويين: الأول نقض ما قاله الآخر والثاني الرد بالمقاومة وضمن هذين المستويين يتحرك خطاب ما بعد الكولونيالي الأدبي، ومن النماذج الدالة على ذلك قراءات إدوارد سعيد المتبصرة لأعمال نصية غربية، روايات وكتب رحّالة ودراسات وخطابات ونصوص أرشيفية شكلت مجتمعة مفهوم الإمبراطورية ومنها على سبيل المثال روضة مانسفيلد لجين أوستن، والغريب لألبير كامي، وقلب الظلام لجوزيف كونراد.”[13]
وفي المقابل هناك خطاب مضاد اضطلع به أبناء هذه المستعمرات بكتاباتهم المناهضة للخطابات الكولونيالية ومن أهم تلك الكتابات المناوئة نذكر على سبيل المثال لا الحصر”كتاب بشرة سوداء، أقنعة بيضاءblack skins,white masksلفرانز فانون عام 1952،كتاب خطاب في الكولونياليةiscours sur le colonialisme للشاعر المارتينيكي إيمي سيزرAimé Césaire عام 1955، رواية أشياء تتداعىthings fall apart للكتاب النيجيري تشينوا أتشيبيchinua Achebe عام 1958.”[14]
هذا يعني أن دراسات ما بعد الكولونيالية معنيّة أساسا بمساءلة الخطابات الاستعمارية وكشف آلياتها وأدواتها الامبريالية التي يتم بموجبها تشكيل مخزون من الصور والكليشيهات الاستيهامية للآخر المختلف”لكي تغدو العلاقة بين الطرفين المهيمن والمهيمن عليه علاقة هرمية تراتبية يخضع لها الطرف الأدنى أي المستعمَر وفق مبدأ الامتثال، لهذا تنخرط هذه الدراسات في مهمة تقويض الأنساق القارة، فالأنساق الثبوتية مؤشر على الرتابة والخمول ويخلق أقنوما أو صنمية.”[15]
3.فرانز فانون يفكك الشرط الكولونيالي:
يأتي فرانز فانون في طليعة المثقفين المناهضين للفكر الامبريالي لذلك يشغل حيزا كبيرا في الدراسات الثقافية المعاصرة والمقاربات ما بعد الكولونيالية، التي حاول فيها نسف المخيال الامبريالي، ويكشف عن توجهه هذا دراساته المتفردة من قبيل بشرة سوداء أقنعة بيضاء، معذبو الأرض وغيرها من الأعمال التي عالج فيها بطريقة علمية ومنهجية أهم القضايا التي هي من صميم الخطاب الكولونيالي وهو يحاول تشريح هذه الظاهرة الكولونيالية وأثرها على المستعمرات.
إن القارئ لفكر فرانز فانون خلال مساره في مناهضة الاستعمار يستطيع أن يقف على ثلاث منعطفات رئيسية شكلت أهم ملامح فكره”فالمرحلة الأولى هي مرحلة البحث عن الهوية السوداء ويمثلها كتابه بشرة سوداء أقنعة بيضاء وقد كتبه في مراحله الأولى من حياته وهو في الأصل رسالته المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، لكن لجنة المناقشة رفضته بسبب موضوعه الذي فيه إدانة صريحة للجنس الأبيض وهو الكتاب الذي بحث فيه عن تأثيرات العنصرية المقيت لشخصية المغلوبين على أمرهم، فالعنصرية هي الوجه المخاتل للاستعمار، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة النضال ضد الاستعمار ويمثلها كتابه معذبو الأرض ويرى فيه فانون مشروعية العنف المسلح في سبيل التخلص من الاستعمار، أما المرحلة الأخيرة وكان فانون يؤمن أشد الإيمان بأن مرحلة البناء بعد الاستعمار صعبة للغاية لكن أولا وجب النضال من أجل الحرية كأول لبنة في هذا الصرح.”[16]
1.3.العنف سبيل للخلاص والانعتاق:
لقد آمن فانون مبكرا بفكرة العنف فما أخذ بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بالقوة لذلك فإن حمل السلاح وإسالة الدماء هو السبيل الأوحد للتخلص من الاستعمار؛ حيث أدرك فانون أن”نعمة المركز لا تحمل إلى سهول الأطراف إلا مطرا مسموما، ذلك أن المركزية الأوروبية المجمدة للعقل والإنسان تلحق إنسان الأطراف المتخلف بالطبيعة الصماء التي تقوضها وتنبهها الآلة الأوروبية.”[17]وبالتالي فإن شرعنة الفعل المسلح تصبح ضرورة حتمية لاسترجاع الحرية، جاء في كتاب معذبو الأرض”سواء أقلنا تحريرا وطنيا، أم نهضة قومية، أم إرجاع الأمة إلى الشعب، أم اتحادا بين الشعوب، وكيفما كانت العناوين المستعملة و المصطلحات الجديدة ،فإن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما.”[18]
من هذا المنطلق يرفض فانون لغة الحوار أو المفاوضات أو المناقشات أو المؤتمرات بين الطرفين التي لا تجدي نفعا، لأنه تيقن أن الشرط الاستعماري لغته القوة والهمجية والتعذيب وبالتالي فإن مثل هذا العنف يقتضي عنفا أكبر منه، و لأنه أدرك أن الغرب أقام العالم على ثنائية المركز والهامش أو نظام الأمريات بين السيد والعبد كما في فلسفة هيغل ليبقي الشعوب المضطهدة في حالة رق وتبعية دائمة ومطلقة، لذلك لا يمكن نسف هذه الثنائيات إلا بالعنف المسلح وهو سبيل خلاص و انعتاق المقهورين.
ومن منطلق أن لكل فعل ردة فعل فحيثما توجد قوة وهيمنة توجد مقاومة فإن فانون اختار العنف، لكنه عنف منظم ومخطط وإيجابي يقول فانون: “إن محو الاستعمار الذي يستهدف تغيير نظام العالم إنما هو يبدو للعيان برنامج فوضى مطلقة ولكنه لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو زلزال طبيعي أو تفاهم ودي، عن محو الاستعمار كما نعرفه هو عملية تاريخية؛ أي أنه لا يمكن أن يفهم ولا يمكن أن يعقل ولا أن يصبح واضحا لنفسه، إلا بمقدار إدراك الحركة الصانعة للتاريخ التي تهب له شكله ومضمونه.”[19]
إن هذا العنف سيقضي على نظم الاستغلال والاضطهاد و سيحقق للمستعمَر كيانه ووجوده كإنسان له الحق في الحياة التي يحياها المستعمر وسيسقط أقنعة الرسالة الحضارية التي يتشدق بها لأنه وكما صرح سيزير”أن كل أمة تستدمر الآخر، أو حضارة تبرر الاستدمار إنما هي حضارة مريضة أصلا حضارة مصابة في أخلاقها.”[20]
لم يتوقف هذا العنف على إراقة الدماء والتصفية الجسدية بل تعداه إلى التعنيف الرمزي بشيطنة الآخر وتشويه صوره وإنكار قيمه وتاريخه وثقافته ومعتقداته لتسهل السيطرة عليه من خلال تلك”التمثيلات في خلق شرق متخيل كما يرومه الغرب لهذا سنجد بأن بداية التواطؤ بين المؤسسة الاستعمارية والمؤسسة الاستشراقية ستبدأ في القرن التاسع عشر، فالاستعمار كان يحتاج إلى خطاب يموضع الشرق كي يتحكم فيه لهذا راح يكون استراتيجيات خطابية تفرغ الآخر من محتواه الإنساني راسمة إياه وفق مبدأ الغرابة و الحيونة والعجيب لكي يحول إلى طبيعة يسهل التحكم فيه.”[21]
وقد أكد فانون أن خروج الاستعمار من الأرض ليس معناه خروجه من الذات المستعمَرة التي أحدث فيها شرخا نفسيا وجعلها تعيش الحرمان والتبعية والبدائية وكل عقد النقص لذلك فإن تصفية الاستعمار ليست تصفية مادية فقط؛ بل تصفية معنوية ونفسية وثقافية لتحرير وتطهير الذوات من كل درنات الاستعمار لذلك فهم فانون”بأن نهاية الاستعمار لا تعني نهاية الكولونيالية، فالعلاقة الموجودة بين المستعمر والمستعمَر لا تختزل في الأبعاد المادية والفضائية، لأنها تنبني على حالة نفسانية تقتضي أدوات تحليلية خاصة ومختلفة، بتعبير آخر يعد خروج الاستعمار من الأرض فقط دون خروجه من الذات بمثابة إعادة إنتاج لسيرورة كولونيالية يكتنفها الاستلاب وما يسميه فانون نفسه بالهذيان المانوي.”[22]
لكن و انطلاقا مما سبق طرحه يمكننا القول بأن العنف وسيلة مشتركة بين مجتمعات الهامش للتنديد بالاحتقار والنبذ والحرمان والظلم فهو بالنسبة لها ضرورة حتمية في ظل استحالة كل السبل السلمية ومجتمعات المركز للإبقاء على السيطرة والهيمنة من كل النواحي فالعنف إذن سبيل تنتهجه”جماعات المصالح والنفوذ ومجتمعات البؤس والعوز تستعمله الأولى في الحفاظ على هيمنتها ومكاسبها الرمزية والمادية وتستعمله الثانية في الاحتجاج والتمرد.”[23]
وقد كانت مواقف فرانز فانون ثابتة و داعمة لكل القضايا التحررية بما في ذلك القضية الجزائرية فتجند لدعمها وحارب بقلمه وفكره كل أشكال الاستعمار في كل زمان وفي كل مكان وآمن بالحرية وبالثورة ضد الدعاية الكولونيالية فنادى بالعنف الذي سيوحد”الشعب المستعمر،بينما يعتبر الاستعمار في جوهره وبحكم طبيعته تجزئة وتفريقا وأكبر عنصر لخلق الخلافات الإقليمية والطائفية، إن الاستعمار لا يكتفي بوجود التفرقة القبلية بل يدعمها ويوسعها…والعنف عندما يدخل الميدان التطبيقي يتخذ طابعا قوميا شاملا وينطوي في جوهره على محو كل تفرقة إقليمية أو قبلية…إن العنف يجعل من الإنسان المستعمر شخصا جريئا معتزا بنفسه واثقا بشخصه…إن العنف يرفع الشعب إلى مستوى الزعيم.”[24]
2.3.التحليل النفسي كآلية للكشف عن تبدد الشخصية وانفصامها:
لقد حدث الكثير لشعوب العالم الثالث مما لا يمكن تجاهله وتناسيه وهو ما جعل المفكر الأنتيلي فرانز فانون يقوض الخطابات الاستعمارية ليكشف المضمر والمتواري فيها فراح يفتح عدة جبهات نضالية”منها جبهة سياسية التزم فيها بتفكيك وتقويض العقل السياسي والنظرية الاستعمارية، ففانون يرفض رفضا جذريا كل محاولات العنصرية من جهة كما يرفض رفضا قاطعا محاولات الاحتواء والإدماج، ومنها جبهة إيبستيمولوجية و أنطولوجية اعتمد فيها على بعض التيارات الاحتجاجية الرائجة في بدايات القرن العشرين في الفكر الغربي مثل الماركسية والوجودية والسوريالية والنيتشوية هذه التيارات اتسمت بمراجعة الفكر الغربي والتشكيك في أحادية سردية للعالم والإنسان.”[25]
وتكمن جدة الطرح الفانوني في مقاربة الاستعمار من الناحية النفسية من خلال دراسته لنتائج العنف المولد للعقد والتوترات العقلية والنفسية والأمراض التي خلفتها السياسة الاستعمارية على الشعوب المستعمرة كمرض العصاب والرهاب المفرط، أي أنه التزم بسيكولوجية الإنسان المقهور باعتباره طبيب مختص في ذلك”و تبدأ حكاية هذا التفسير النفسي عندما كان فانون يعالج مرضاه في مستشفى البليدة جوانفيل سابقا؛ إذ فهم بأن الحالات العصابية التي يعاني منها مرضاه مختلفة تماما عما درسه في فرنسا، فالأدوات والطرائق والمناهج المستعملة في الطب النفسي والتحليل النفسي لا يمكن إسقاطها على مرضى المستعمرات، وأرجع ذلك إلى الشرط الكولونيالي هذا الشرط ولد حالة نفسانية خاصة ومتميزة، فحالة انحلال الشخصية وفقدان الفرد لهويته النفسانية إلى درجة فقدان الشعور بجسده وحالات الديالكتيك الموجودة بين جنون الاضطهاد عند المستعمَر وجنون الارتياب عند المستعمر، تعكس المناخ النفساني الذي تسبح فيه الذوات الكولونيالية.”[26]
يمكن أن نذكر في هذا المقام دراسته المعنونة ببشرة سوداء أقنعة بيضاء وهي بمثابة نقد ذاتي لذهنية الزنجي باعتباره جزء منها، وقد أدان فيها الرجل الأبيض الذي أسرف في تبديد الشخصية الزنجية فأنكر وجودها ونفى إنسانيتها كما وجه نقدا حادا للرجل الأسود الذي آمن بضعفه وعبوديته فغابت فيه شرارة الثورة والتمرد، وكشفت دراسته عن الخلل في الذهنية السوداء والبيضاء على حد سواء لذلك يرى في التحليل النفسي الآلية التي تمكنه من”فهم العنصرية لأنها غير عقلانية، وكل ما هو غير عقلاني يحتاج إلى استعمال آليات التحليل النفسي لفهمه واستيعابه، ولكون العنصرية تخلق اضطرابات في الشخصية المُعنصَرة وتحطم رؤى الشخص عن نفسه.”[27]
استعان فانون بنماذج كثيرة في تحليله ومنها رواية عبد الله صاجي التي أظهرت حالات الاستلاب و التماهي التي وقعت فيها المرأة الزنجية ليجد نفسه إزاء نموذجين نموذج المرأة الزنجية ونموذج المرأة المولدة:”فليس للأولى سوى إمكانية وهمّ واحد هو التبييض، أما الثانية فلا ترغب في أن تبيض وحسب بل تتجنب الارتكاس.”[28] و يستحضر فانون رسالة اعتراف ماكتار الرجل الزنجي بحبه لنيني المولدة وطلب الزواج منها، لكن نيني تعتبرها إهانة وتعد على شرفها فهذا الزنجي أبله لص سيء التربية يحتاج إلى عبرة وسوف تلقنه هذا الدرس”ستعلمه أن يكون أكثر تواضعا وأقل جسارة ستفهمه أن الجلود البيض ليست للفحامين.”[29] فرفضها لماكتار العاشق الأسود هو رفضها للونها في حد ذاته بوصفه عاهة تعمل بكل ما أوتيت من جهد على الفكاك منها لذلك لم تترك له أي فرصة للاقتراب منها، وقد طلبت تعويضا معنويا برفع القضية أمام المحكمة لمعاقبة هذا الأسود”فلا بد لمخالفة كهذه للأصول من أن تعاقب بالخصي وفي أخر المطاف سيطلب من الشرطة أن تعاقب ماكتارا لأنه إذا عاود تصرفاته المرضية القذرة سيجري تقويمه على يد السيد درو مفتش الشرطة الذي لقبه أمثاله بلقب الأبيض الشرس جدا.”[30]
فكل من المرأة الزنجية والمولدة تعيشان حالة تماهي واستلاب فهما على قطيعة مع كل ما هو أسود وفي حالة تقمص لكل ما هو أبيض، لكن المغامرة هي التي تخوضها المرأة الهجينة أو المولدة فهي ترفض أن تعود للوراء في مكانة أقل، وهي مخاطرة تحدث إذا تزوجت بماكتار الزنجي الذي يفتقد للمعايير الجمالية المتوفرة عند الرجل الأبيض كاللباقة والمهارة والخفة فالزنجي في النهاية متوحش وبربري وغامض وعجيب، يمكننا القول أن الزنجي قد وقع في حلقات الاستلاب فآمن بأنه إنسان من درجة ثانية وثالثة وأن الكمال للأبيض لذلك لا يرى حرجا في أن يذل و ويحتقر من هم من جنسه، ويمكن أن نعتبر هذه الحالة خيانة داخلية لذاته وكيانه كإنسان حر كما لا يفوتنا أن نقول بأن فانون لا ينتقد الرجل الأبيض إنما يفضح تلك العنصرية التي يمارسها الأبيض على الأسود .
3.3.المثقف صوت الهامش:
يعول فانون كما أنطونيو غرامشي(Antonio Gramsci) و غاياتري سبيفاك على المثقف الذي ينغمس في الموجة الشعبية العارمة، حتى يحسن تمثيل الأصوات المقهورة و ينتقد المثقف الانتهازي الأناني الذي تحركه دوافع المصلحة الشخصية على حساب المصلحة الجماعية وهو بتعبير فانون ابن الاستعمار المدلل لأنه تواطأ معه ضد شعبه فارتمى في أحضانه لخدمة توجهاته يقول:”المؤسف أن المثقف المستعمر ارتمى دون هوادة في أحضان الثقافة الغربية يشبه الأمر الطفل المتبنى لا يتوقف بحثه الدؤوب عن الإطار الأسري الجديد إلا عندما تتبلور في نفسيته نواة دنيا من الطمأنينة أن المثقف المستعمر سيجعل نواته الدنيا الثقافة الأوروبية لا محالة.”[31]
وفانون كمثقف آمن بالكتابة كممارسة تحررية تلتزم بقضايا الإنسان المقهور لذلك أوكل نفسه بمهمة تفكيك أطروحة المستعمر وإبطال خطاباته الإقصائية والعنصرية مع التأسيس لهوية مضادة تقف في وجهه،فجمع بين الجانب النفسي كطبيب و بين الجانب السياسي كمناضل”وراح يناهض العقل الامبريالي بإرسائه لدعائم ثقافة تعد من الهامش والمسكوت عنه،فحسب فانون لا بد لكل منظومة ثقافية مكبوتة أن تنعتق من السردية الطاغية للرواية الامبريالية وهكذا يصبح هذا الطبيب من الأوائل الداعيين إلى ما يسمى بالسردية المضادة.”[32]
لقد هيّجت أفكار فانون الكثير من الأقلام التي انبرت لتحيل طروحاته الفكرية في تشريح الظاهرة الكولونيالية وآثارها النفسية على شعوب المستعمرات فكانت أعماله قبلة للباحثين والدارسين ومحل اعتراف المفكرين وقد أورد صبحي حديدي في دراسة له بعنوان الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية بأن”إدوار سعيد جعل من فانون المدافع عن سرد التحرير المضاد الذي ينتمي إلى حقبة ما بعد الحداثة، وهومي بابا نحت من أفكار فانون معمارا نظريا لعالم ثالث ما بعد بنيوي، وعبد الرحمن جان محمد اكتشف فيه منظرا مانويا للاستعمار والنفي المطلق، أما عند سبيفاك فقد ظهر فرانز فانون في أصدق صوره وأكثرها بساطة وإقناعا: الطبيب النفسي الذي خرج من بين أبناء البلد لكي يحلل بعمق ونفاذ ما تعكسه تلك المرآة الرهيبة المعقدة: الإمبريالية الثقافية.”[33]
خاتمة:
مما سبق ذكره في هذا الفضاء البحثي الذي عنون ب:فرانز فانون ورهانات ما بعد الكولونيالية والذي قادنا إلى الوقوف عند أفكار أحد معالم النظرية ما بعد الكولونيالية ممثلا في فرانز فانون تتبين لنا جملة النتائج نجملها في النقاط التالية:
-تشكل مرحلة الكولونيالية نزعة نحو الهيمنة والسيطرة والسعي نحو خلق قوة متمركزة تحوم حولها الهوامش في تحديد لأدوار تضمن للغرب إرادة السيطرة والتحكم وتضع العالم الشرقي كعالم مضاد بطريقة تنزع إلى موضعته في حدود المهمش والتابع.
-تشكل مرحلة ما بعد الكولونيالية خطابا مضادا أو مقاما للمرحلة الكولونيالية وكشف تجلياتها واستراتيجياتها الامبريالية والاقصائية لكل الهويات الموازية كما تروم إلى رد الاعتبار لكل الهوامش والحواف باعتبارها هويات قابلة للانوجاد.
-إن صوت فانون هو حالة من حالات التمرد على عمليات التمثيل الثقافي التي تمارسها خطابات الكولونيالية لذلك قابلها بتمثيل أو خطاب مضاد يفضح فيه هذه الهيمنة الثقافية، فيرفض فانون أن يكون أسيرا لهذه الثقافة الجائرة يقول:”أنا لست عبدا للعبودية التي أفقدت آبائي إنسانيتهم.”[34]
-سعى إلى إيقاظ وعي أبناء المستعمرات حتى يتمكنوا من تجاوز واقعهم وتغيير موضعهم وشرعنة وجودهم كذات وكينونة لها الحق في الحياة داخل المنظومة الاجتماعية، ففانون يريد أن يؤسس لقناعات جديدة تغيب فيها الطبقية والعرقية والعنصرية، فحارب على عدة جبهات كمناضل سياسي وكطبيب نفساني كشف عن نتائج العنف الممارس من قبل المستعمر على المستعمَر ليدين الثقافات المتعالية المتمركزة ويرسخ لثقافة الهامش واللامفكر فيه ويؤسس لخطاب مضاد ومناهض.
-يدعو فانون المثقف لينخرط في الموجة الشعبية والممارسة الاجتماعية حتى يسمع صوت الفئات المضطهدة باعتباره ضمير الأمة والمجتمع وينتقد المثقف الانتهازي الزائف الذي كان حارسا لقيم الاستعمار سابقا والآن هو حارس لمبادئ السلطة يدافع عنها ليديم سيطرتها.
-قائمة المراجع المعتمدة:
-الكتب المترجمة:
1- بيل أشكروفت، جاريث جريفييثز، هيلين تيفين، الإمبراطورية ترد بالكتابة، آداب ما بعد الاستعمار النظرية والتطبيق، تر خيري دومة، أزمنة للنشر والتوزيع،الأردن،2005،ط1،ص11.
الكتب بالعربية:
1-بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديوكولونيالية، دار ميم للنشر، الجزائر،2018،ط1،ص19.
2- الرويلي ميجان، البازعي سعد، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي،المغرب،2002،ط3،ص160.
3- الزين محمد شوقي، الذات والآخر تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات الاختلاف، الجزائر،2012،ط1،ص9.
4- فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تر خليل أحمد خلي ،دار الفرابي،بيروت،لبنان،2004،ط1،ص59.
5- فانون فرانز، معذبوا الأرض، موفم للنشر،الجزائر،2007،دط،ص1.
6-ماجدولين شرف الدين، الفتنة والآخر أنساق الغيرية في السرد الغربي، منشورات الاختلاف،الجزائر،2012،ط1،ص17.
7-هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر عبد الله إبراهيم أنموذجا، دار نينوى للطباعة والنشر،العراق،2013،ط1،ص15.
الرسائل الجامعية:
1- كريم ياسين، آليات نقد الخطاب الاستعماري عند الناقدة غياتري سبيفاك نحو كتابة تاريخ جديد للتابع،أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف تخصص مدارس النقد المعاصر وقضاياه 2019-2020،ص78.
المجلات والدوريات:
1- ثابتي حياة، الدكتور فرانز فانون والثورة الجزائرية، مجلة المرآة للدراسات المغاربية،وهران،الجزائر،ع1،2014،ص167-168.
2-جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد مقاربة في خطابات نظرية ما بعد الاستعمار، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية،طرابلس،لبنا،العدد23،أكتوبر2016،ص75.
3-دحمور زهير، الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي، مجلة دراسات معاصرة، تيسمسيلت، الجزائر، ع2، جويلية2018، ص65.
4-عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية مفهومها، أعلامها، أطروحاتها، مجلة دراسات وأبحاث، الجلفة الجزائر،عدد18،مارس 2015،ص232.
5-مكاكي محمد، النقد الثقافي وأسئلة التمثيل المفهوم والتحديات، مجلة المدونة، البليدة، الجزائر، عدد2، جوان2021،ص1086.
المواقع الالكترونية:
1-حديدي صبحي، الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، نقلا عن مجلة الكلمة يحى بن الوليد، خطاب ما بعد الاستعمار، العدد16، أفريل2008، ص 1-2.
2-وحش رائد، بشرة سوداء أقنعة بيضاء لفرانز فانون عن كتاب لا يزال مظلوما، تاريخ النشر19/4/2020، تاريخ الاطلاع 12/12/2021،https://wwwultrasawa.comt
[1] :هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر عبد الله إبراهيم أنموذجا، دار نينوى للطباعة والنشر،العراق،2013،ط1،ص15.
[2]:الزين محمد شوقي، الذات والآخر تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات الاختلاف، الجزائر،2012،ط1،ص9.
[3]:ماجدولين شرف الدين، الفتنة والآخر أنساق الغيرية في السرد الغربي، منشورات الاختلاف،الجزائر،2012،ط1،ص17.
:الزين محمد شوقي، الذات والآخر،ص55.[4]
[5]:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد مقاربة في خطابات نظرية ما بعد الاستعمار، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية طرابلس،لبنان،العدد23،أكتوبر2016،ص75.
: هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر،ص35.[6]
[7]:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديوكولونيالية، دار ميم للنشر، الجزائر،2018،ط1،ص19.
:مكاكي محمد، النقد الثقافي وأسئلة التمثيل المفهوم والتحديات، مجلة المدونة،البليدة،الجزائر،عدد2،جوان2021،ص1086.[8]
:الزين، محمد شوقي، الذات والآخر،ص23.[9]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص14.[10]
:الرويلي ميجان، البازعي سعد، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي،المغرب،2002،ط3،ص160. [11]
[12]: عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية مفهومها، أعلامها، أطروحاتها، مجلة دراسات وأبحاث،الجلفة،الجزائر،عدد18،مارس 2015،ص232.
:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد،ص76.[13]
: عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية،ص232. [14]
:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد،ص76.[15]
[16]:بيل أشكروفت، جاريث جريفييثز، هيلين تيفين، الإمبراطورية ترد بالكتابة، آداب ما بعد الاستعمار النظرية والتطبيق، تر خيري دومة، أزمنة للنشر والتوزيع،الأردن،2005،ط1،ص11.
[17]:كريم ياسين، آليات نقد الخطاب الاستعماري عند الناقدة غياتري سبيفاك نحو كتابة تاريخ جديد للتابع، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف تخصص مدارس النقد المعاصر وقضاياه 2019-2020،ص78.
:فانون فرانز، معذبوا الأرض، موفم للنشر،الجزائر،2007،دط،ص1.[18]
: فانون فرانز، معذبوا الأرض،ص2 [19]
[20]:دحمور زهير، الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي، مجلة دراسات معاصرة،تيسمسيلت،الجزائر،ع2،جويلية2018،ص65.
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص19.[21]
:المرجع نفسه،ص31.[22]
:الزين محمد شوقي، الذات والآخر،29.[23]
:ثابتي حياة، الدكتور فرانز فانون والثورة الجزائرية، مجلة المرآة للدراسات المغاربية،وهران،الجزائر،ع1،2014،ص167-168.[24]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص32.[25]
:المرجع نفسه،ص32.[26]
[27]:وحش رائد، بشرة سوداء أقنعة بيضاء لفرانز فانون عن كتاب لا يزال مظلوما، تاريخ النشر19/4/2020،تاريخ الاطلاع 12/12/2021،https://wwwultrasawa.comt
[28]:فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تر خليل أحمد خلي ،دار الفرابي،بيروت،لبنان،2004،ط1،ص59.
:المرجع نفسه،ص61[29]
:فرانز فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء،ص61.[30]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص41.[31]
:المرجع نفسه،ص33.[32]
[33]:حديدي صبحي، الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، نقلا عن مجلة الكلمة يحى بن الوليد، خطاب ما بعد الاستعمار،العدد16،أفريل2008،ص 1-2.
: فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء،ص244.[34]
Updated: 2022-02-24 — 10:12
سلمى أوكسل ـ جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي ـ الجزائر
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 74 الصفحة 23.
يعد الخطاب ما بعد الكولونيالي مشروعا ثقافيا وتيارا إيديولوجيا مقاوما يهدف إلى تقويض كل التراتبات الطبقية التي أسست لثنائيات ضدية جائرة سعيا لخلق عالم وجهه الاختلاف والتعدد، ومن ثم رد الاعتبار لكل الهوامش والحواف بوصفها هويات قابلة للانوجاد، من خلال أهم رموزه وهو الأنتيلي فرانز فانون الذي أصّل لفلسفة التحرر و التمرد على الفعل الاستعماري حين اعتبره فعلا جنونيا؛ إذ لا يمكن لحضارة تدعي الحكمة والعقلانية أن تقوم بهذه الأفعال الوحشية وتكشف عنها أهم مؤلفاته: معذبو الأرض، بشرة سوداء أقنعة بيضاء التي ظهر فيها بمظهر الناقم على الاستعمار و بمظهر الساخط على الشعوب المضطهدة التي ارتضت بحالها فغابت فيها شرارة الثورة والتمرد، وتكمن جدة الطرح الفانوني أنه حارب على عدة جبهات نضالية سياسية وفكرية ونفسية حين التزم بسيكولوجية الإنسان المقهور؛أي أنه حلل نتائج العنف المولّد للتوترات العقلية التي خلفتها السياسة الاستعمارية على مستعمراتها كالعصاب و الرهاب المفرط وعقد النقص والتبعية والحرمان باعتباره طبيب مختص في الأمراض النفسية والعقلية.
مقدمة:
جاءت ما بعد الحداثة كرد فعل على تيار الحداثة خاصة في اتهامها بالتحيز والتشيُّع لجنس دون آخر واتهامها بالمركزية حين جعلت الغرب مركزا وقطبا تحوم حوله الهوامش على سبيل الاستكانة والخضوع،وكان نتاج هذه الظروف ظهور عدة نظريات من بينها النظرية ما بعد الكولونيالية وهي من أهم إفرازات ما بعد الحداثة التي وضعت كل منجزات الحداثة على محك النقد والمساءلة فكان هدفها هو إعادة الاعتبار للهويات الموازية من خلال الاهتمام بكل ما هو”مهمش و قابع على حواف التحقير وتوضيح أنه لا وجود لثقافة نخبوية في مقابل أخرى دونية، وهذا ما يؤكد الاحتفاء بالتعدد والتحول وإلغاء الفواصل بين الثنائيات الضدية والتي أدانتها ووجدت فيها سببا للقمع والإرهاب والاستبعاد، مما جعل اهتمامها ينصب على المبتذل واليومي والسطحي، لتقويض التراتبات ولإعادة الاعتبار للعرضي والمفارقة واللغة اليومية سعيا لخلق عالم وجهه التعدد.”[1]
وبما أن ما بعد الكولونيالية هي من أهم اتجاهات ما بعد الحداثة فقد تبنى الفرع أطروحة الأصل، فاتجهت إلى رد الاعتبار للثقافات المهمشة التي تأثرت بالعملية الكولونيالية وكشف تجلياتها الامبريالية، ويعد فرانز فانون(Frantz Fanon) من أهم رموز هذه النظرية وتكشف عن توجهاته مؤلفاته الكثيرة كمعذبو الأرض وبشرة سوداء أقنعة بيضاء التي طرح فيها أبرز القضايا التي هي من صميم الخطاب الكولونيالي، فأرسى فانون دعائم هذه النظرية وهو يحاول التأصيل لفلسفة التحرر و التمرد على كل عمليات الهيمنة من هنا يطرح البحث إشكاليته الرئيسية وهي ما هي أهم الطروحات الفكرية التي وظفها فانون في نقده للخطاب الكولونيالي؟ وقد اقتضت طبيعة البحث التحليل والوصف للوصول إلى الأهداف المرجوة التي طرحتها الإشكالية وانطلاقا من ذلك جاءت الدراسة موزعة على عدة محاور متمثلة في: الغرب وإرادة الهيمنة، ما بعد الكولونيالية كخطاب مضاد، فرانز فانون يفكك الشرط الكولونيالي وما تضمنه هذه المحاور من عناوين فرعية.
1.الغرب وإرادة القوة والهيمنة:
بين النحن والآخر علاقة أزلية لكنها علاقة تحكمها في الغالب ثنائيات من قبيل المركز والهامش، العقل والعاطفة، هذه الثنائيات هي في الغالب نتاج تمثلات وأحكام خيالية ليس لها أي مبدأ عقلاني ومنطقي مبرر كان هدفها إبقاء الشرق تحت سيطرة الغرب لأن “إرادة الهيمنة مسوغها هو الرغبة في التفوق وضرورة أن يكون هنالك غالب ومغلوب، أو متفوق ومتخلف، فكل حضارة راقية تنشئ علاقة تراتبية أو هرمية تستعبد من خلالها ما عاداها من الثقافات المهمشة لتنفرد بالتفوق والقوة في تجلياتها السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية، فمن طبع المتفوق أن يحافظ على تفوقه وتقدمه المادي والفكري، ومن طبعه أيضا أن يتمركز لتحوم حوله الهوامش الثقافية على سبيل الإذعان والاعتراف بالشوكة والعظمة، وأن يبسط سيطرته على جميع الأطراف التي يتحكم فيها أو يصبو إلى امتلاكها.”[2]
وفي استعارة لا تخلو من اختزال تكثيفي يمكن تفسير علاقة الأنا بالآخر”عبر علاقة اللون بالظل، والكلام بالصمت، ففي العلاقتين معا تلازم إشكالي، فلا بزوغ للون بغياب الظلال، كما أن لا أثر لكلام بلا فجوة صمت، بالطبع ثمة إيحاء دائم بانعدام التكافؤ، وتأكيد للهيمنة، وتصريح بالتعلق، والعطف الجدلي إن كان في بيان الماهية، أو اشتغال الوظائف، أو إنفاذ المقاصد.”[3]و مما لا شك أن هذه الاستعارة التمثيلية هي تجسيد لارتباط الغرب باللون والكلام والحضور أما الشرق فيقترن بالظل والصمت والغياب، إن هذه المتقابلات تكرس لسلطة غربية متمركزة يحوم حولها الشرق على سبيل الاندماج أو التماهي والاعتراف والولاء والإذعان.
إن ما سبق يحيلنا إلى جبهتين متعارضين الغرب الذي اعتبر نفسه مركز الكون وإشعاعه واصما الشرق بكل موجبات الهمجية والبدائية والوضاعة، لذلك بسط نفوذه العسكري عليه تحت مبررات ومقولات سعى لترويجها مثل مقولة التقدم و الرسالة الحضارية لكن هذا الخطاب الكولونيالي يضمر وراءه منافع وغايات”من أجل الاستحواذ على الثروات والخيرات،وإن كانت قد تلبست بتبريرات تحديثية للثقافات أو المجتمعات الدنيا أو ما يسمى في لغة لوسيان ليفي برول Lucien Levi-Bruhl)) المجتمعات البدائية غير الرشيدة.”[4]
ولا يمكن لأي باحث في النظرية ما بعد الكولونيالية أن ينكر أفضال الناقد الأمريكي من الأصول الفلسطينية إدوارد سعيد(Edward said) باعتباره قطب من أقطابها بالإضافة إلى هومي بابا (Homi Bhabha)وغياتري سبيفاك(Gayatri Spivak)الثالوث المقدس للنظرية ما بعد الكولونيالية بتعبير يونغ (Jung)،ويعد إدوارد سعيد واضع اللبنات الأولى لها من خلال كتابه الاستشراق(orientalism) والذي بيّن فيه”أنه ليس ثمة شكل أو نشاط عقلي أو ثقافي بريء الصلة الوثيقة بتراتب القوة، الأمر الذي يكشف عن أشكال التواطؤ بين أشكال التمثيل الأدبي والقوة الكولونيالية، ويوضح أن كل فرع من فروع العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس ذا صلة وثيقة بالهيمنة السياسية لأوروبا من خلال الغزو الاستعماري والسيطرة فحسب؛بل هو جزء لا يتجزأ منها.”[5]
لقد أورد إدوارد سعيد في مؤلفاته نماذج عن الصور النمطية التي اختزل فيها الغرب الشرق”بطريقة تستبعد هويته وتطمس حقيقته حيث يصبح معه الشرق صنعا غربيا يتم إدراكه بوصفه عالما عجائبيا ومكونا تتجمع فيه الذكريات و الغرائبية وكل ما هو استثنائي مما يتيح لفكرة التراتب والتمايز أن تظهر بين شرق وغرب.”[6] فالغرب هو عالم الاختراعات والفكر والمعرفة والرجل الغربي فيه عقلي، منهجي، حكيم، مهذب، أما الشرق فهو عالم الغرائز والرومانسية و السحر والخرافة وموطن السندباد وألف ليلة وليلة وبالتالي تلتحم فيه الأضداد وتستحيل فيه الصفات إلى نقيضها فيكون الرجل الشرقي همجي، بربري، ساذج، بدائي …
لكن هذه الرؤية التي يتبناها الغرب تفضح خلالها العملية الاستشراقية بكاملها المحملة بالقيم الامبريالية والعنصرية القائمة على التمييز بين الشعوب على أساس الدين والعرق والجنس والثقافة، هي رؤية قاصرة و ضيقة وأحادية لأن هناك من المستشرقين من اعترف بالحضارة الشرقية حين تعامل معها تعاملا موضوعيا وعلميا نزيها فالخطاب الاستشراقي”لا يعني التطابق مع الشرق لأن الشرق أكبر بكثير من الاستشراق والدليل على ذلك تحيّر الكثير من الرحالة الغربيين من المفارقة التي يجدونها واقعيا في الشرق وبين السجل الاستشراقي.”[7]
وقد أكد إدوارد سعيد بأن الاستشراق أداة معرفية وظفها الغرب ليحكم سيطرته على الشرق، وقد غلّف نوازع سيطرته تلك بغلاف الرسالة الحضارية مثلما هو شائع عند الغرب والعرب على حد سواء، أن الحملة النابليونية هي حملة حضارية بامتياز”استطاعت أن تمد شرايين التحضر إلى العرب عبر بوابة مصر وتضخ في أوديتهم وخرابهم دماء الحضارة الإنسانية التي يجب ألا تكون ألا بنموذج غربي لكن إدوارد سعيد يراها عملا كولونياليا بامتياز وخبثا استشراقيا بكل معانيه.”[8]
إن هذه الدوال تنبئ باقتناع راسخ لدى الغربي بالشعور بالعظمة والتفوق واعتبار الآخر مجرد شبح بات يهدد أمنه وكيانه، لذلك لا يتردد في نعته بنعوت التوحش والشيطنة و الشبقية والعنف”هذه المقولات و النعوتات تبين إلى أي حد لا تزال السياسة العاصرة في عصرها الحجري ولم ترتق بعد إلى قراءة الأسباب وفهم المعضلات ولا يزال الفكر السياسي، نظريا وعلميا سجين الرؤية المانوية أو المقاربة الازدواجية التي تفصل بين عالمين، أحدهما أدنى ومتخلف والآخر أعلى ومتحضر.”[9]
2.ما بعد الكولونيالية كخطاب مضاد:
إن الظلم التاريخي والسياسي والفكري والثقافي الذي مارسه الغرب على الشعوب الأخرى ولد ردة فعل قوية في الأوساط التي كانت ميدانا لهذا الظلم، لذلك سعت جاهدة إلى الفكاك من قبضة الاستعمار بشتى الطرق العسكرية منها والسياسية إلى جانب حركات فكرية ثقافية، قادها نقاد ومفكرون من العالم المستعمَر أخذت على عاتقها مهمة نقد الخطاب الامبريالي لاستعادة ذواتها المفقودة ولملمة شتاتها، من هذا المنطلق ارتسم ميلاد حقل جديد هو حقل ما بعد الكولونيالية والذي يعنى بمساءلة الخطابات الكولونيالية وتفكيك كل أشكال الهيمنة فيها.
و يمتنع مصطلح ما بعد الكولونيالية عن التعريف أين وضعت له تعريفات عديدة فهو عند جماعة أشكروفت”يشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الامبريالية منذ اللحظة الكولونيالية إلى يومنا هذا، ويرجع هذا الاستخدام إلى استمرار هذا الانشغال طوال العملية التاريخية التي بدأت بالعدوان الامبريالي الأوروبي.”[10]فهو عند هذه الجماعة يشمل المرحلة الاستعمارية وما تلاها و يهتم بالمستعمر قدر اهتمامه بالمستعمَر، و بما أن الخطاب ما بعد الكولونيالي مظهر آخر من مظاهر ما بعد الحداثة التي سعت إلى نقد الفرضيات التي قامت عليها المركزية الغربية فقد تبنى الفرع أطروحة الأصل؛ حيث حلل المقولات التي شُيّد على صرحها العقل الأوروبي وكشف تجلياتها الامبريالية المغلفة بنوازع التحضر والتمدن والمبطنة بنوايا الاستنزاف وتعميم الثقافة الغربية فهو”خطاب نقدي نشأ في عدد من مناطق العالم المستعمَر سابقا على شكل حركات وتوجهات فكرية وأخرى بحثية تستهدف نهضة الثقافات المحلية والقومية، بالإضافة إلى تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافية والمعرفية.”[11]
ويشتغل الأدب ما بعد الكولونيالي على قضية”الكتابة الرجعية(Writing back) أو إعادة الكتابة(Rewrting) أو إعادة القراءة(Rereading)…فالسرد المضاد للاحتلال يعيد تشكيل صياغة السكان المحليين على أنهم ضحايا وليس بصفتهم أعداء للمستعمَرين.”[12] فيضطلع النص الأدبي في خطاب ما بعد الكولونيالية بدور رئيس”فإذا كان الغربي يختزل الشعوب الأخرى ضمن تحديدات وفئات وأحكام محددة، تقوم على التفسير العرقي والجنسي والثقافي، فإن ذلك دفع المهيمن عليه إلى أن ينشىء خطابا مضادا يعمل على مستويين: الأول نقض ما قاله الآخر والثاني الرد بالمقاومة وضمن هذين المستويين يتحرك خطاب ما بعد الكولونيالي الأدبي، ومن النماذج الدالة على ذلك قراءات إدوارد سعيد المتبصرة لأعمال نصية غربية، روايات وكتب رحّالة ودراسات وخطابات ونصوص أرشيفية شكلت مجتمعة مفهوم الإمبراطورية ومنها على سبيل المثال روضة مانسفيلد لجين أوستن، والغريب لألبير كامي، وقلب الظلام لجوزيف كونراد.”[13]
وفي المقابل هناك خطاب مضاد اضطلع به أبناء هذه المستعمرات بكتاباتهم المناهضة للخطابات الكولونيالية ومن أهم تلك الكتابات المناوئة نذكر على سبيل المثال لا الحصر”كتاب بشرة سوداء، أقنعة بيضاءblack skins,white masksلفرانز فانون عام 1952،كتاب خطاب في الكولونياليةiscours sur le colonialisme للشاعر المارتينيكي إيمي سيزرAimé Césaire عام 1955، رواية أشياء تتداعىthings fall apart للكتاب النيجيري تشينوا أتشيبيchinua Achebe عام 1958.”[14]
هذا يعني أن دراسات ما بعد الكولونيالية معنيّة أساسا بمساءلة الخطابات الاستعمارية وكشف آلياتها وأدواتها الامبريالية التي يتم بموجبها تشكيل مخزون من الصور والكليشيهات الاستيهامية للآخر المختلف”لكي تغدو العلاقة بين الطرفين المهيمن والمهيمن عليه علاقة هرمية تراتبية يخضع لها الطرف الأدنى أي المستعمَر وفق مبدأ الامتثال، لهذا تنخرط هذه الدراسات في مهمة تقويض الأنساق القارة، فالأنساق الثبوتية مؤشر على الرتابة والخمول ويخلق أقنوما أو صنمية.”[15]
3.فرانز فانون يفكك الشرط الكولونيالي:
يأتي فرانز فانون في طليعة المثقفين المناهضين للفكر الامبريالي لذلك يشغل حيزا كبيرا في الدراسات الثقافية المعاصرة والمقاربات ما بعد الكولونيالية، التي حاول فيها نسف المخيال الامبريالي، ويكشف عن توجهه هذا دراساته المتفردة من قبيل بشرة سوداء أقنعة بيضاء، معذبو الأرض وغيرها من الأعمال التي عالج فيها بطريقة علمية ومنهجية أهم القضايا التي هي من صميم الخطاب الكولونيالي وهو يحاول تشريح هذه الظاهرة الكولونيالية وأثرها على المستعمرات.
إن القارئ لفكر فرانز فانون خلال مساره في مناهضة الاستعمار يستطيع أن يقف على ثلاث منعطفات رئيسية شكلت أهم ملامح فكره”فالمرحلة الأولى هي مرحلة البحث عن الهوية السوداء ويمثلها كتابه بشرة سوداء أقنعة بيضاء وقد كتبه في مراحله الأولى من حياته وهو في الأصل رسالته المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، لكن لجنة المناقشة رفضته بسبب موضوعه الذي فيه إدانة صريحة للجنس الأبيض وهو الكتاب الذي بحث فيه عن تأثيرات العنصرية المقيت لشخصية المغلوبين على أمرهم، فالعنصرية هي الوجه المخاتل للاستعمار، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة النضال ضد الاستعمار ويمثلها كتابه معذبو الأرض ويرى فيه فانون مشروعية العنف المسلح في سبيل التخلص من الاستعمار، أما المرحلة الأخيرة وكان فانون يؤمن أشد الإيمان بأن مرحلة البناء بعد الاستعمار صعبة للغاية لكن أولا وجب النضال من أجل الحرية كأول لبنة في هذا الصرح.”[16]
1.3.العنف سبيل للخلاص والانعتاق:
لقد آمن فانون مبكرا بفكرة العنف فما أخذ بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بالقوة لذلك فإن حمل السلاح وإسالة الدماء هو السبيل الأوحد للتخلص من الاستعمار؛ حيث أدرك فانون أن”نعمة المركز لا تحمل إلى سهول الأطراف إلا مطرا مسموما، ذلك أن المركزية الأوروبية المجمدة للعقل والإنسان تلحق إنسان الأطراف المتخلف بالطبيعة الصماء التي تقوضها وتنبهها الآلة الأوروبية.”[17]وبالتالي فإن شرعنة الفعل المسلح تصبح ضرورة حتمية لاسترجاع الحرية، جاء في كتاب معذبو الأرض”سواء أقلنا تحريرا وطنيا، أم نهضة قومية، أم إرجاع الأمة إلى الشعب، أم اتحادا بين الشعوب، وكيفما كانت العناوين المستعملة و المصطلحات الجديدة ،فإن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما.”[18]
من هذا المنطلق يرفض فانون لغة الحوار أو المفاوضات أو المناقشات أو المؤتمرات بين الطرفين التي لا تجدي نفعا، لأنه تيقن أن الشرط الاستعماري لغته القوة والهمجية والتعذيب وبالتالي فإن مثل هذا العنف يقتضي عنفا أكبر منه، و لأنه أدرك أن الغرب أقام العالم على ثنائية المركز والهامش أو نظام الأمريات بين السيد والعبد كما في فلسفة هيغل ليبقي الشعوب المضطهدة في حالة رق وتبعية دائمة ومطلقة، لذلك لا يمكن نسف هذه الثنائيات إلا بالعنف المسلح وهو سبيل خلاص و انعتاق المقهورين.
ومن منطلق أن لكل فعل ردة فعل فحيثما توجد قوة وهيمنة توجد مقاومة فإن فانون اختار العنف، لكنه عنف منظم ومخطط وإيجابي يقول فانون: “إن محو الاستعمار الذي يستهدف تغيير نظام العالم إنما هو يبدو للعيان برنامج فوضى مطلقة ولكنه لا يمكن أن يكون ثمرة عملية سحرية أو زلزال طبيعي أو تفاهم ودي، عن محو الاستعمار كما نعرفه هو عملية تاريخية؛ أي أنه لا يمكن أن يفهم ولا يمكن أن يعقل ولا أن يصبح واضحا لنفسه، إلا بمقدار إدراك الحركة الصانعة للتاريخ التي تهب له شكله ومضمونه.”[19]
إن هذا العنف سيقضي على نظم الاستغلال والاضطهاد و سيحقق للمستعمَر كيانه ووجوده كإنسان له الحق في الحياة التي يحياها المستعمر وسيسقط أقنعة الرسالة الحضارية التي يتشدق بها لأنه وكما صرح سيزير”أن كل أمة تستدمر الآخر، أو حضارة تبرر الاستدمار إنما هي حضارة مريضة أصلا حضارة مصابة في أخلاقها.”[20]
لم يتوقف هذا العنف على إراقة الدماء والتصفية الجسدية بل تعداه إلى التعنيف الرمزي بشيطنة الآخر وتشويه صوره وإنكار قيمه وتاريخه وثقافته ومعتقداته لتسهل السيطرة عليه من خلال تلك”التمثيلات في خلق شرق متخيل كما يرومه الغرب لهذا سنجد بأن بداية التواطؤ بين المؤسسة الاستعمارية والمؤسسة الاستشراقية ستبدأ في القرن التاسع عشر، فالاستعمار كان يحتاج إلى خطاب يموضع الشرق كي يتحكم فيه لهذا راح يكون استراتيجيات خطابية تفرغ الآخر من محتواه الإنساني راسمة إياه وفق مبدأ الغرابة و الحيونة والعجيب لكي يحول إلى طبيعة يسهل التحكم فيه.”[21]
وقد أكد فانون أن خروج الاستعمار من الأرض ليس معناه خروجه من الذات المستعمَرة التي أحدث فيها شرخا نفسيا وجعلها تعيش الحرمان والتبعية والبدائية وكل عقد النقص لذلك فإن تصفية الاستعمار ليست تصفية مادية فقط؛ بل تصفية معنوية ونفسية وثقافية لتحرير وتطهير الذوات من كل درنات الاستعمار لذلك فهم فانون”بأن نهاية الاستعمار لا تعني نهاية الكولونيالية، فالعلاقة الموجودة بين المستعمر والمستعمَر لا تختزل في الأبعاد المادية والفضائية، لأنها تنبني على حالة نفسانية تقتضي أدوات تحليلية خاصة ومختلفة، بتعبير آخر يعد خروج الاستعمار من الأرض فقط دون خروجه من الذات بمثابة إعادة إنتاج لسيرورة كولونيالية يكتنفها الاستلاب وما يسميه فانون نفسه بالهذيان المانوي.”[22]
لكن و انطلاقا مما سبق طرحه يمكننا القول بأن العنف وسيلة مشتركة بين مجتمعات الهامش للتنديد بالاحتقار والنبذ والحرمان والظلم فهو بالنسبة لها ضرورة حتمية في ظل استحالة كل السبل السلمية ومجتمعات المركز للإبقاء على السيطرة والهيمنة من كل النواحي فالعنف إذن سبيل تنتهجه”جماعات المصالح والنفوذ ومجتمعات البؤس والعوز تستعمله الأولى في الحفاظ على هيمنتها ومكاسبها الرمزية والمادية وتستعمله الثانية في الاحتجاج والتمرد.”[23]
وقد كانت مواقف فرانز فانون ثابتة و داعمة لكل القضايا التحررية بما في ذلك القضية الجزائرية فتجند لدعمها وحارب بقلمه وفكره كل أشكال الاستعمار في كل زمان وفي كل مكان وآمن بالحرية وبالثورة ضد الدعاية الكولونيالية فنادى بالعنف الذي سيوحد”الشعب المستعمر،بينما يعتبر الاستعمار في جوهره وبحكم طبيعته تجزئة وتفريقا وأكبر عنصر لخلق الخلافات الإقليمية والطائفية، إن الاستعمار لا يكتفي بوجود التفرقة القبلية بل يدعمها ويوسعها…والعنف عندما يدخل الميدان التطبيقي يتخذ طابعا قوميا شاملا وينطوي في جوهره على محو كل تفرقة إقليمية أو قبلية…إن العنف يجعل من الإنسان المستعمر شخصا جريئا معتزا بنفسه واثقا بشخصه…إن العنف يرفع الشعب إلى مستوى الزعيم.”[24]
2.3.التحليل النفسي كآلية للكشف عن تبدد الشخصية وانفصامها:
لقد حدث الكثير لشعوب العالم الثالث مما لا يمكن تجاهله وتناسيه وهو ما جعل المفكر الأنتيلي فرانز فانون يقوض الخطابات الاستعمارية ليكشف المضمر والمتواري فيها فراح يفتح عدة جبهات نضالية”منها جبهة سياسية التزم فيها بتفكيك وتقويض العقل السياسي والنظرية الاستعمارية، ففانون يرفض رفضا جذريا كل محاولات العنصرية من جهة كما يرفض رفضا قاطعا محاولات الاحتواء والإدماج، ومنها جبهة إيبستيمولوجية و أنطولوجية اعتمد فيها على بعض التيارات الاحتجاجية الرائجة في بدايات القرن العشرين في الفكر الغربي مثل الماركسية والوجودية والسوريالية والنيتشوية هذه التيارات اتسمت بمراجعة الفكر الغربي والتشكيك في أحادية سردية للعالم والإنسان.”[25]
وتكمن جدة الطرح الفانوني في مقاربة الاستعمار من الناحية النفسية من خلال دراسته لنتائج العنف المولد للعقد والتوترات العقلية والنفسية والأمراض التي خلفتها السياسة الاستعمارية على الشعوب المستعمرة كمرض العصاب والرهاب المفرط، أي أنه التزم بسيكولوجية الإنسان المقهور باعتباره طبيب مختص في ذلك”و تبدأ حكاية هذا التفسير النفسي عندما كان فانون يعالج مرضاه في مستشفى البليدة جوانفيل سابقا؛ إذ فهم بأن الحالات العصابية التي يعاني منها مرضاه مختلفة تماما عما درسه في فرنسا، فالأدوات والطرائق والمناهج المستعملة في الطب النفسي والتحليل النفسي لا يمكن إسقاطها على مرضى المستعمرات، وأرجع ذلك إلى الشرط الكولونيالي هذا الشرط ولد حالة نفسانية خاصة ومتميزة، فحالة انحلال الشخصية وفقدان الفرد لهويته النفسانية إلى درجة فقدان الشعور بجسده وحالات الديالكتيك الموجودة بين جنون الاضطهاد عند المستعمَر وجنون الارتياب عند المستعمر، تعكس المناخ النفساني الذي تسبح فيه الذوات الكولونيالية.”[26]
يمكن أن نذكر في هذا المقام دراسته المعنونة ببشرة سوداء أقنعة بيضاء وهي بمثابة نقد ذاتي لذهنية الزنجي باعتباره جزء منها، وقد أدان فيها الرجل الأبيض الذي أسرف في تبديد الشخصية الزنجية فأنكر وجودها ونفى إنسانيتها كما وجه نقدا حادا للرجل الأسود الذي آمن بضعفه وعبوديته فغابت فيه شرارة الثورة والتمرد، وكشفت دراسته عن الخلل في الذهنية السوداء والبيضاء على حد سواء لذلك يرى في التحليل النفسي الآلية التي تمكنه من”فهم العنصرية لأنها غير عقلانية، وكل ما هو غير عقلاني يحتاج إلى استعمال آليات التحليل النفسي لفهمه واستيعابه، ولكون العنصرية تخلق اضطرابات في الشخصية المُعنصَرة وتحطم رؤى الشخص عن نفسه.”[27]
استعان فانون بنماذج كثيرة في تحليله ومنها رواية عبد الله صاجي التي أظهرت حالات الاستلاب و التماهي التي وقعت فيها المرأة الزنجية ليجد نفسه إزاء نموذجين نموذج المرأة الزنجية ونموذج المرأة المولدة:”فليس للأولى سوى إمكانية وهمّ واحد هو التبييض، أما الثانية فلا ترغب في أن تبيض وحسب بل تتجنب الارتكاس.”[28] و يستحضر فانون رسالة اعتراف ماكتار الرجل الزنجي بحبه لنيني المولدة وطلب الزواج منها، لكن نيني تعتبرها إهانة وتعد على شرفها فهذا الزنجي أبله لص سيء التربية يحتاج إلى عبرة وسوف تلقنه هذا الدرس”ستعلمه أن يكون أكثر تواضعا وأقل جسارة ستفهمه أن الجلود البيض ليست للفحامين.”[29] فرفضها لماكتار العاشق الأسود هو رفضها للونها في حد ذاته بوصفه عاهة تعمل بكل ما أوتيت من جهد على الفكاك منها لذلك لم تترك له أي فرصة للاقتراب منها، وقد طلبت تعويضا معنويا برفع القضية أمام المحكمة لمعاقبة هذا الأسود”فلا بد لمخالفة كهذه للأصول من أن تعاقب بالخصي وفي أخر المطاف سيطلب من الشرطة أن تعاقب ماكتارا لأنه إذا عاود تصرفاته المرضية القذرة سيجري تقويمه على يد السيد درو مفتش الشرطة الذي لقبه أمثاله بلقب الأبيض الشرس جدا.”[30]
فكل من المرأة الزنجية والمولدة تعيشان حالة تماهي واستلاب فهما على قطيعة مع كل ما هو أسود وفي حالة تقمص لكل ما هو أبيض، لكن المغامرة هي التي تخوضها المرأة الهجينة أو المولدة فهي ترفض أن تعود للوراء في مكانة أقل، وهي مخاطرة تحدث إذا تزوجت بماكتار الزنجي الذي يفتقد للمعايير الجمالية المتوفرة عند الرجل الأبيض كاللباقة والمهارة والخفة فالزنجي في النهاية متوحش وبربري وغامض وعجيب، يمكننا القول أن الزنجي قد وقع في حلقات الاستلاب فآمن بأنه إنسان من درجة ثانية وثالثة وأن الكمال للأبيض لذلك لا يرى حرجا في أن يذل و ويحتقر من هم من جنسه، ويمكن أن نعتبر هذه الحالة خيانة داخلية لذاته وكيانه كإنسان حر كما لا يفوتنا أن نقول بأن فانون لا ينتقد الرجل الأبيض إنما يفضح تلك العنصرية التي يمارسها الأبيض على الأسود .
3.3.المثقف صوت الهامش:
يعول فانون كما أنطونيو غرامشي(Antonio Gramsci) و غاياتري سبيفاك على المثقف الذي ينغمس في الموجة الشعبية العارمة، حتى يحسن تمثيل الأصوات المقهورة و ينتقد المثقف الانتهازي الأناني الذي تحركه دوافع المصلحة الشخصية على حساب المصلحة الجماعية وهو بتعبير فانون ابن الاستعمار المدلل لأنه تواطأ معه ضد شعبه فارتمى في أحضانه لخدمة توجهاته يقول:”المؤسف أن المثقف المستعمر ارتمى دون هوادة في أحضان الثقافة الغربية يشبه الأمر الطفل المتبنى لا يتوقف بحثه الدؤوب عن الإطار الأسري الجديد إلا عندما تتبلور في نفسيته نواة دنيا من الطمأنينة أن المثقف المستعمر سيجعل نواته الدنيا الثقافة الأوروبية لا محالة.”[31]
وفانون كمثقف آمن بالكتابة كممارسة تحررية تلتزم بقضايا الإنسان المقهور لذلك أوكل نفسه بمهمة تفكيك أطروحة المستعمر وإبطال خطاباته الإقصائية والعنصرية مع التأسيس لهوية مضادة تقف في وجهه،فجمع بين الجانب النفسي كطبيب و بين الجانب السياسي كمناضل”وراح يناهض العقل الامبريالي بإرسائه لدعائم ثقافة تعد من الهامش والمسكوت عنه،فحسب فانون لا بد لكل منظومة ثقافية مكبوتة أن تنعتق من السردية الطاغية للرواية الامبريالية وهكذا يصبح هذا الطبيب من الأوائل الداعيين إلى ما يسمى بالسردية المضادة.”[32]
لقد هيّجت أفكار فانون الكثير من الأقلام التي انبرت لتحيل طروحاته الفكرية في تشريح الظاهرة الكولونيالية وآثارها النفسية على شعوب المستعمرات فكانت أعماله قبلة للباحثين والدارسين ومحل اعتراف المفكرين وقد أورد صبحي حديدي في دراسة له بعنوان الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية بأن”إدوار سعيد جعل من فانون المدافع عن سرد التحرير المضاد الذي ينتمي إلى حقبة ما بعد الحداثة، وهومي بابا نحت من أفكار فانون معمارا نظريا لعالم ثالث ما بعد بنيوي، وعبد الرحمن جان محمد اكتشف فيه منظرا مانويا للاستعمار والنفي المطلق، أما عند سبيفاك فقد ظهر فرانز فانون في أصدق صوره وأكثرها بساطة وإقناعا: الطبيب النفسي الذي خرج من بين أبناء البلد لكي يحلل بعمق ونفاذ ما تعكسه تلك المرآة الرهيبة المعقدة: الإمبريالية الثقافية.”[33]
خاتمة:
مما سبق ذكره في هذا الفضاء البحثي الذي عنون ب:فرانز فانون ورهانات ما بعد الكولونيالية والذي قادنا إلى الوقوف عند أفكار أحد معالم النظرية ما بعد الكولونيالية ممثلا في فرانز فانون تتبين لنا جملة النتائج نجملها في النقاط التالية:
-تشكل مرحلة الكولونيالية نزعة نحو الهيمنة والسيطرة والسعي نحو خلق قوة متمركزة تحوم حولها الهوامش في تحديد لأدوار تضمن للغرب إرادة السيطرة والتحكم وتضع العالم الشرقي كعالم مضاد بطريقة تنزع إلى موضعته في حدود المهمش والتابع.
-تشكل مرحلة ما بعد الكولونيالية خطابا مضادا أو مقاما للمرحلة الكولونيالية وكشف تجلياتها واستراتيجياتها الامبريالية والاقصائية لكل الهويات الموازية كما تروم إلى رد الاعتبار لكل الهوامش والحواف باعتبارها هويات قابلة للانوجاد.
-إن صوت فانون هو حالة من حالات التمرد على عمليات التمثيل الثقافي التي تمارسها خطابات الكولونيالية لذلك قابلها بتمثيل أو خطاب مضاد يفضح فيه هذه الهيمنة الثقافية، فيرفض فانون أن يكون أسيرا لهذه الثقافة الجائرة يقول:”أنا لست عبدا للعبودية التي أفقدت آبائي إنسانيتهم.”[34]
-سعى إلى إيقاظ وعي أبناء المستعمرات حتى يتمكنوا من تجاوز واقعهم وتغيير موضعهم وشرعنة وجودهم كذات وكينونة لها الحق في الحياة داخل المنظومة الاجتماعية، ففانون يريد أن يؤسس لقناعات جديدة تغيب فيها الطبقية والعرقية والعنصرية، فحارب على عدة جبهات كمناضل سياسي وكطبيب نفساني كشف عن نتائج العنف الممارس من قبل المستعمر على المستعمَر ليدين الثقافات المتعالية المتمركزة ويرسخ لثقافة الهامش واللامفكر فيه ويؤسس لخطاب مضاد ومناهض.
-يدعو فانون المثقف لينخرط في الموجة الشعبية والممارسة الاجتماعية حتى يسمع صوت الفئات المضطهدة باعتباره ضمير الأمة والمجتمع وينتقد المثقف الانتهازي الزائف الذي كان حارسا لقيم الاستعمار سابقا والآن هو حارس لمبادئ السلطة يدافع عنها ليديم سيطرتها.
-قائمة المراجع المعتمدة:
-الكتب المترجمة:
1- بيل أشكروفت، جاريث جريفييثز، هيلين تيفين، الإمبراطورية ترد بالكتابة، آداب ما بعد الاستعمار النظرية والتطبيق، تر خيري دومة، أزمنة للنشر والتوزيع،الأردن،2005،ط1،ص11.
الكتب بالعربية:
1-بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديوكولونيالية، دار ميم للنشر، الجزائر،2018،ط1،ص19.
2- الرويلي ميجان، البازعي سعد، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي،المغرب،2002،ط3،ص160.
3- الزين محمد شوقي، الذات والآخر تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات الاختلاف، الجزائر،2012،ط1،ص9.
4- فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تر خليل أحمد خلي ،دار الفرابي،بيروت،لبنان،2004،ط1،ص59.
5- فانون فرانز، معذبوا الأرض، موفم للنشر،الجزائر،2007،دط،ص1.
6-ماجدولين شرف الدين، الفتنة والآخر أنساق الغيرية في السرد الغربي، منشورات الاختلاف،الجزائر،2012،ط1،ص17.
7-هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر عبد الله إبراهيم أنموذجا، دار نينوى للطباعة والنشر،العراق،2013،ط1،ص15.
الرسائل الجامعية:
1- كريم ياسين، آليات نقد الخطاب الاستعماري عند الناقدة غياتري سبيفاك نحو كتابة تاريخ جديد للتابع،أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف تخصص مدارس النقد المعاصر وقضاياه 2019-2020،ص78.
المجلات والدوريات:
1- ثابتي حياة، الدكتور فرانز فانون والثورة الجزائرية، مجلة المرآة للدراسات المغاربية،وهران،الجزائر،ع1،2014،ص167-168.
2-جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد مقاربة في خطابات نظرية ما بعد الاستعمار، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية،طرابلس،لبنا،العدد23،أكتوبر2016،ص75.
3-دحمور زهير، الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي، مجلة دراسات معاصرة، تيسمسيلت، الجزائر، ع2، جويلية2018، ص65.
4-عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية مفهومها، أعلامها، أطروحاتها، مجلة دراسات وأبحاث، الجلفة الجزائر،عدد18،مارس 2015،ص232.
5-مكاكي محمد، النقد الثقافي وأسئلة التمثيل المفهوم والتحديات، مجلة المدونة، البليدة، الجزائر، عدد2، جوان2021،ص1086.
المواقع الالكترونية:
1-حديدي صبحي، الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، نقلا عن مجلة الكلمة يحى بن الوليد، خطاب ما بعد الاستعمار، العدد16، أفريل2008، ص 1-2.
2-وحش رائد، بشرة سوداء أقنعة بيضاء لفرانز فانون عن كتاب لا يزال مظلوما، تاريخ النشر19/4/2020، تاريخ الاطلاع 12/12/2021،https://wwwultrasawa.comt
[1] :هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر عبد الله إبراهيم أنموذجا، دار نينوى للطباعة والنشر،العراق،2013،ط1،ص15.
[2]:الزين محمد شوقي، الذات والآخر تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع، منشورات الاختلاف، الجزائر،2012،ط1،ص9.
[3]:ماجدولين شرف الدين، الفتنة والآخر أنساق الغيرية في السرد الغربي، منشورات الاختلاف،الجزائر،2012،ط1،ص17.
:الزين محمد شوقي، الذات والآخر،ص55.[4]
[5]:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد مقاربة في خطابات نظرية ما بعد الاستعمار، مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية طرابلس،لبنان،العدد23،أكتوبر2016،ص75.
: هاشمي غزلان، تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر،ص35.[6]
[7]:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديوكولونيالية، دار ميم للنشر، الجزائر،2018،ط1،ص19.
:مكاكي محمد، النقد الثقافي وأسئلة التمثيل المفهوم والتحديات، مجلة المدونة،البليدة،الجزائر،عدد2،جوان2021،ص1086.[8]
:الزين، محمد شوقي، الذات والآخر،ص23.[9]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص14.[10]
:الرويلي ميجان، البازعي سعد، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي،المغرب،2002،ط3،ص160. [11]
[12]: عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية مفهومها، أعلامها، أطروحاتها، مجلة دراسات وأبحاث،الجلفة،الجزائر،عدد18،مارس 2015،ص232.
:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد،ص76.[13]
: عتيق مديحة، ما بعد الكولونيالية،ص232. [14]
:جاسم أسامة أحمد، المركز والهامش واستراتيجيات التفكيك المضاد،ص76.[15]
[16]:بيل أشكروفت، جاريث جريفييثز، هيلين تيفين، الإمبراطورية ترد بالكتابة، آداب ما بعد الاستعمار النظرية والتطبيق، تر خيري دومة، أزمنة للنشر والتوزيع،الأردن،2005،ط1،ص11.
[17]:كريم ياسين، آليات نقد الخطاب الاستعماري عند الناقدة غياتري سبيفاك نحو كتابة تاريخ جديد للتابع، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف تخصص مدارس النقد المعاصر وقضاياه 2019-2020،ص78.
:فانون فرانز، معذبوا الأرض، موفم للنشر،الجزائر،2007،دط،ص1.[18]
: فانون فرانز، معذبوا الأرض،ص2 [19]
[20]:دحمور زهير، الزنوجة ودورها في بعث حركة الأدب الإفريقي، مجلة دراسات معاصرة،تيسمسيلت،الجزائر،ع2،جويلية2018،ص65.
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص19.[21]
:المرجع نفسه،ص31.[22]
:الزين محمد شوقي، الذات والآخر،29.[23]
:ثابتي حياة، الدكتور فرانز فانون والثورة الجزائرية، مجلة المرآة للدراسات المغاربية،وهران،الجزائر،ع1،2014،ص167-168.[24]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص32.[25]
:المرجع نفسه،ص32.[26]
[27]:وحش رائد، بشرة سوداء أقنعة بيضاء لفرانز فانون عن كتاب لا يزال مظلوما، تاريخ النشر19/4/2020،تاريخ الاطلاع 12/12/2021،https://wwwultrasawa.comt
[28]:فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تر خليل أحمد خلي ،دار الفرابي،بيروت،لبنان،2004،ط1،ص59.
:المرجع نفسه،ص61[29]
:فرانز فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء،ص61.[30]
:بن بوعزيز وحيد، جدل الثقافة،ص41.[31]
:المرجع نفسه،ص33.[32]
[33]:حديدي صبحي، الامبريالية الثقافية، الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، نقلا عن مجلة الكلمة يحى بن الوليد، خطاب ما بعد الاستعمار،العدد16،أفريل2008،ص 1-2.
: فانون فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء،ص244.[34]
Updated: 2022-02-24 — 10:12
سلمى أوكسل ـ جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي ـ الجزائر
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 74 الصفحة 23.
فرانز فانون ورهانات ما بعد...
فرانز فانون ورهانات ما بعد الكولونيالية. Franz fanon and postcolonial Bets سلمى أوكسل ـ جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي ـ الجزائر selma ouksel .University larbi Ben M’hidi Oum El Bouaghi مقال منشور...
jilrc.com