وأنا أتأمل بدايات اهتمامي بأدب المقاومة أتساءل عن دور الجامعة الأردنية التي درست فيها بين ١٩٧٢و١٩٧٦ وبين ١٩٨٠و١٩٨٢ في تعريفي به.
ابتداء أشير إلى أن أساتذة الجامعات ممن يدرسون الأدب الحديث غالباً ما يتوقفون أمام أبرز أعلامه وظواهره.
في الشعر مثلاً يدرسون البارودي وشوقي وحافظ وعمر أبو ريشة والشابي وشعراء المهجر وشعراء أبولو، ونادراً ما درسوا - وأنا أكتب عن ٧٠ القرن ٢٠ - الشعراء الجدد كالسياب والبياتي وعبد الصبور ونزار قباني.
وفي الرواية والمسرحية غالباً ما يتوقفون أمام نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وهم معذورون، فمن خلال مساقين أو ثلاثة لا يستطيعون أن يدرسوا أكثر من نماذج لهذه الأسماء.
وهذا ما حدث أيضاً في أثناء دراستي، وإن كان هناك استثناء، ففي مساق «المدخل إلى تذوق النص الأدبي»، درست قصيدة السياب «أنشودة المطر» وقصيدة محمود درويش «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» وقصيدة لمصطفى وهبي التل (عرار)، وفي مساق الأدب الحديث عاد مدرسه ودرسنا قصيدة درويش.
غير أن ثقافة الطالب في الجامعة لا تتشكل من المقررات فقط. إنها تتكون من الأجواء الثقافية للجامعة والحركة الثقافية في البلد والصحف والمجلات الصادرة وفضول الطالب ورغبته في القراءة ودخله أيضاً، وسيكون للعوامل الأخيرة الدور الأبرز. كانت القصيدة مثيراً ودالاً ومحرضاً، وكان الانفتاح على بقية العوامل.
في أثناء دراستي كان لمكتبات الرصيف في عمان دور كبير في تغذية قراءاتي، فقد كانت تعرض المجلات الأدبية الصادرة في سورية «المعرفة والموقف الأدبي» وفي العراق «الأقلام» وفي ليبيا «الثقافة العربية»، عدا المجلات المصرية ومجلة «أفكار» الأردنية، وكنت أشتري هذه المجلات وأقرأ فيها، وحين أعود إلى نابلس أتركها لدى الأقارب أو الأصدقاء.
وهنا أشير إلى مكتبة خاصة في الجامعة الأردنية كانت تبيع أحدث المنشورات الصادرة في العالم العربي.
منها اشتريت رواية يحيى يخلف «نجران تحت الصفر» فكانت ثاني عمل قرأته من روايات فلسطينية، وكان الأول رواية سحر خليفة «لم نعد جواري لكم» التي صدرت في مصر في ١٩٧٤.
لم أكتفِ بقراءة رواية يخلف، فقد أحضرتها معي وكتبت عنها في مجلة «البيادر» تحت عنوان «محاولة لقراءة رواية» واستعار أسعد الأسعد النسخة وأعاد طباعتها.
في قاعة المطالعة في الجامعة صرت أقرأ لمعين بسيسو عموده الأسبوعي، وحين أتى نزار قباني إلى عمان في ١٩٧٦ وألقى بعض قصائده في قصر الثقافة أصغيت إليه.
كان درويش وشعراء المقاومة الأوفر حظاً من أدباء فلسطين الذين تعرفت إليهم، أما كنفاني وجبرا وحبيبي، فحتى ١٩٧٦ لم أكن قرأت لهم. لقد قرأت لهؤلاء بعد إنهاء مرحلة البكالوريوس في أثناء عملي معلماً، وهذا ما سأتوقف أمامه في مقال لاحق عن اكتشاف كنفاني في فلسطين المحتلة.
أعتقد أن الواقع تغير في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ صار درويش مثلاً علماً بارزاً وصار يدرس في الجامعات العربية وتكتب عنه أطروحات ماجستير ودكتوراه بكثرة، بل واهتم به أساتذة الجامعات الأردنية اهتماماً فوق العادة، فألفوا حول حياته وأشعاره كتباً كثيرة وكتبوا عشرات، إن لم يكن مئات، الدراسات.
الجامعة إذاً أشعلت شرارة سرعان ما أدت إلى لهيب تواصل ليكون للذات الدور الحاسم والفاصل والمقرر، فماذا عن دور جامعاتنا الفلسطينية بالتعريف بالأدب الفلسطيني وموضوعاته وأعلامه وظواهره الفنية وأجناسه الأدبية؟
في النصف الثاني من ٧٠ القرن ٢٠ فتحت جامعة بيرزيت المجال للمعلمين، ممن حصلوا على شهادة الدبلوم، ليكملوا دراستهم ويحصلوا على البكالوريوس، فتعرفت إلى بعضهم بحكم الوظيفة والزمالة وصاروا يعرضون علي بعض ما يدرسون في المساقات الثقافية، وعرفت أن بعض مدرسيها يدرسون بعض قصص كنفاني (كان تدريسه غير وارد في الجامعة الأردنية واختلف الأمر في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جامعة دمشق، فقد اهتم به إحسان عباس وحسام الخطيب). ولما كنت معلماً شاباً ومتحمساً فقد غامرت بإنشاء مكتبة صفية أحضرت لها بعض روايات كنفاني التي نشرتها دار صلاح الدين ودار الأسوار، وهكذا عرفت طلاب المدارس ممن علمتهم بنتاجه، ولم يغد تدريس الأدب الفلسطيني رسمياً إلا حين صرت أحاضر في جامعة النجاح في ١٩٨٢ حيث أحيل تدريسه إلي فدرست الشعر والرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية أيضاً ودرست أبرز أعلامه في هذه الأجناس. (في بداية تأسيسها اعتمدت النجاح على خطط الجامعة الأردنية ثم صار قسم اللغة العربية فيها يحذف مساقات ويضيف أخرى).
ولم يقتصر التعريف بالأدب الفلسطيني على مساق واحد، فطرحت مساقات اختيارية في برنامجي الماجستير والبكالوريوس وقد درستها وكان ثمرة تدريسها تأليف كتاب «قراءات في القصة القصيرة الفلسطينية» (٢٠١٢) ودراسات أخرى وكتابة الطلبة عشرات رسائل الماجستير، وفي العام ٢٠١٦ أدرج مساق القدس في الأدب العربي وصار هناك مجال أرحب وأوسع لإيصال هذا الأدب إلى دارسيه.
الكتابة تطول والمساحة محدودة.
أ. د. عادل الأسطة
2022-04-03
ابتداء أشير إلى أن أساتذة الجامعات ممن يدرسون الأدب الحديث غالباً ما يتوقفون أمام أبرز أعلامه وظواهره.
في الشعر مثلاً يدرسون البارودي وشوقي وحافظ وعمر أبو ريشة والشابي وشعراء المهجر وشعراء أبولو، ونادراً ما درسوا - وأنا أكتب عن ٧٠ القرن ٢٠ - الشعراء الجدد كالسياب والبياتي وعبد الصبور ونزار قباني.
وفي الرواية والمسرحية غالباً ما يتوقفون أمام نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وهم معذورون، فمن خلال مساقين أو ثلاثة لا يستطيعون أن يدرسوا أكثر من نماذج لهذه الأسماء.
وهذا ما حدث أيضاً في أثناء دراستي، وإن كان هناك استثناء، ففي مساق «المدخل إلى تذوق النص الأدبي»، درست قصيدة السياب «أنشودة المطر» وقصيدة محمود درويش «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» وقصيدة لمصطفى وهبي التل (عرار)، وفي مساق الأدب الحديث عاد مدرسه ودرسنا قصيدة درويش.
غير أن ثقافة الطالب في الجامعة لا تتشكل من المقررات فقط. إنها تتكون من الأجواء الثقافية للجامعة والحركة الثقافية في البلد والصحف والمجلات الصادرة وفضول الطالب ورغبته في القراءة ودخله أيضاً، وسيكون للعوامل الأخيرة الدور الأبرز. كانت القصيدة مثيراً ودالاً ومحرضاً، وكان الانفتاح على بقية العوامل.
في أثناء دراستي كان لمكتبات الرصيف في عمان دور كبير في تغذية قراءاتي، فقد كانت تعرض المجلات الأدبية الصادرة في سورية «المعرفة والموقف الأدبي» وفي العراق «الأقلام» وفي ليبيا «الثقافة العربية»، عدا المجلات المصرية ومجلة «أفكار» الأردنية، وكنت أشتري هذه المجلات وأقرأ فيها، وحين أعود إلى نابلس أتركها لدى الأقارب أو الأصدقاء.
وهنا أشير إلى مكتبة خاصة في الجامعة الأردنية كانت تبيع أحدث المنشورات الصادرة في العالم العربي.
منها اشتريت رواية يحيى يخلف «نجران تحت الصفر» فكانت ثاني عمل قرأته من روايات فلسطينية، وكان الأول رواية سحر خليفة «لم نعد جواري لكم» التي صدرت في مصر في ١٩٧٤.
لم أكتفِ بقراءة رواية يخلف، فقد أحضرتها معي وكتبت عنها في مجلة «البيادر» تحت عنوان «محاولة لقراءة رواية» واستعار أسعد الأسعد النسخة وأعاد طباعتها.
في قاعة المطالعة في الجامعة صرت أقرأ لمعين بسيسو عموده الأسبوعي، وحين أتى نزار قباني إلى عمان في ١٩٧٦ وألقى بعض قصائده في قصر الثقافة أصغيت إليه.
كان درويش وشعراء المقاومة الأوفر حظاً من أدباء فلسطين الذين تعرفت إليهم، أما كنفاني وجبرا وحبيبي، فحتى ١٩٧٦ لم أكن قرأت لهم. لقد قرأت لهؤلاء بعد إنهاء مرحلة البكالوريوس في أثناء عملي معلماً، وهذا ما سأتوقف أمامه في مقال لاحق عن اكتشاف كنفاني في فلسطين المحتلة.
أعتقد أن الواقع تغير في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ صار درويش مثلاً علماً بارزاً وصار يدرس في الجامعات العربية وتكتب عنه أطروحات ماجستير ودكتوراه بكثرة، بل واهتم به أساتذة الجامعات الأردنية اهتماماً فوق العادة، فألفوا حول حياته وأشعاره كتباً كثيرة وكتبوا عشرات، إن لم يكن مئات، الدراسات.
الجامعة إذاً أشعلت شرارة سرعان ما أدت إلى لهيب تواصل ليكون للذات الدور الحاسم والفاصل والمقرر، فماذا عن دور جامعاتنا الفلسطينية بالتعريف بالأدب الفلسطيني وموضوعاته وأعلامه وظواهره الفنية وأجناسه الأدبية؟
في النصف الثاني من ٧٠ القرن ٢٠ فتحت جامعة بيرزيت المجال للمعلمين، ممن حصلوا على شهادة الدبلوم، ليكملوا دراستهم ويحصلوا على البكالوريوس، فتعرفت إلى بعضهم بحكم الوظيفة والزمالة وصاروا يعرضون علي بعض ما يدرسون في المساقات الثقافية، وعرفت أن بعض مدرسيها يدرسون بعض قصص كنفاني (كان تدريسه غير وارد في الجامعة الأردنية واختلف الأمر في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جامعة دمشق، فقد اهتم به إحسان عباس وحسام الخطيب). ولما كنت معلماً شاباً ومتحمساً فقد غامرت بإنشاء مكتبة صفية أحضرت لها بعض روايات كنفاني التي نشرتها دار صلاح الدين ودار الأسوار، وهكذا عرفت طلاب المدارس ممن علمتهم بنتاجه، ولم يغد تدريس الأدب الفلسطيني رسمياً إلا حين صرت أحاضر في جامعة النجاح في ١٩٨٢ حيث أحيل تدريسه إلي فدرست الشعر والرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية أيضاً ودرست أبرز أعلامه في هذه الأجناس. (في بداية تأسيسها اعتمدت النجاح على خطط الجامعة الأردنية ثم صار قسم اللغة العربية فيها يحذف مساقات ويضيف أخرى).
ولم يقتصر التعريف بالأدب الفلسطيني على مساق واحد، فطرحت مساقات اختيارية في برنامجي الماجستير والبكالوريوس وقد درستها وكان ثمرة تدريسها تأليف كتاب «قراءات في القصة القصيرة الفلسطينية» (٢٠١٢) ودراسات أخرى وكتابة الطلبة عشرات رسائل الماجستير، وفي العام ٢٠١٦ أدرج مساق القدس في الأدب العربي وصار هناك مجال أرحب وأوسع لإيصال هذا الأدب إلى دارسيه.
الكتابة تطول والمساحة محدودة.
أ. د. عادل الأسطة
2022-04-03