كتب نجيب محفوظ الحرافيش وهى فيما أرى أعظم أعماله قاطبة وكثيرا ما أعود إليها لأقرأ إحدى حكاياتها العشرة فأظن أنها لا تقرأ دفعة واحدة اذ لا ننتبه الى الكثيرمن جمالها وفرادتها ، وعند قراءتها أو قراءة إحدى حكاياتها أحس بالجمال والنشوة ، إيجاز فى السرد ، جمل قصيرة ،حكمة بالغة ، خيال محلق ، حلم أثير ، صفاء فى اللغة ، اعتماد على الحوار أكثر من الوصف بالسرد ،والحوار بها قوى وقصير ،مكثف ، يقوم بتطوير الاحداث ويحركها ، من هذه الحكايات الحكاية السابعة جلال صاحب الجلالة ، وهو جلال ابن زهيرة من أبيه عبده الفران والتى قتلت أمه أمام عينيه يهمنى أن فى حكايته تتلخص قصة صعود ونهاية الفتوة فى الحارة ، فجلال استطاع أن يهزم الفتوة سمكة العلاج وأن يصبح فتوة بدلا منه " وقف جلال فى هالة من لهيب التحدى والغضب وغزا الخوف قلوب الرجال " وسأله أبوه ذات صباح
-الناس يتساءلون متى يتحقق العدل ؟
- ما أهمية ذلك ؟
فقال عبد ربه بدهشة
- إنه كل شئ يا بنى .
- لا أتصور أن يمضى ابنى كما مضى سمكة العلاج ". ولابد أن تستوقفنى قوة عبارة غزا الخوف قلوب الرجال المعبرة عن قوة سيطرة الفتوة على الحارة وبث الرعب فى أهلها ، ولابد أن يستوقفنى قضية العدل فى تلك الحكاية وقوة التعبير عنه بعبارة أنه كل شىء .
وقد حلم جلال بالخلود وهزيمة الموت ، وكثيرا ما يحلم الفتوات بأحلام يهلكون فى محاولة تحقيقها فهم يظنون أنهم قادرون على كل شىء ، وعن طريق أحد المدعين- وكثير هم - أوهمه أنه يستطيع أن يحقق له الخلود بشروط عن طريق مؤاخاته للجن بشرط أن يسيد مئذنة عملاقة فى احدى الخرابات بلا جامع او زاوية ارتفاعها عشرة طوابق لا يعرف لها هدف او وظيقة وفى مقابل ذلك يعطيه أكبرعماراته .
"وتساءل قوم هل مسه جنون ؟
اما الحرافيش فقد قالوا انها اللعنة حلت به جزاء خيانته لعهد جده ".
وتصور جلال أنه حقق الخلود بالفعل ومضى لا يبالي بشئ وتنكر لعشيقته زينات الشقراء التى كانت تطمح فى الزواج منه وظن أنه تحرر من سطوتها عليه ولكنها استطاعت بحيلتها أن تسقيه السم فى الخمر فى أحدى ليالى السهر معها وانتهى به بالموت فى حوض الدواب "غاص نصفه الاعلى فى الماء العكر، تقوض نصفه الاسفل فوق أرض مغطاة بالروث " ص٤٦٧ طبعة دار الشروق ، لا أستطيع أن أغفل إعجابى بلغة نجيب محفوظ فى الرواية بصفة عامة وفى هذه الحكاية بصفة خاصة فهى لغة رشيقة جميلة سريعة جذابة وشعرية حذف منها أدوات العطف حتى تكون اللغة متدفقة وسريعة " على أريكة الفتونة يتربع فى المقهى تمثال من الجمال والقوة يبهر الأنظار ويهز القلوب تتكاثف الظلمات فى جمجمته لا يدرى بها أحد ، يتسلل شعاع إلى الظلمات فى صورة بسمة متألقة بالتحية والإغراء . بسمة تترك أثرا فى الظلام . من هذه المرأة ؟ امرأة من بنات الهوى تقيم فى شقة صغيرة فوق بنك الرهونات ، يعشقها الوجهاء . تحييه كلما مرت التحية اللائقة بسيد الأحياء " .
- حفلت الرواية بأسئلة وجودية وهى أسئلة لا ينى محفوظ يطرحها فى رواياته وقصصه وهى أسئلة تتعلق بالحياة والموت ومعنى الحياة وجدواها فيقول الراوى" أهتزت الحارة لمصرع زهيرة . هزها صراع الحظ مع القدر . التمست العبرة فى ثنايا الأحداث وتقلبها . تساءلت لم يضحك الإنسان ؟ لم يرقص بالفوز ؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش ؟ ولم ينسى دوره الحقيقى فى اللعبة ؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟ وهى أسئلة طالما سمعناها من عمر الحمزاوى المحامى الشهير والناجح والثرى وتساؤلاته عن معنى الحياة وجدواها فى رواية الشحاذ .
- كان الوقوف أمام التكية وسماع أنغامها وأشعارها من المشاهد اللافتة فى الحرافيش فى جميع حكاياتها فقد اختارها محفوظ من أشعار حافظ الشيراى والتى كتبها باللغة الفارسية التى تكتب بحروف عربية ولكنها غير مفهومة ومنها هذه الحكاية والتكية فى الرواية لها دلالات غير محددة تركها محفوظ لخيال وثقافة القارئ فقد تكون دلالة ورمز لعالم الغيب فى الرواية والذى لا نستطيع فهمه أو ادراكه " وفى الليل وقف قبالة التكية ، مرت به انغام . باستهانة طرق الباب . لم يتوقع ردا . عرف لم يردون . إنهم الموت الخالد الذى يتعالى عن الرد تساءل أليس للجار حق؟ وأنصت للغناء فانساب الصوت فى عذوبة"
صبحدم مرغ جمن باكل نوخاسته كفت
نازكم كن كه در بن باغ بى جون نوشكفت
والمعنى
عندما تنفس الصباح ، تحدث طائر الخميلة / مع الوردة الجميلة ، فقال ما أكثر ما تفتح / مثلك فى هذا البستان ، فأقلى ماأنت عليه من دلال .
(من كتاب فى حب نجيب محفوظ للأديب الكبير رجاء النقاش بترجمة المرحوم الدكتور أمين الشواربى )
جلال صاحب الجلالة حكاية من حكايات الحرافيش محملة بدلالات ورمزيات غاية فى العمق والجمال وفهم هذه الدلالات متروكة لخيال القارئ وثقافته وحاجته وهذا هو الفن الرفيع ، أخيرا أحب أن أضيف أن رواية الحرافيش قد صدرت أولا عن مكتبة مصر ثم صدرت عن دار الشروق وأن الغلاف فى طبعة مكتبة مصر أجمل وأكثر فنية من طبعة دار الشروق بينما طبعة دار الشروق التى اعتمدت عليها فى القراءة أفضل طباعة من طبعة دار مصر .
بقلم مصطفى فودة
-الناس يتساءلون متى يتحقق العدل ؟
- ما أهمية ذلك ؟
فقال عبد ربه بدهشة
- إنه كل شئ يا بنى .
- لا أتصور أن يمضى ابنى كما مضى سمكة العلاج ". ولابد أن تستوقفنى قوة عبارة غزا الخوف قلوب الرجال المعبرة عن قوة سيطرة الفتوة على الحارة وبث الرعب فى أهلها ، ولابد أن يستوقفنى قضية العدل فى تلك الحكاية وقوة التعبير عنه بعبارة أنه كل شىء .
وقد حلم جلال بالخلود وهزيمة الموت ، وكثيرا ما يحلم الفتوات بأحلام يهلكون فى محاولة تحقيقها فهم يظنون أنهم قادرون على كل شىء ، وعن طريق أحد المدعين- وكثير هم - أوهمه أنه يستطيع أن يحقق له الخلود بشروط عن طريق مؤاخاته للجن بشرط أن يسيد مئذنة عملاقة فى احدى الخرابات بلا جامع او زاوية ارتفاعها عشرة طوابق لا يعرف لها هدف او وظيقة وفى مقابل ذلك يعطيه أكبرعماراته .
"وتساءل قوم هل مسه جنون ؟
اما الحرافيش فقد قالوا انها اللعنة حلت به جزاء خيانته لعهد جده ".
وتصور جلال أنه حقق الخلود بالفعل ومضى لا يبالي بشئ وتنكر لعشيقته زينات الشقراء التى كانت تطمح فى الزواج منه وظن أنه تحرر من سطوتها عليه ولكنها استطاعت بحيلتها أن تسقيه السم فى الخمر فى أحدى ليالى السهر معها وانتهى به بالموت فى حوض الدواب "غاص نصفه الاعلى فى الماء العكر، تقوض نصفه الاسفل فوق أرض مغطاة بالروث " ص٤٦٧ طبعة دار الشروق ، لا أستطيع أن أغفل إعجابى بلغة نجيب محفوظ فى الرواية بصفة عامة وفى هذه الحكاية بصفة خاصة فهى لغة رشيقة جميلة سريعة جذابة وشعرية حذف منها أدوات العطف حتى تكون اللغة متدفقة وسريعة " على أريكة الفتونة يتربع فى المقهى تمثال من الجمال والقوة يبهر الأنظار ويهز القلوب تتكاثف الظلمات فى جمجمته لا يدرى بها أحد ، يتسلل شعاع إلى الظلمات فى صورة بسمة متألقة بالتحية والإغراء . بسمة تترك أثرا فى الظلام . من هذه المرأة ؟ امرأة من بنات الهوى تقيم فى شقة صغيرة فوق بنك الرهونات ، يعشقها الوجهاء . تحييه كلما مرت التحية اللائقة بسيد الأحياء " .
- حفلت الرواية بأسئلة وجودية وهى أسئلة لا ينى محفوظ يطرحها فى رواياته وقصصه وهى أسئلة تتعلق بالحياة والموت ومعنى الحياة وجدواها فيقول الراوى" أهتزت الحارة لمصرع زهيرة . هزها صراع الحظ مع القدر . التمست العبرة فى ثنايا الأحداث وتقلبها . تساءلت لم يضحك الإنسان ؟ لم يرقص بالفوز ؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش ؟ ولم ينسى دوره الحقيقى فى اللعبة ؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟ وهى أسئلة طالما سمعناها من عمر الحمزاوى المحامى الشهير والناجح والثرى وتساؤلاته عن معنى الحياة وجدواها فى رواية الشحاذ .
- كان الوقوف أمام التكية وسماع أنغامها وأشعارها من المشاهد اللافتة فى الحرافيش فى جميع حكاياتها فقد اختارها محفوظ من أشعار حافظ الشيراى والتى كتبها باللغة الفارسية التى تكتب بحروف عربية ولكنها غير مفهومة ومنها هذه الحكاية والتكية فى الرواية لها دلالات غير محددة تركها محفوظ لخيال وثقافة القارئ فقد تكون دلالة ورمز لعالم الغيب فى الرواية والذى لا نستطيع فهمه أو ادراكه " وفى الليل وقف قبالة التكية ، مرت به انغام . باستهانة طرق الباب . لم يتوقع ردا . عرف لم يردون . إنهم الموت الخالد الذى يتعالى عن الرد تساءل أليس للجار حق؟ وأنصت للغناء فانساب الصوت فى عذوبة"
صبحدم مرغ جمن باكل نوخاسته كفت
نازكم كن كه در بن باغ بى جون نوشكفت
والمعنى
عندما تنفس الصباح ، تحدث طائر الخميلة / مع الوردة الجميلة ، فقال ما أكثر ما تفتح / مثلك فى هذا البستان ، فأقلى ماأنت عليه من دلال .
(من كتاب فى حب نجيب محفوظ للأديب الكبير رجاء النقاش بترجمة المرحوم الدكتور أمين الشواربى )
جلال صاحب الجلالة حكاية من حكايات الحرافيش محملة بدلالات ورمزيات غاية فى العمق والجمال وفهم هذه الدلالات متروكة لخيال القارئ وثقافته وحاجته وهذا هو الفن الرفيع ، أخيرا أحب أن أضيف أن رواية الحرافيش قد صدرت أولا عن مكتبة مصر ثم صدرت عن دار الشروق وأن الغلاف فى طبعة مكتبة مصر أجمل وأكثر فنية من طبعة دار الشروق بينما طبعة دار الشروق التى اعتمدت عليها فى القراءة أفضل طباعة من طبعة دار مصر .
بقلم مصطفى فودة