ينبغي بناء العلاقة بين هذا الثالوث: الهوية والتأويل والتنظيم الذاتيّ وفق مزيد من فتح مفهوم الهوية على فاعليات أخرى، فمن المعهود أنّ الفاعلية الأساس المسندة إليها، سواء في الفلسفة أم في النظرية النفسيّة، هي التعرّف سواء أكان تعرّفَ الذات إلى نفسها في الزمان، أم تعرّفَ الآخر إليها. لكن ينبغي التنبّه إلى أن للهوية فاعلية مهمّة أخرى، وهي التأويل. وحتّى نفهم هذا الأمر علينا أن نغيِّر من التصوّر السائد حول فعل التأويل الذي ارتبط بفهم النصوص، واستنباط المعنى منها، وفق قصد معيَّن، بما يُفيده هذا من تركيز على فاعلية اللغة.
والمراد من هذا التغيرّ عدّ التأويل متّصلا بكلّ فعل يستهدف فهم العالم في جميع مظاهره اللغويّة والطبيعيّة، وأنّه يقيم في كلّ استعمال للرمز على اختلاف أنواعه، ومن ثمّة يطول فعل التأويل كلّ ممارسة في العالم (الأفعال) وكلّ تعاطٍ لموضوعاته بعدّها هويات تتجاور أو تتقاطع في ما بينها. إنّنا لا نحيا إلّا بالتأويل، فحياتنا لا تكُون ممكنة إلّا بمقدار ما نمارسه من تأويل حيال كلّ ما يُحيط بنا، وحيال الأفعال التي ننجزها، أو نزمع على إنجازها. وتتضافر في هذا الإطار التأويلات التي ترسخت لدينا بفعل الإرث اللغويّ والثقافيّ والتأويلات التي نبنيها بفعل تجاربنا في الحياة وتجارب الآخرين. ومن ثمّة فحين نتعامل مع العالم فإنّنا نتعامل معه في نطاق تأويل هويات موضوعاته المختلفة، الصالح منها والضارّ ، الأساس منها والثانوي، المستعجَل منها وما يُمْكِن تأجيله، الخ. لكن لا نفعل هذا من دون تأويل هويتنا الشخصيّة، فلا يكفي أن أتعرّف إلى نفسي، أو يتعرَّف الآخرون إليَّ لكي يقولوا لي: «أنت هو هذا»، فلا بدّ من أن يؤوِّلوا أفعالي وما طرأ عليها من تغيّر، ومن تأويل الوضع الذي أنا عليه في الحاضر لكي يتمكَّنوا من التعامل معي من دون التباس. ولا يقف الأمر عند تأويلهم إيّاي وحسب، بل يعملون أيضًا على تأويل أوضاعهم الحاضرة في الوقت نفسه، فالصديق الذي كان يُشاركني مقعد الدراسة وصار شخصية نافذة لا يؤول أفعالي في الحياة، ووضعي الذي أنا فيه وحسب، بل يفعل ذلك من خلال وضعه الجديد أيضًا. وعليّ أنا أيضًا أن أُعيد تأويل هويته انطلاقًا من أفعاله التي تتّصل بشدّة بوضعه الجديد.
نسقط بكلّ تأكيد- من دون هذا التأويل المتبادل للهوية في الحياة بيني والآخر أو الغير- في سوء فهم قد تترتَّب عليه نتائج غير مرغوب فيها. ونستخلص من هذا أنّ تعرّفي هويتي أو هوية الآخرين لا يتمّ على نحو دقيق إلّا بمقدار إتقان ممارسة التأويل الذي هو فهم للأفعال والأوضاع. وإذا ما أردنا أن نفهم كيف تتعرّف الذات إلى نفسها من طريق التأويل الذاتيّ (المنعكس) لأفعالها ووضعها فإنّ من اللازم التذكير بمفهوم التجارُب وإدخال مفهوم جديد وارد في مجال العلوم بالدرجة الأولى، وهو التنظيم الذاتيّ، في نطاق التجديل بين النواة الصُّلبة والمدار كما عالجناه في المقال السابق.
لا ريب في أنّ هوية الذات تتّصل بالحوار الداخليّ بين تجاربها السابقة واللاحقة، وما كانت عليه وما صارت إليه، وهي لا تفحص- في ضوء هذه التجارُب- تجربة في ضوء أخرى إلا بما تقدر عليه من فهم يُفضي بها إلى تأويل وضعها الحالي في العالم. ولا يتحقّق هذا الفهم إلا بغاية إزالة كلّ التباس يُحيط بتجاربها من طريق تأويل ذاتيّ متبادل بين السابق واللاحق، أي أنّ فهم نفسها في الحاضر ينتج في ضوء فهم متبادل بين أوضاعها القديمة ووضعها الجديد، ومن ثمّة تُعيد الذات تأويل كلّ فعل تنجزه أو تُقدم على إنجازه، بما يعنيه هذا من فهم لما يُخوَّل لها، وما لا يخوَّل، وما يُناسبها ولا يُناسبها، وما هو ممكن ومستحيل، فخلف كلّ هذا يكمن الإقرار بخلاصة تأويليّة تتضمَّن في طيّاتها الصيرورة (التحوّل)، ومُفاد هذه الخلاصة العبارة الآتية: «لم أعد كما كنت في السابق»، وتنطبق هذه الخلاصة على كلّ صيرورة، سواءٌ أكانت صيرورة تَرَدٍّ أم صيرورة ارتقاء. لكنّ كلّ تأويل ذاتيّ متبادل من هذا القبيل لا يبقى عند حدود هذه الخلاصة مكتفيًا بها بعدِّها فهمًا للوضع الحالي، بل يسعى إلى إعادة تنشيط الهوية وإعادة تحديدها من طريق التنظيم الذاتيّ الذي يعني أنّ «شيئًا ما قادر على إنتاج نمط من العمل أو التصرّف من تلقاء ذاته» (ألفارو مورينو)، وأنّ هذا العمل ينعكس على وحدة (هوية) هذا الشيء، ويكمن التنظيم الذاتيّ في هذا الانعكاس. لكنّ قيام الذات بأفعال معيَّنة لا يعني بالضرورة أنّها تتصرّف من تلقاء نفسها، فقد تكُون مرغمة على ذلك بفعل شروط خارجيّة مؤثِّرة. لكنّ كلّ فعل تقوم به الذات ينعكس عليها من حيث هي وحدة هوياتيّة، ووظيفة انعكاس الفعل هذا ماثلة- بالنسبة إلينا- في كون الهوية تُعيد تنظيم نفسها كي تظلّ مستمرّة وموحَّدة في علاقتها بالعالم (البقاء الجيِّد). ويكمن هنا فقط وفقط فعل التأويل الذاتيّ للهوية، أي أنّه نتاج انعكاس فعل الذات عليها. لكن ينبغي تدعيم هذا الانعكاس بالسياق الذي يحدث فيه، وما هذا السياق سوى الوضع الذي عليه الذات في لحظة انعكاس فعلها عليها، فحين تخرج الذات من تجربة حبٍّ مخفقة فإنّها تُعيد تنظيم هويتها- وفق نتاج فعلها- في إطار وضعها الحالي (الإخفاق في جلب الاعتراف بقيمتها من قِبَل المحبوب). ولا تحدث إعادة تنظيم الهوية ذاتها إلا بإعادة تأويل فعلها وموضوعه، ولكي تُعيد الذات تنظيم نفسها- من حيث هي هوية- بغاية تحقيق الاستمرار لا بدّ لها من أن تفعل ذلك في إطار انعكاس فعلها عليها. وهذا الانعكاس يتمثَّل في السعي إلى فهم ما جرى وتقويمه في ضوء التفاعل بين النواة الصُّلبة والمدار، أي بين وحدة من مكوِّنات ثابتة (العضوي- العصبي- النفسي) والوضع الذي عليه الذات ومجمل الظروف السوسيو- ثقافيّة المحيطة بهذه الوحدة الثابتة. بيد أنّ فهم ما جرى بوصفه نتاج فعل يتمّ في إطار تفاعلات سابقة بين النواة الصُّلبة والمدار، وهذه التفاعلات تشتغل في هيئة حوار بين التجارِب الشخصيّة، وما هذا الحوار إلّا تبادل التأويلات الذاتيّة والغيريّة في ما بينها إمكان إعادة تحديد الهوية في العالم.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
القدس العربي
والمراد من هذا التغيرّ عدّ التأويل متّصلا بكلّ فعل يستهدف فهم العالم في جميع مظاهره اللغويّة والطبيعيّة، وأنّه يقيم في كلّ استعمال للرمز على اختلاف أنواعه، ومن ثمّة يطول فعل التأويل كلّ ممارسة في العالم (الأفعال) وكلّ تعاطٍ لموضوعاته بعدّها هويات تتجاور أو تتقاطع في ما بينها. إنّنا لا نحيا إلّا بالتأويل، فحياتنا لا تكُون ممكنة إلّا بمقدار ما نمارسه من تأويل حيال كلّ ما يُحيط بنا، وحيال الأفعال التي ننجزها، أو نزمع على إنجازها. وتتضافر في هذا الإطار التأويلات التي ترسخت لدينا بفعل الإرث اللغويّ والثقافيّ والتأويلات التي نبنيها بفعل تجاربنا في الحياة وتجارب الآخرين. ومن ثمّة فحين نتعامل مع العالم فإنّنا نتعامل معه في نطاق تأويل هويات موضوعاته المختلفة، الصالح منها والضارّ ، الأساس منها والثانوي، المستعجَل منها وما يُمْكِن تأجيله، الخ. لكن لا نفعل هذا من دون تأويل هويتنا الشخصيّة، فلا يكفي أن أتعرّف إلى نفسي، أو يتعرَّف الآخرون إليَّ لكي يقولوا لي: «أنت هو هذا»، فلا بدّ من أن يؤوِّلوا أفعالي وما طرأ عليها من تغيّر، ومن تأويل الوضع الذي أنا عليه في الحاضر لكي يتمكَّنوا من التعامل معي من دون التباس. ولا يقف الأمر عند تأويلهم إيّاي وحسب، بل يعملون أيضًا على تأويل أوضاعهم الحاضرة في الوقت نفسه، فالصديق الذي كان يُشاركني مقعد الدراسة وصار شخصية نافذة لا يؤول أفعالي في الحياة، ووضعي الذي أنا فيه وحسب، بل يفعل ذلك من خلال وضعه الجديد أيضًا. وعليّ أنا أيضًا أن أُعيد تأويل هويته انطلاقًا من أفعاله التي تتّصل بشدّة بوضعه الجديد.
نسقط بكلّ تأكيد- من دون هذا التأويل المتبادل للهوية في الحياة بيني والآخر أو الغير- في سوء فهم قد تترتَّب عليه نتائج غير مرغوب فيها. ونستخلص من هذا أنّ تعرّفي هويتي أو هوية الآخرين لا يتمّ على نحو دقيق إلّا بمقدار إتقان ممارسة التأويل الذي هو فهم للأفعال والأوضاع. وإذا ما أردنا أن نفهم كيف تتعرّف الذات إلى نفسها من طريق التأويل الذاتيّ (المنعكس) لأفعالها ووضعها فإنّ من اللازم التذكير بمفهوم التجارُب وإدخال مفهوم جديد وارد في مجال العلوم بالدرجة الأولى، وهو التنظيم الذاتيّ، في نطاق التجديل بين النواة الصُّلبة والمدار كما عالجناه في المقال السابق.
لا ريب في أنّ هوية الذات تتّصل بالحوار الداخليّ بين تجاربها السابقة واللاحقة، وما كانت عليه وما صارت إليه، وهي لا تفحص- في ضوء هذه التجارُب- تجربة في ضوء أخرى إلا بما تقدر عليه من فهم يُفضي بها إلى تأويل وضعها الحالي في العالم. ولا يتحقّق هذا الفهم إلا بغاية إزالة كلّ التباس يُحيط بتجاربها من طريق تأويل ذاتيّ متبادل بين السابق واللاحق، أي أنّ فهم نفسها في الحاضر ينتج في ضوء فهم متبادل بين أوضاعها القديمة ووضعها الجديد، ومن ثمّة تُعيد الذات تأويل كلّ فعل تنجزه أو تُقدم على إنجازه، بما يعنيه هذا من فهم لما يُخوَّل لها، وما لا يخوَّل، وما يُناسبها ولا يُناسبها، وما هو ممكن ومستحيل، فخلف كلّ هذا يكمن الإقرار بخلاصة تأويليّة تتضمَّن في طيّاتها الصيرورة (التحوّل)، ومُفاد هذه الخلاصة العبارة الآتية: «لم أعد كما كنت في السابق»، وتنطبق هذه الخلاصة على كلّ صيرورة، سواءٌ أكانت صيرورة تَرَدٍّ أم صيرورة ارتقاء. لكنّ كلّ تأويل ذاتيّ متبادل من هذا القبيل لا يبقى عند حدود هذه الخلاصة مكتفيًا بها بعدِّها فهمًا للوضع الحالي، بل يسعى إلى إعادة تنشيط الهوية وإعادة تحديدها من طريق التنظيم الذاتيّ الذي يعني أنّ «شيئًا ما قادر على إنتاج نمط من العمل أو التصرّف من تلقاء ذاته» (ألفارو مورينو)، وأنّ هذا العمل ينعكس على وحدة (هوية) هذا الشيء، ويكمن التنظيم الذاتيّ في هذا الانعكاس. لكنّ قيام الذات بأفعال معيَّنة لا يعني بالضرورة أنّها تتصرّف من تلقاء نفسها، فقد تكُون مرغمة على ذلك بفعل شروط خارجيّة مؤثِّرة. لكنّ كلّ فعل تقوم به الذات ينعكس عليها من حيث هي وحدة هوياتيّة، ووظيفة انعكاس الفعل هذا ماثلة- بالنسبة إلينا- في كون الهوية تُعيد تنظيم نفسها كي تظلّ مستمرّة وموحَّدة في علاقتها بالعالم (البقاء الجيِّد). ويكمن هنا فقط وفقط فعل التأويل الذاتيّ للهوية، أي أنّه نتاج انعكاس فعل الذات عليها. لكن ينبغي تدعيم هذا الانعكاس بالسياق الذي يحدث فيه، وما هذا السياق سوى الوضع الذي عليه الذات في لحظة انعكاس فعلها عليها، فحين تخرج الذات من تجربة حبٍّ مخفقة فإنّها تُعيد تنظيم هويتها- وفق نتاج فعلها- في إطار وضعها الحالي (الإخفاق في جلب الاعتراف بقيمتها من قِبَل المحبوب). ولا تحدث إعادة تنظيم الهوية ذاتها إلا بإعادة تأويل فعلها وموضوعه، ولكي تُعيد الذات تنظيم نفسها- من حيث هي هوية- بغاية تحقيق الاستمرار لا بدّ لها من أن تفعل ذلك في إطار انعكاس فعلها عليها. وهذا الانعكاس يتمثَّل في السعي إلى فهم ما جرى وتقويمه في ضوء التفاعل بين النواة الصُّلبة والمدار، أي بين وحدة من مكوِّنات ثابتة (العضوي- العصبي- النفسي) والوضع الذي عليه الذات ومجمل الظروف السوسيو- ثقافيّة المحيطة بهذه الوحدة الثابتة. بيد أنّ فهم ما جرى بوصفه نتاج فعل يتمّ في إطار تفاعلات سابقة بين النواة الصُّلبة والمدار، وهذه التفاعلات تشتغل في هيئة حوار بين التجارِب الشخصيّة، وما هذا الحوار إلّا تبادل التأويلات الذاتيّة والغيريّة في ما بينها إمكان إعادة تحديد الهوية في العالم.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
القدس العربي