كما أسلفت في هجومي على العنصرية الأورو-أمريكية تجاه الكُتاب غير الاوروبيين وخاصة الأفارقة، بحيث تفرض عليهم تحويل مؤلفاتهم إلى أفلام وثائقية لحديقة الحيوان الإفريقية. إنهم ممنوعون من تجاوز حدودهم، ولذلك فإننا يجب أن نسأل انفسنا عن بيئة الكتابة التي (يجب) كما تفرض المعايير الغربية أن تعبر عن بيئة الكاتب.. هل هذي مسألة جوهرية؟
لقد لاحظت أن اغلب كتاب الرواية البوليسية من الناشئة، يعمدون إلى البحث عن بيئة أجنبية لأنهم -كما كنا نفعل- يقلدون ما يقرأونه من روايات الشباب، روايات الإثارة والرعب والحب. هؤلاء هم حالة خاصة. لكننا نتحدث عن ما هو أعلى قليلاً من ذلك -بلا استعلاء- أي روايات الكبار. وأتحدث عن البيئة التي تعبر عن خبرة الكاتب الحياتية المعيشة، أي بيئة نموه وترعرعه عقلياً وجسدياً في إطار جماعة محددة وفي حيز مكاني وزمني محدد. تقريباً لم تخرج الأعمال الأدبية عن هذا الإطار المعرفي، ولم تحاول اقتحام ثقافات أخرى أو بناء ثقافة خاصة بالكاتب إلا لِمَاماً، واقصد الثقافة العامة التي تمثل منتج مادي ومعنوي يعبر عن انساق وسياقات محددة. سيفهم دارسو الأنساق الثقافية ما أقصده على وجه الخصوص. أي أن يبني الكاتب حيه الخاص، قريته، مدينته، دولته، قارته، كوكبه الخاص جداً مثل مدينة غوثام أو اسبرينغفيلد. مع ذلك فحتى هاتان المدينتان هما داخل دولة معلومة. هنا تكمن مسالة بناء عالم ثقافي مستقل. إما عالم كامل الاستقلال أو جزئي الاستقلال. هذه المسألة ليست شائعة في الروايات والقصص، لأن هذا (ينزع) شيئاً من المعيار الأورو-امريكي السائد، المعيار الذي يحدد ما إذا كان عملاً ما هو عمل جاد أم عمل مراهقين.
الأدباء أنفسهم لا يميلون إلى المخاطرة، لأنهم يضعون تلك المعايير متجانبة مع الاعتبارات التسويقية البحتة (أقول تسويقية وليست تجارية لأن الربح من الكتابة نادر). إن الكاتب يسوق لنفسه سياسياً أو في الأدب السياسي، عبر معينات معرفية كثيرة، متشابكة ومتقاطعة، سوسيولوجيا أو أنماط انثروبولوجية واقتصادية بل وفنية محددة. إنه يسوق نفسه (ككاتب) حيث الكتابة تبدو مهنة من لا مهنة له. وهو هنا أيضاً يسوق نفسه كمثقف، كمثقف عضوي في أحوال كثيرة، كمثقف مقاوم، كمثقف متمرد، كمثقف من مثقفي المعاناة، هذه قضية موضوعة في الاعتبار النرجسي..ذلك الاعتبار القابع في العقل الباطن. يبدو الفن من أجل الفن أشبه بطلب الحياد المستحيل.
فليكن ذلك، غير أن المسألة تدِق أحياناً عندما تبرز المشكلات الفنية (أي الكتابة كاحتراف). يضطر نجيب محفوظ إلى الكتابة الملحمية داخل المنظومة التاريخية السوسيولوجية لمصر في أولاد حارتنا، كذلك ينحاز صنع الله ابراهيم لبيئته في اللجنة، وقس على ذلك قديما وحديثاً، بلزاك،، مورافيا، فارغاس يوسا، كونديرا، اناتول فرانس، لويجي بيرانديللو.. وكاد كافكا أن يقلب الطاولة، وهيرمان هيسة في الكريات الزجاجية،.. لكن كل هذا الشواش يستقر في النهاية، ويبقى كل شيء دون تغيير يذكر.
لكن دعونا نسأل ذلك السؤال الذي أدرك أنه يلح على كثير من اصحاب الرفض المسبق، أو الذين يتسمون باللا مرونة عند طرح المفاهيم والنظريات: وهو سؤال: لماذا؟
البيئة الفقيرة: هل هناك بيئة فقيرة؟ أقصد تلك المزعجة لأي شخص يود احتراف الكتابة؟ نعم هناك بيئة فقيرة، وقد لا يعني الفقر هنا أنها بيئة معدومة المكونات ولكنها بيئة مزعجة بشكل كبير لأي كاتب. دعوني مثلاً أناقش بيئة الحرب في دارفور، إن دارفور منطقة ثرية جداً من حيث التنوع الثقافي والإثني، ولكنها بيئة مزعجة للكتابة. إنها بيئة تطلب سريتها باستمرار، تطلب عدم الإفصاح، وهي تهدد بالفعل من يحاول نكشها.. إنها بيئة مزعجة للكاتب، وكذلك بيئة الأديان، المسألة لا تتعلق بالدين كأحد التابوهات الثلاث، إنما تتعلق ببيئة الدين، التي تجعل أي كاتب ينأى بنفسه عن ولوج مضاربها.
قد يتحايل الكاتب على كل ما سبق، ليستفيد من تلك البيئات المزعجة، عبر عبور فوقي لها، يسل منها ما هو مفيد ويترك ما هو غير مفيد، ثم ليستخدم ما سله في الكتابة العولمية، أو فلنبحث عن مسمى أكثر قرباً من حقيقتها، وليكن الكتابة المتعالية.. فهنا يحتاج الكاتب للتعالى، يقصي ويهمش ويستبعد محيطه الثقافي برمته، ويختلق غوثام أو اسبرينغفيلد خاصته.
الإحساس باللا معقول: هو إحساس يشعر به أي كاتب صغير التجربة، وهو اللا معقول الثقافي؛ وهو احساس ينتابنا جميعاً، فلنتخيل مثلاً أننا في الصغر كنا نقرأ "رجل المستحيل" إنه شخص أقرب للسوبرمان، لكنه مصري، أي أنه شخصية في بيئة عربية تعاني معاناة كبيرة جداً، ربما أقل من غيرها، ولكنها تعاني من الفقر والجهل والمرض، هذا يخلق إحساساٍ مزعجاً (بالمستحيل الثقافي) من شخصية رجل المستحيل، تماماً كما نشاهد فيلماً هندياً لبطل خارق في حين تعاني أغلبية الشعب الهندي من الفقر. أو نقرأ كتاباً ملحمياً لحروب في دول خليجية أو إفريقية تعاني في راهنها من الضعف والهوان والتهافت. هذا هو المستحيل الثقافي، الذي أدى -بصورة واضحة- إلى ارتداد الكتاب إلى التاريخ. الرواية التاريخية التي تحاول تجاوز ثقافة عربية مهزومة بل وتعاني من اضطراب في ملامحها، اضطراب عنيف تقوده أنظمة حاكمة تحاول الحفاظ على مصالحها بذرائع متنوعة بعضها محافظ وبعضها عبر مزاعم العصرنة والانفتاح والعولمة..لكنها في الواقع تقوم إما بتحجير شعوبها أو بنسف البيئة الثقافية المميزة لتلك الشعوب وتلك الدول.
فكما قلت أدى المستحيل الثقافي إلى العودة إلى الماضي أو التاريخ، أو ما يمكننا أن نسمية (السلفية الأدبية).
العزلة الرافضية: وأقصد بها اعتزال الكاتب لبيئته الاجتماعية والسياسية، إنه يرفضها - وقد يمقتها بوضوح- وهنا فهو يعاني من المعيار الأوروبي الذي يحظر عليه تجاوز كونه كاتب سيناريو لأفلام وثائقية. يصطدم الكاتب بقوتين متعاكستين: قوة العزلة الرافضية (وهي قوة شخصية)، والقمع المعياري (الخارجي). يضطر الكاتب في النهاية إلى الإنصياع للأخيرة.
هذه بعض الإجابات لسؤال (لماذا). أقول بعضها، وأصر على ذلك.
العبثية كمخرج:
العبثية والعدمية، هما أسلوبان، -وانا أصر على هذه التفرقة بينهما- رغم أنهما يبدوان شيئاً واحداً أو نتيجة واحدة للفلسفة الوجودية، لكن ما يهمني هنا هو الأدب العبثي أو العدمي يساعد على ذلك التجاوز والقفز على البيئة.. صحيح أنه محكوم باشتراطاته الخاصة مما يحجم التوسع والشمولية، لكنه مخرج آمن. كذلك فالتجريب يلعب دوراً مهما في معالجة مشكلة الإلزام البيئي.
لكن العلاج الحقيقي هو أن نتقبل الآخر، أن نتقبل الجديد، أن نتقبل المنهج المتنحي. هذا هو علاج جذري للمشكلة كما أتصور.
لقد لاحظت أن اغلب كتاب الرواية البوليسية من الناشئة، يعمدون إلى البحث عن بيئة أجنبية لأنهم -كما كنا نفعل- يقلدون ما يقرأونه من روايات الشباب، روايات الإثارة والرعب والحب. هؤلاء هم حالة خاصة. لكننا نتحدث عن ما هو أعلى قليلاً من ذلك -بلا استعلاء- أي روايات الكبار. وأتحدث عن البيئة التي تعبر عن خبرة الكاتب الحياتية المعيشة، أي بيئة نموه وترعرعه عقلياً وجسدياً في إطار جماعة محددة وفي حيز مكاني وزمني محدد. تقريباً لم تخرج الأعمال الأدبية عن هذا الإطار المعرفي، ولم تحاول اقتحام ثقافات أخرى أو بناء ثقافة خاصة بالكاتب إلا لِمَاماً، واقصد الثقافة العامة التي تمثل منتج مادي ومعنوي يعبر عن انساق وسياقات محددة. سيفهم دارسو الأنساق الثقافية ما أقصده على وجه الخصوص. أي أن يبني الكاتب حيه الخاص، قريته، مدينته، دولته، قارته، كوكبه الخاص جداً مثل مدينة غوثام أو اسبرينغفيلد. مع ذلك فحتى هاتان المدينتان هما داخل دولة معلومة. هنا تكمن مسالة بناء عالم ثقافي مستقل. إما عالم كامل الاستقلال أو جزئي الاستقلال. هذه المسألة ليست شائعة في الروايات والقصص، لأن هذا (ينزع) شيئاً من المعيار الأورو-امريكي السائد، المعيار الذي يحدد ما إذا كان عملاً ما هو عمل جاد أم عمل مراهقين.
الأدباء أنفسهم لا يميلون إلى المخاطرة، لأنهم يضعون تلك المعايير متجانبة مع الاعتبارات التسويقية البحتة (أقول تسويقية وليست تجارية لأن الربح من الكتابة نادر). إن الكاتب يسوق لنفسه سياسياً أو في الأدب السياسي، عبر معينات معرفية كثيرة، متشابكة ومتقاطعة، سوسيولوجيا أو أنماط انثروبولوجية واقتصادية بل وفنية محددة. إنه يسوق نفسه (ككاتب) حيث الكتابة تبدو مهنة من لا مهنة له. وهو هنا أيضاً يسوق نفسه كمثقف، كمثقف عضوي في أحوال كثيرة، كمثقف مقاوم، كمثقف متمرد، كمثقف من مثقفي المعاناة، هذه قضية موضوعة في الاعتبار النرجسي..ذلك الاعتبار القابع في العقل الباطن. يبدو الفن من أجل الفن أشبه بطلب الحياد المستحيل.
فليكن ذلك، غير أن المسألة تدِق أحياناً عندما تبرز المشكلات الفنية (أي الكتابة كاحتراف). يضطر نجيب محفوظ إلى الكتابة الملحمية داخل المنظومة التاريخية السوسيولوجية لمصر في أولاد حارتنا، كذلك ينحاز صنع الله ابراهيم لبيئته في اللجنة، وقس على ذلك قديما وحديثاً، بلزاك،، مورافيا، فارغاس يوسا، كونديرا، اناتول فرانس، لويجي بيرانديللو.. وكاد كافكا أن يقلب الطاولة، وهيرمان هيسة في الكريات الزجاجية،.. لكن كل هذا الشواش يستقر في النهاية، ويبقى كل شيء دون تغيير يذكر.
لكن دعونا نسأل ذلك السؤال الذي أدرك أنه يلح على كثير من اصحاب الرفض المسبق، أو الذين يتسمون باللا مرونة عند طرح المفاهيم والنظريات: وهو سؤال: لماذا؟
البيئة الفقيرة: هل هناك بيئة فقيرة؟ أقصد تلك المزعجة لأي شخص يود احتراف الكتابة؟ نعم هناك بيئة فقيرة، وقد لا يعني الفقر هنا أنها بيئة معدومة المكونات ولكنها بيئة مزعجة بشكل كبير لأي كاتب. دعوني مثلاً أناقش بيئة الحرب في دارفور، إن دارفور منطقة ثرية جداً من حيث التنوع الثقافي والإثني، ولكنها بيئة مزعجة للكتابة. إنها بيئة تطلب سريتها باستمرار، تطلب عدم الإفصاح، وهي تهدد بالفعل من يحاول نكشها.. إنها بيئة مزعجة للكاتب، وكذلك بيئة الأديان، المسألة لا تتعلق بالدين كأحد التابوهات الثلاث، إنما تتعلق ببيئة الدين، التي تجعل أي كاتب ينأى بنفسه عن ولوج مضاربها.
قد يتحايل الكاتب على كل ما سبق، ليستفيد من تلك البيئات المزعجة، عبر عبور فوقي لها، يسل منها ما هو مفيد ويترك ما هو غير مفيد، ثم ليستخدم ما سله في الكتابة العولمية، أو فلنبحث عن مسمى أكثر قرباً من حقيقتها، وليكن الكتابة المتعالية.. فهنا يحتاج الكاتب للتعالى، يقصي ويهمش ويستبعد محيطه الثقافي برمته، ويختلق غوثام أو اسبرينغفيلد خاصته.
الإحساس باللا معقول: هو إحساس يشعر به أي كاتب صغير التجربة، وهو اللا معقول الثقافي؛ وهو احساس ينتابنا جميعاً، فلنتخيل مثلاً أننا في الصغر كنا نقرأ "رجل المستحيل" إنه شخص أقرب للسوبرمان، لكنه مصري، أي أنه شخصية في بيئة عربية تعاني معاناة كبيرة جداً، ربما أقل من غيرها، ولكنها تعاني من الفقر والجهل والمرض، هذا يخلق إحساساٍ مزعجاً (بالمستحيل الثقافي) من شخصية رجل المستحيل، تماماً كما نشاهد فيلماً هندياً لبطل خارق في حين تعاني أغلبية الشعب الهندي من الفقر. أو نقرأ كتاباً ملحمياً لحروب في دول خليجية أو إفريقية تعاني في راهنها من الضعف والهوان والتهافت. هذا هو المستحيل الثقافي، الذي أدى -بصورة واضحة- إلى ارتداد الكتاب إلى التاريخ. الرواية التاريخية التي تحاول تجاوز ثقافة عربية مهزومة بل وتعاني من اضطراب في ملامحها، اضطراب عنيف تقوده أنظمة حاكمة تحاول الحفاظ على مصالحها بذرائع متنوعة بعضها محافظ وبعضها عبر مزاعم العصرنة والانفتاح والعولمة..لكنها في الواقع تقوم إما بتحجير شعوبها أو بنسف البيئة الثقافية المميزة لتلك الشعوب وتلك الدول.
فكما قلت أدى المستحيل الثقافي إلى العودة إلى الماضي أو التاريخ، أو ما يمكننا أن نسمية (السلفية الأدبية).
العزلة الرافضية: وأقصد بها اعتزال الكاتب لبيئته الاجتماعية والسياسية، إنه يرفضها - وقد يمقتها بوضوح- وهنا فهو يعاني من المعيار الأوروبي الذي يحظر عليه تجاوز كونه كاتب سيناريو لأفلام وثائقية. يصطدم الكاتب بقوتين متعاكستين: قوة العزلة الرافضية (وهي قوة شخصية)، والقمع المعياري (الخارجي). يضطر الكاتب في النهاية إلى الإنصياع للأخيرة.
هذه بعض الإجابات لسؤال (لماذا). أقول بعضها، وأصر على ذلك.
العبثية كمخرج:
العبثية والعدمية، هما أسلوبان، -وانا أصر على هذه التفرقة بينهما- رغم أنهما يبدوان شيئاً واحداً أو نتيجة واحدة للفلسفة الوجودية، لكن ما يهمني هنا هو الأدب العبثي أو العدمي يساعد على ذلك التجاوز والقفز على البيئة.. صحيح أنه محكوم باشتراطاته الخاصة مما يحجم التوسع والشمولية، لكنه مخرج آمن. كذلك فالتجريب يلعب دوراً مهما في معالجة مشكلة الإلزام البيئي.
لكن العلاج الحقيقي هو أن نتقبل الآخر، أن نتقبل الجديد، أن نتقبل المنهج المتنحي. هذا هو علاج جذري للمشكلة كما أتصور.