أ. د. عادل الأسطة - باق في نابلس

تصغي إلى من يزورك عارضاً عليك أن تبحث عن عمل في جامعة أخرى، فتتذكر عبارة إميل حبيبي الروائي الفلسطيني: " باق في حيفا ". وتعلق صورة إميل التي كتبت العبارة تحتها في مكتبك لترد على الذين يرغبون في أن تترك الجامعة، ثم تنزع الصورة، لا لأنك غيرت رأيك، وإنما لأنها صورة عن صورة، ولأنها بالأبيض والأسود، ولأنها كذلك فلم تكن ذات منظر جذاب.
وفي ( فينيا كفي )، في فندق عمرة في عمان، تخاطب ابنتيك قائلاً: " باق في نابلس " وتشـرح لهما قصة العبارة، بعد أن تســألهما إن كانتا قرأتا لإميل حبيبي شيئا. ترد عليك فائزة " باقية في عمان " ولا ترد عليها لأنها تمثل دوراً، فأنت كففت منذ زمن على أن تتحدث أمامهما كما لو أنهما، هي وأختها، تمثلان دوراً، وترد عليها على أنها تمثل ذاتها فقط: " باق في نابلس " وتقص عليهما ما كتبته خلال اليومين الماضيين، وتقول: هذا العالم مليء بالبؤس أيضاً.
ولا تسأل نفسك لماذا آثر إميل أن يكتب هذه العبارة على رخام قبره. تعود بذاكرتك إلى كتاباته ابتداءً مما ورد في المتشائل (1974) وانتهاء بافتتاحية مشارف المجلة التي أصدرها قبل عامين تقريباً من وفاته، وماتت المجلة بعد موته بقليل. تتذكر ما قرَّ عليه بطل روايته الأولى. تتذكر مقولة سعيد عن الخازوق الذي تشبث به، تتذكر هذه المقولة التي جعلتها عنواناً لما كتبته عن إميل حبيبي في كتابك " أدب المقاومة .. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات "(1998)، وتعرف من افتتاحية مشارف أكثر:
" بل لم يَدُرْ في خلدي أن لا يجد شعبي مكاناً في وطنه بعد هذا العمر الطويل، سوى رأس خازوق .. " ولكن حتى ولو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية فإننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها، فقد وجدناها كلها، حراباً وفراشها أشبه بفراش فقير هندي، رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة على قدر المقام ".
وتستعيد ذاكرتك ما تعرض له الشعب الفلسطيني منذ 1948. تتذكر العالم العربي وما هو عليه، وتفكر فيما يريده حكام دولة إسرائيل. ثمة هجرات لم تنتهِ، وثمة حروب أهلية كان لها أو ل والله يعلم إن كان لها آخر، وثمة غول اسمه الاستيطان يعقب مصادرة الأراضي، وهناك هدم البيوت عدم المرخصة، وفوق هذا تحول كل مدينة وكل قرية في الضفة إلى دولة مستقلة، وتصغي إلى حديث عن السلام، فيكون هناك سلام لفظي ولا سلام.
ترسم سيناريو لما يكون عليه الوضع في قادم الأيام: ثمة دولتان واحدة يهودية وثانية فلسطينية. قد يكون هذا وارداً. ثمة دولة ثنائية القومية سيكون مصيرها مثل مصير جنوب افريقيا. يحكم الإسرائيليون دولة تتكون من دولة ودولة، من يهود وعرب، من متعالين ومغلوبين، تنقلب فيها الأمور بسبب التكاثر السكاني العربي، بعد أن يدفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً. وهناك إمكانية لهجرة أخرى. سوف تهاجم إسرائيل الشعب الفلسطيني، وسوف ترتكب مجازر مشابهة لمجازر دير ياسين وقبية حتى تدفعنا إلى الرحيل. وتقول: " باق في نابلس ".
يأتي طالب علمته ذات نهار. يخرج من حقيبته كراساً يحتوي على أسماء الجامعات في بعض دول الخليج وعلى الرواتب التي تدفعها للأساتذة. لا تمد يدك إلى الكراس، فيعطيه لزميل آخر.وتقول:لم أغادر يوم كان هناك احتلال كامل، فكيف أغادر حين غدا الاحتلال نصف احتلال؟
ويحدثك زميل عن استيائه لأنه أخذ يدرس في الفصل الصيفي، ويغبطك لأنك آثرت العطلة على النقود. ويعبر عن حسرته لأنه لن يتمكن، في الصيف، من السفر إلى عمان ولو لمدة عشرة أيام، فهذه كفيلة بأن تمكنه من متابعة الصحف علّه يعثر على وظيفة في دولة الخليج. فتجيبه: سافر أنت، كما سافرت من قبل، وأما أنا فباق في نابلس، ولن أسافر إلى عمان إلا لحضور مؤتمر، أعود بعد ذلك لأقرأ وأثرثر وأكتب ولا أريد نقوداً.
تنظر حولك: ما نفع النقود؟ أحياناً تتسلى بعدها أمام أبيك حتى تذكره بعاداته القديمة. أحياناً تفرزها كما كنت تفرز أوراق الشدة، حين كنت تتسلى وزملاءك الطلاب بلعب الشدة في الأيام الأولى من العام الدراسي الجامعي، حيث لا دراسة ولا امتحانات وأحياناً تنفقها كما لو أنها لا شيء.
وتسأل نفسك: ما قيمة النقود والوطن كله يضيع، وها هي فلسطين تغدو أندلساً ثانية، أندلساً جديدة. وإلى أين سنهاجر؟ إلى عالم عربي يضيق بسكانه ويستورد مياه شربه. تتذكر ما كتبه محمد الأسعد الأديب الفلسطيني الذي أقام في الكويت، بعد خروجه منها عام 1990، تتذكر ما كتبه ونشره في مجلة " الفصول الجديدة " المصرية: " المسكوت عنه في الثقافة الفلسطينية "، وتتذكر رواية غسان كنفاني " رجال في الشمس " هذه الرواية التي تذكرتها مراراً في عام 1990، وعقبت يومها قائلاً: " لقد تأخر موت بقية فلسطينيي الكويت سبعة وعشرين عاماً أو يزيد. الذين لم يدقوا جدران الخزان ماتوا، والذين صمتوا، بعد أن نجوا، ماتوا. والذين دقوا الجدران، بعد عام 1967 وبعد عام 1982، ماتوا. لقد دق الفدائيون الجدران مراراً، وماذا كانت النتيجة؟ حكم ذاتي هزيل كنا نتهم من يقبل به في الخيانة. وها هم الذين عادوا يحاصرون مثلنا نحن الذين صحونا، ونحن أطفال، على احتلال غاشم.
" باق في نابلس " تقول لفائزة التي تقول لك" " باقية في عمان " أنت لا تريد أن تقتلع من جذورك، وإذا كان الموت هو نهايتنا فلماذا لا نموت في الوطن. كتب محمود درويش في أشعاره قبل عام 1970، عام هجرته:
" وأبي قال مرة / الذي ما له وطن / ما له في الثرى ضريح " وإذا كان لا بد من عودة فلأعد إلى يافا. وباق في نابلس.

عمان/الجمعة 13/7/2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...