قبل صلاة الجمعة بساعة أو أكثر, هل من آخر الممر ضباط ثلاثة بمعاطفهم السوداء وأجهزة الاستقبال والإرسال, الصبي المكلف بحمل المشروبات إلي الزبائن أسرع عائدا منصف المسافة بالصنية الممتلئة بأكواب المشروبات وكنكات القهوة. ثم همس لمسئول المقهي الجالس خلف مكتبه الخشبي, نهض المسئول بسرعة وهرول في اتجاههم مرحبا بهم وخلفه بعض العاملين ينتقون لهم أفضل الكراسي والمناضد, حضرت أفضل شيشة بسرعة تسعي إلي أحدهم, ورص العامل علي طاولتهم أكواب السحلب المغروس فيه أصابع الشيكولاتة والموز المقشور وتسبح في سائله المكسرات.
بعض الناس العاديين آثروا السلامة وأنهوا مشروبهم بعجالة وغادروا المكان, أما الشباب المنكبون علي لافتتهم يدونون بها شعاراتهم أكملوا ما هم شارعون فيه دونما التفات, ولم يهتم الضباط حتي بالنظر إليهم, كأنما هناك هدنة بينهم والأطراف كلها مجمعة عليها.
وفي موعدها بالضبط, حضرت أم يوسف القبطية الشابة التي لا يتجاوز عمرها الأربعين عاما, جلست في مقعدها المفضل في مقدمة المقهي, خرج العامل من وراء النصبة ليرحب بها بالتزامن مع مسئول المقهي, وحياها باقي العمال من مواقعهم المختلفة, كانوا يحبونها ويتعاطفون معها, فهي خدوم ولا تكاد تغيب البسمة عن شفتيها, وكانت بالرغم من نحافتها الشديدة قوية صارمة, فقد ورثت عن زوجها ورشة الخراطة التي أفني زوجها الراحل عمره فيها, ولم تفرط فيها بالبيع أو الشراء, بل عملت فيها كالرجال وأدارتها كالمحترفين, مقر الورشة كان في السبتية والأجازة الأسبوعية كانت يوم الأحد.
وفي يوم الجمعة الذي يماثل هذا اليوم, كانت تفتح الورشة بعد الصلاة, حبها لهذا المقهي لفت نظري كثيرا ولم أصل إلي سبب معين له, كثيرا ما كنت أراها تترك مقعدها المفضل, وتدخل إلي عمق المقهي لتساعد عامل المقهي في غسل الأكواب والكنكات, وهي تتبادل معه الأحاديث المختلفة التي يتخللها الاطمئنان علي زوجته وأولاده الذين تعرف أسماءهم وأحوالهم بدقة.
وفي العشرة الأواخر من شهر رمضان, كنت أراها منهمكة مع مسئول إدارة المقهي في وزن السكر والبلح, وعد عبوات الزبيب والزيت والسمن, ثم وضعها في أكياس بلاستيكية, تمهيدا لتوزيعها علي فقراء الحي, كما هي عادة صاحب المقهي كل عام, كانت سخية ومعطاءة تمنح العمال هبات مالية يأخذونها منها بعد إلحاح كبير ثم تغادرهم إلي ورشتها.
الضباط الذين أدهشتهم الحفاوة الكبيرة التي يسبغها العمال عليها, جعلتهم يحدقون بها قليلا ثم شيعوها بنظرات لا مبالية والتفتوا إلي أجهزتهم وبدأوا يصدرون أوامرهم بصوت خفيض, واحتاج أحدهم إلي أن يدخل إلي حمام المقهي لقضاء حاجته, فهرع مسئول المقهي يفتح له الباب المخصوص الذي لا يفتح إلا لكبار الرواد.
أذن المؤذن للصلاة فغادر الضباط أماكنهم ورحلوا إلي مهامهم, واتجه بعض الشباب إلي المسجد وبقي بعضهم ممسكا بلافتاته, ومازالت أم يوسف تتبادل الأحاديث الودية مع العمال والزبائن الذين تعرفهم, ثم مر التوأمان بالمقهي في طريقهما إلي مكان الوضوء.
عقب الصلاة امتلأت الشوارع بالمسيرات وتعامل معها الأمن بكل عنف, فر البعض في اتجاهات شتي, وفتح مجدي صاحب مقهي ريش أبواب المقهي للناس حتي يحتموا بداخل المكان, دون تفرقة بين شباب مثقفين وناس عاديين, سافرات أو محجبات, وكان هذا حدثا مهما يجب أن يذكر, فقد انتقدته سابقا وعابت عليه جلوسه في مقدمة مقهاه يفرز وجوه الداخلين, ويمنع بعضهم من الدخول بحجج مختلفة, هذه المرة حركت القسوة التي يتعامل بها الجنود مع الثوار قلبه, أدخلهم المقهي وصرف لهم المياه مجانا وعالج بعضهم وأطعم البعض الآخر, وحينما توالت قذائف قنابل الغاز المسيل للدموع, وأصبح الشارع يسبح في سحابة من الدخان الأسود, أمر عماله بغلق المقهي من الداخل حماية للموجودين.
ثم زادت الأجواء احتداما بالخارج وأصبح الرعب يغلب الواقفين بالداخل والذي يكتظ بهم المكان, وتمكن الغاز من التسلل عبر سفل الباب, وبدأ بعض الموجودين بالداخل في الشعور بالاختناق, والمدهش أن شخصين من الموجودين بالداخل تلبسهما الرعب المخيف, فمضيا يدفعان بغلظة الناس الذين في طريقهما حتي ينفلتان إلي مقدمة المقهي, وعندما وصلا إلي الباب الموصود, لم يهتما بنظافة لبسهما المدني الأنيق, وظلا يخبطان علي الباب الصاج بجنون وهما يصيحان: افتحوا الباب.. حنموت.. إحنا مش معاهم.. إحنا مخبرين.. لم يهتما بمخاطر كشف شخصيتهما بقدر خوفهما من الموت خنقا بين سائر المواطنين العاديين, رفع لهما العامل الباب الصاج حتي خرجا وخرج معهما من ضاق بالمكان. التوأمان أخبراني فيما بعد أنهما أغلقا باب محل التحف عليهما وناما علي الأريكة الصغيرة, التي تكاد تتسع لهما بالكاد, وكلما سمعا صوت طلقات الرصاص التي كانت تنهمر ليلا, كانا يحتضنان بعضا, ويبكيان وهما يرتلان بعض آيات القرآن الكريم, أما القبطية المسالمة المكافحة أم يوسف, فلم يكن حظها الطيب يصاحبها في ذلك اليوم, فقد عاجلتها رصالة غادرة في أثناء هرولتها في ميدان عبدالمنعم رياض, بحثا عن مواصلة تقلها إلي ورشتها, الرصاصة أردتها شهيدة في عصر الجمعة التي سميت فيما بعد ب جمعة الغضب في ال82 من شهر يناير العام الفائت... إلي المحتفلين بالوصول إلي البرلمان الجديد بالبمب والشماريخ والأناشيد, تذكروا الشهداء الذين أوصلوكم إلي هذا المكان واخجلوا.
مكاوى سعيد
بعض الناس العاديين آثروا السلامة وأنهوا مشروبهم بعجالة وغادروا المكان, أما الشباب المنكبون علي لافتتهم يدونون بها شعاراتهم أكملوا ما هم شارعون فيه دونما التفات, ولم يهتم الضباط حتي بالنظر إليهم, كأنما هناك هدنة بينهم والأطراف كلها مجمعة عليها.
وفي موعدها بالضبط, حضرت أم يوسف القبطية الشابة التي لا يتجاوز عمرها الأربعين عاما, جلست في مقعدها المفضل في مقدمة المقهي, خرج العامل من وراء النصبة ليرحب بها بالتزامن مع مسئول المقهي, وحياها باقي العمال من مواقعهم المختلفة, كانوا يحبونها ويتعاطفون معها, فهي خدوم ولا تكاد تغيب البسمة عن شفتيها, وكانت بالرغم من نحافتها الشديدة قوية صارمة, فقد ورثت عن زوجها ورشة الخراطة التي أفني زوجها الراحل عمره فيها, ولم تفرط فيها بالبيع أو الشراء, بل عملت فيها كالرجال وأدارتها كالمحترفين, مقر الورشة كان في السبتية والأجازة الأسبوعية كانت يوم الأحد.
وفي يوم الجمعة الذي يماثل هذا اليوم, كانت تفتح الورشة بعد الصلاة, حبها لهذا المقهي لفت نظري كثيرا ولم أصل إلي سبب معين له, كثيرا ما كنت أراها تترك مقعدها المفضل, وتدخل إلي عمق المقهي لتساعد عامل المقهي في غسل الأكواب والكنكات, وهي تتبادل معه الأحاديث المختلفة التي يتخللها الاطمئنان علي زوجته وأولاده الذين تعرف أسماءهم وأحوالهم بدقة.
وفي العشرة الأواخر من شهر رمضان, كنت أراها منهمكة مع مسئول إدارة المقهي في وزن السكر والبلح, وعد عبوات الزبيب والزيت والسمن, ثم وضعها في أكياس بلاستيكية, تمهيدا لتوزيعها علي فقراء الحي, كما هي عادة صاحب المقهي كل عام, كانت سخية ومعطاءة تمنح العمال هبات مالية يأخذونها منها بعد إلحاح كبير ثم تغادرهم إلي ورشتها.
الضباط الذين أدهشتهم الحفاوة الكبيرة التي يسبغها العمال عليها, جعلتهم يحدقون بها قليلا ثم شيعوها بنظرات لا مبالية والتفتوا إلي أجهزتهم وبدأوا يصدرون أوامرهم بصوت خفيض, واحتاج أحدهم إلي أن يدخل إلي حمام المقهي لقضاء حاجته, فهرع مسئول المقهي يفتح له الباب المخصوص الذي لا يفتح إلا لكبار الرواد.
أذن المؤذن للصلاة فغادر الضباط أماكنهم ورحلوا إلي مهامهم, واتجه بعض الشباب إلي المسجد وبقي بعضهم ممسكا بلافتاته, ومازالت أم يوسف تتبادل الأحاديث الودية مع العمال والزبائن الذين تعرفهم, ثم مر التوأمان بالمقهي في طريقهما إلي مكان الوضوء.
عقب الصلاة امتلأت الشوارع بالمسيرات وتعامل معها الأمن بكل عنف, فر البعض في اتجاهات شتي, وفتح مجدي صاحب مقهي ريش أبواب المقهي للناس حتي يحتموا بداخل المكان, دون تفرقة بين شباب مثقفين وناس عاديين, سافرات أو محجبات, وكان هذا حدثا مهما يجب أن يذكر, فقد انتقدته سابقا وعابت عليه جلوسه في مقدمة مقهاه يفرز وجوه الداخلين, ويمنع بعضهم من الدخول بحجج مختلفة, هذه المرة حركت القسوة التي يتعامل بها الجنود مع الثوار قلبه, أدخلهم المقهي وصرف لهم المياه مجانا وعالج بعضهم وأطعم البعض الآخر, وحينما توالت قذائف قنابل الغاز المسيل للدموع, وأصبح الشارع يسبح في سحابة من الدخان الأسود, أمر عماله بغلق المقهي من الداخل حماية للموجودين.
ثم زادت الأجواء احتداما بالخارج وأصبح الرعب يغلب الواقفين بالداخل والذي يكتظ بهم المكان, وتمكن الغاز من التسلل عبر سفل الباب, وبدأ بعض الموجودين بالداخل في الشعور بالاختناق, والمدهش أن شخصين من الموجودين بالداخل تلبسهما الرعب المخيف, فمضيا يدفعان بغلظة الناس الذين في طريقهما حتي ينفلتان إلي مقدمة المقهي, وعندما وصلا إلي الباب الموصود, لم يهتما بنظافة لبسهما المدني الأنيق, وظلا يخبطان علي الباب الصاج بجنون وهما يصيحان: افتحوا الباب.. حنموت.. إحنا مش معاهم.. إحنا مخبرين.. لم يهتما بمخاطر كشف شخصيتهما بقدر خوفهما من الموت خنقا بين سائر المواطنين العاديين, رفع لهما العامل الباب الصاج حتي خرجا وخرج معهما من ضاق بالمكان. التوأمان أخبراني فيما بعد أنهما أغلقا باب محل التحف عليهما وناما علي الأريكة الصغيرة, التي تكاد تتسع لهما بالكاد, وكلما سمعا صوت طلقات الرصاص التي كانت تنهمر ليلا, كانا يحتضنان بعضا, ويبكيان وهما يرتلان بعض آيات القرآن الكريم, أما القبطية المسالمة المكافحة أم يوسف, فلم يكن حظها الطيب يصاحبها في ذلك اليوم, فقد عاجلتها رصالة غادرة في أثناء هرولتها في ميدان عبدالمنعم رياض, بحثا عن مواصلة تقلها إلي ورشتها, الرصاصة أردتها شهيدة في عصر الجمعة التي سميت فيما بعد ب جمعة الغضب في ال82 من شهر يناير العام الفائت... إلي المحتفلين بالوصول إلي البرلمان الجديد بالبمب والشماريخ والأناشيد, تذكروا الشهداء الذين أوصلوكم إلي هذا المكان واخجلوا.
مكاوى سعيد