أ. د. عادل الأسطة - محمود درويش.. ملف - الجزء الثاني- (11- 20)

تابع

11- محمود درويش .. امرؤ القيس والمتنبي وأبو فراس "في ذكرى ميلاده"

ما هو شكل العلاقة بين محمود درويش وامرئ القيس، وبينه وبين المتنبي، وبينه وبين أبي فراس الحمداني، وهؤلاء الثلاثة هم أكثر شعراء عرب استحضرهم في شعره، وإن استحضر غيرهم مثل تميم بن مقبل وأبي تمام والمعري، ومجنون ليلى وجميل بثينة؟
استحضر درويش عبارة تميم بن مقبل "لو أن الفتى حجر" غير مرة في أشعاره، وهي عبارة أوردها أدونيس في كتابه "مقدمة للشعر العربي"، وما من قارئ للكتاب إلاّ حفظها ورسخت في ذهنه، حتى إذا ما قرأ مختارات أدونيس "ديوان الشعر العربي" راقت له قصة تميم بن مقبل وقصيدته التي مطلعها، إن لم تخني الذاكرة:
هل عاشق نال من دهماء حاجته في الجاهلية قبل الدين مرحوم
ما أطيب العيش، لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

والقصة تقول إن تميم تساءل إن كان الله سيرحمه، لأنه تزوج في الجاهلية من زوجة أبيه، وهي عادة حرّمها الإسلام.
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر، ودرويش كرّر سطره: ونحن نُحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، وكرّر حبه للحياة: تحيا الحياة، فوق الأرض لا تحت الطغاة. والذين رثاهم، مثل عز الدين القلق، كانوا، أيضاً، يُحبّون الحياة، ولكن: لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه ولا تفتك به، والحوادث لا تنبو عنه.
وسيصدر درويش ديوانه "لا تعتذر عمّا فعلت" (2003) بسطر أبي تمّام: "لا أنت أنت، ولا الديار ديار"، وما كان الشاعر يستحضر أبا تمّام في شعره من قبل، حتى إذا ما مرّ بتجربة تشبه التجربة التي دفعت أبا تمّام لأن يقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحُبّ إلاّ للحبيب الأوّل
كم منزلٍ في الأرضِ يألفه الفتى وحنينه أبداً لأوّل منزل
نراه يكتب ـ أي درويش ـ قصائد وقوف على الأطلال، قصائد يتغنّى فيها بالمكان الأوّل الذي نشأ فيه، ولكن: لا أنت أنت ولا الديار ديار.
هكذا تساءل درويش في قصيدته "في بيت أمي": أأنت يا ضيفي أنا/ فمن منا تنصّل من ملامحه ـ أو تجرّد ـ، وهكذا سيكتب قبل موته قصيدته "طللية البروة"، وسيتساءل فيها: أين الآن أغنيتي؟، وحين يطلب منه أن يرى الشوارع الحديثة ومصانع الألبان، فوق أطلال قريته يُجيب: لا أرى إلاّ الغزالة في الشبّاك، أي لا يرى إلاّ مكان الطفولة وملاعبها.
وأمّا المعرّي فإن بيته:
صاح، خفّف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد

ظل يحضر غير مرّة في أشعار درويش. حضر في قصيدته "الحوار الأخير في باريس" (لذكرى عز الدين القلق)، وحضر في "جدارية" (2000)، كما حضرت أبيات أخرى للمعرّي في أشعار الشاعر. هكذا يقول درويش في رثاء عز الدين:
صاح، هذه زنازيننا تملأ الأرض من عهد عاد
فأين البياض وأين السواد؟
عشق محمود درويش الفتاة اليهودية وأحبّها وتغزّل فيها، ولكنه لم يستحضر شخصية تراثية شعرية كان لها تجربة مع غير عربيات.
ولا أدري إن كان قرأ شاعر الحروب الصليبية ابن القيسراني، ابن قيسارية، فقد كان هذا تغزّل بالصليبيات، وقال:

إذا ما زرت مارية فما سعدى وماريّا
لها وجه مسيحي ترى الميت به حيّا
وكان يتسلّل إلى الأديرة والكنائس ويُغازل الراهبات، حتى وهو في الستين من عمره.
والطريف أن الشاعر حنا أبو حنا فطن إلى ابن القيسراني وكتب عنه، ولكن بعد أن غادر درويش حيفا.
لم تذكر ريتا درويش بمارية أو ببربارة صاحبة الدير، ولكن الشاعر حين كتب قصائد غزل في "سرير الغريبة" (1999) تذكّر جميل بثينة ومجنون ليلى، وما زلت أفكّر في هاتين القصيدتين حقاً.
هل كان الشاعر ذات نهار، مثل جميل، وهل عشق عشقاً مجنوناً ذات يوم؟ أورد الشاعر اسم جميل في عنوان قصيدته، وكذلك اسم المجنون، ولكنه لم يذكر اسم تميم بن مقبل وهو يستحضر عبارة من شعره، وذكر اسم أبي تمّام في صدر الديوان، ولم يخصص له قصيدة يتصدّر اسمه عنوانها، وربما ذكر المعرّي في "جدارية" ولكنه لم يخصّه بقصيدة.
ثمة ثلاثة شعراء خصّهم درويش، في فترة مبكرة تقريباً، من مسيرته الشعرية بقصائد، وبرز اسم كل واحد منهم في العنوان، عنوان القصيدة، تماهى مع بعضهم واختلف مع آخر منهم.
تشابهت تجربته مع المتنبي، جزئياً، وكذلك مع أبي فراس، أيضاً، جزئياً، ولكنها اختلفت أبداً مع امرئ القيس.
محمود درويش وامرؤ القيس:
ربما، بل من المؤكد، أن امرأ القيس هو أوّل شاعر استحضره درويش في أشعاره، وقد خصّه، في فترة مبكرة جداً، بقصيدة عنوانها "امرؤ القيس"، وقد لا يعثر عليها قارئ الأعمال الشعرية له، لأنه لم يُدرجها فيها.
كان درويش، يوم كتبها، شاعراً حزبياً ملتزماً بالماركسية، وكان يكتب شعراً يعبر فيه عن جماهير شعبه وعن عشقه أرضه، وكان يرى أن مهمّة الشاعر هي تغيير العالم، فهو صاحب رسالة، لا إنسان لا همّ له إلاّ الخمر والحِسَان وذبح الناقة لهن، والوقوف على الأطلال.
لم يكن درويش يطرب لعبارة: اليوم خمر وغداً أمر، أو لقول الشاعر: ويوم عقرت للعذارى مطيتي، فقد كان يرى أنه في دنيا جديدة تتطلب منه أن يكتب شعراً جديداً، وهكذا اختتم قصيدته بقوله: "شاعر الأطلال فان/ وأنا أبقى وأهلي/ والأغاني".
وفي العام 1995، سيعود درويش إلى امرئ القيس ثانية، وسيكتب قصيدته "خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس" التي أدرجها في ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً"، وسيرى في الشاعر الجاهلي مثالاً للعربي الذي يطلب النجدة من الأجنبي، ولن يتماهى الشاعر مع الشاعر، فالعنوان يقول إن العلاقة علاقة اختلاف. ماذا فعلت بنا وبنفسك. اذهب على درب قيصر وحدك. وكان بيتا امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً، أو نموت فَنُعذرا

كانا حضرا مبكراً في أشعار الشاعر، وتحديداً في قصيدته "أقبية، أندلسية، صحراء" (1979): "فلا تبك، يا صاحبي، حائطاً يتهاوى/ وصدّق رحيلي القصير إلى قرطبة".
محمود درويش والمتنبي:
قبل أن يصدر محمود درويش ديوانه "هي أغنية.. هي أغنية" (1986) بسطر المتنبي: "على قلق كان الريح تحتي"، وقبل أن يقول في مقابلة معه، بتواضع كبير: "إن كل ما قلته لا يساوي سطر شعر من شعر المتنبي"، قبل هذا كتب قصيدته الشهيرة "رحلة المتنبي إلى مصر"، وهي قناع لرحلة محمود درويش إلى باريس، وثمة تشابه في جزئية من حياة الشاعرين، في مرحلة من مراحل حياتهما، ثمة تشابه يصل حد التطابق.
قدّر سيف الدولة المتنبي وأجلّه واحترمه وأعطاه، ولكنه ذات مرّة لم يردّ له الاعتبار، حين أهانه ابن خالويه في بلاطه، ما جعل المتنبي يرحل عن حلب، ويتجه إلى كافور، هو الذي أحبّ سيف الدولة، ولم يحبّ كافورا. وقدّر ياسر عرفات محمود درويش واحترمه وأعطاه، ولكنه ذات مرّة لم يكترث لرأيه حين كان يعمل في مركز الأبحاث، فغضب محمود درويش وغادر إلى باريس.
وهكذا كتب "رحلة المتنبي إلى مصر" التي تتطابق أنا المتكلّم فيها، وهو محمود درويش، مع المتنبي.
محمود درويش وأبو فراس:
ما وجه الشبه بينهما؟ وهل من تشابه في التجربة؟ وما الذي دفع درويش لأن يكتب قصيدته "من روميات أبي فراس" التي ظهرت في "لماذا تركت الحصان وحيداً" (1995)؟
الديوان سيرة شعرية للشاعر وهو يعبّر عن مراحل مختلفة من حياته، ويوم كان في حيفا سجن وزارته أمه، وكان يومها ينتظر العرب ليخلّصوه من الاحتلال.
هذه التجربة تقترب من تجربة أبي فراس في حياته: سجن بعد أن أُسر، وخاطب أمه بقصائد هي من عيون الشعر العربي، وهكذا عبّر درويش عن تجربة حيفا من خلال أبي فراس، و.. و.. و.. .

أ. د. عادل الأسطة
2014-03-09
جريدة الأيام الفلسطينية

* * *

12- شتـات: كل ما كان منفى

اللغة القومية:
صباح الثلاثاء 10/12/2013، في التاسعة أصغيت إلى برنامج بثته قناة الجزيرة عن واقع اللغة العربية ومستقبلها.
الموضوع يروق لي لأنني عربي ولأنني أدرس الأدب العربي أيضاً، وربما لأن العربية هي اللغة التي أتقنها، علما بأنني قد أقرأ بالانجليزية وبالألمانية، بمساعدة القاموس، ولا أزعم أنني أعرف العبرية التي تعلمت قليلاً منها.
ما لفت نظري أشياء كثيرة أهمها ما قاله الدكتور الصديق أحمد الخطيب، الأستاذ في جامعة البتراء، حول اعتزاز الألمان بلغتهم اعتزازاً نفتقد نحن العرب إلى مثله، من ذلك أن الألمان لا يكتبون إلا بلغتهم، فهو راسل مرة جهة ألمانية سائلاً عن مخطوط يحتاج إليه، ولأنه لا يعرف الألمانية، ولا يجد من يكتبها له، فقد راسل الجهة بلغة أخرى.
كان رد الألمان كما قال الصديق: انهم أجابوني، ولكنهم كتبوا إليّ أنهم لن يجيبوا فيما بعد على أية رسالة من رسائله ما لم تكن بلغتهم: الألمانية.
أنا لا أريد أن أقول شيئاً آخر غير ما قاله الدكتور بخصوص ما حدث معه.
لا أريد أن أصدق أو أن أنفي ما قاله وما حدث معه، ولكن ما أعرفه عن الألمان أنهم مهووسون بتعلم اللغات الأخرى، بخاصة الانجليزية، ويستغربون حين يعلمون أنك لا تتقنها، وقد بلغ هوسهم بتعلم هذه اللغة أن كانت الفتيات الألمانيات يسافرن إلى انجلترا ليعملن مربيات حتى يتعلمن اللغة.
لم يحب الألمان الشرقيون اللغة الروسية وربما ما أتقنوها، فلم تترك أثراً في لغتهم وظلت اللغة الألمانية شبه صافية في ألمانية الشرقية، لكنها لم تكن كذلك في ألمانية الغربية، فقد دخلتها مفردات كثيرة من لغات عديدة.
في ألمانية، إذا كنت تدرس في إحدى جامعاتها، ولم تتقن الألمانية، يجيز لك قانون الجامعة أن تكتب بالانجليزية، وهناك رسائل دكتوراه وماجستير كثيرة، صدرت عن دار نشر (كلاوس شفارز)، وهي متخصصة بنشر الرسائل فيما يخص العلوم الإسلامية والعربية، صدر بالانجليزية، بل إن قانون الجامعة التي درست فيها أنا (بامبرغ) يجيز للطالب أن يكتب رسالته بأية لغة يتقنها المشرف والممتحن الثاني، على شرط أن يقدم لها ملخصاً بالألمانية، لا يقل عن أربعين صفحة. من هي تلك الجهة يا د. احمد؟

منامات:
سأصغي أيضاً، من خلال قناة الجزيرة، إلى الرئيس المصري السيسي يتحدث عن مناماته.
إنه صاحب منامات منذ 35 عاماً، وآخر ما قاله إنه حلم/ رأى مناماً اجتمع فيه مع الرئيس أنور السادات، يخبره الأخير فيه أنه سيغدو رئيس جمهورية. هل كان الصوت حقاً صوت السيسي؟
المنامات جنس أدبي عرفه الأدب العربي، وقبل شيوعه في الأدب العربي قرأنا في القرآن عن رؤى الأنبياء. كم مرة تكررت كلمة رؤية في القرآن الكريم؟ لا أدري، ولكن هل يغيب عن أذهاننا ما ورد في قصة سيدنا يوسف؟
منذ قصيدة البوصيري المشهورة التي شاعت وانتشرت وقلدت وعورضت وشرحت ودرست وحفظت وعلمت في المدارس عرفنا أكثر وأكثر عن الرؤى والمنامات.
كم من مسلم حفظ تلك القصيدة حتى يبرأ من مرض ألم به؟! فصاحبها نظمها وهو مصاب بالفالج، وتحقق له ما يريد: الشفاء.
نحن، أعني دارسي الأدب العربي، درسنا المقامات أكثر مما درسنا المنامات؛ مقامات الحريري، وقبلها الهمذاني، وبعدها السيوطي، وما عاد الصديق الشاعر إبراهيم قراعين يكتب مقامات، ولا أعرف ما هي أخباره، هو الذي كتبها في نهاية 80 ق 20 وبداية 90 ق20.
قبل سنوات قليلة كتب الروائي اللبناني روايته "كأنها نائمة"، ولا أدري إن كنت قرأت، من قبل، رواية فيها حضور للمنامات كما في هذه الرواية. فيما بعد قرأت أيضا رواية علوية صبح "مريم الحكايا"، وحين كانت إحدى طالباتي تتردد على مكتبي بكثرة، وطلبت مني أن أقترح عليها موضوعاً تكتب فيه أطروحة الماجستير، اقترحت عليها أن تكتب عن المنامات في الرواية اللبنانية.
أنا شخصياً غالبا ما أدون ما أراه أو أحلم به في منامي. لا أقلد نجيب محفوظ فيما عكف عليه في آخر سنوات عمره، حيث وضع إلى جانب سريره قلماً وورقة، ليدون رأيت ما يرى النائم.
أحياناً يحدث معي بالضبط ما رأيته، وأحياناً يحدث عكسه تماماً. ولقد دونت كثيراً من مناماتي في روايتي "تداعيات ضمير المخاطب" (1993). في صباح 12/12/2013 رأيتني أقف على مفرق طرق، وتحديداً مدخل نابلس قرب مخيم بلاطة، المفرق المؤدي إلى القدس: أنا ورجل وامرأة تقود كلباً ضخماً يفلت منها فيلاحق الرجل الثاني الذي سرعان ما يختفي. حين يقترب الكلب مني أصرخ على اللحام بأن يطعمه، فيرمي له بأربع قطع كبيرة، وهكذا لا يقترب الكلب مني. الفرق بيني وبين السيسي أنني لست مسؤولاً عن دولة.

محمود درويش: كل ما كان منفى
قبل أسبوعين أتيت على ما يكتب عن محمود درويش، ومنذ أسبوعين، وربما قبل ذلك، أكرر سطره: "كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى".
السطر ورد في قصيدة درويش "أنت، منذ الآن، أنت" التي ظهرت في "أثر الفراشة" (2007) وراء "أنت، منذ الآن، غيرك". الثانية كتبها إثر أحداث غزة وما جرى فيها حين سيطرت حماس على السلطة، والأولى كتبها حين زار حيفا، وفي ضوء المناسبتين لا نرى في الواحدة ما ينقض الثانية: "أحبك أو لا أحبك" (1971).
مرة كتب حسن خضر أن محمود درويش شاعر لم يتوقف الدارسون أمام جوانب أخرى كثيرة منه: حياته وأشعاره، وأظنه قالها لي حين التقيت به في مقهى في رام الله، وكانت تجلس معنا مايا أبو الحيات الروائية الصاعدة.
وأظن أن حسن البطل أشار إلى درويش مفكراً. أنا لا أنفي هذا إطلاقاً، ومع أنني لا أزعم أنني قرأت الشعر العربي كله لأقول من هو شاعر حكيم ومن هو شاعر شاعر أو شاعر وحكيم، إلا أنني أرى غنى أشعار درويش، ومثله مظفر النواب، بالأفكار والحكمة، وأحياناً أبالغ في الزعم، فأقول: إنهما مثل المتنبي والمعري في جانب الحكمة والفلسفة.
"كل ما كان منفى يعتذر، نيابة عني، لكل ما لم يكن منفى"، قالها درويش في حيفا 2007، حين زارها ليلقي فيها أشعاره، وليحيي أمسية أثارت ضجة وجدلاً.
فهل صحيح أن كل ما كان منفى يعتذر لكل ما لم يكن منفى.
كل ما وليس كل من، وربما قصر الشاعر القول عليه هو الذي أقام في حيفا حتى 1970، ولم يرها ربع قرن، وعاد إليها زائراً غير مرة منذ 1996، وخلال فترة الغياب حنّ إلى المدينة ورأى في كرملها ما يفوق خصور كل النساء وكل العواصم، حتى أنه حين أصدر "محاولة رقم 7" عبر عن ندمه، وحين كتب "في حضرة الغياب" (2006) ردد السؤال: لماذا نزلت عن الكرمل؟ ترداداً لافتاً.
هل يقصد درويش أن على فلسطينيي المنفى أن يعتذروا لفلسطينيي الداخل؟ لا أظن هذا، وإلاّ لما كتب: كل، لماذا؟ لأن هناك، ممن أقاموا في المنفى، أفضل بكثير، من بعض من يعيشون في المنفى. أما وأنه قال: كل ما، فإن المرء يتقبل ما ذهب إليه، وربما لا يتناقض وما قاله: ولكن غصناً واحداً من الكرمل الملتهب يعادل كل خصور النساء وكل العواصم.

للحقيقة وجهان.. والثلج أسود
صباح الجمعة انقطعت الكهرباء. ماذا سأفعل؟ كان الثلج يتساقط، ولقد أعادني إلى ألمانية ومدينة بامبرغ ما بين 1988 و1991، كما أعادني إلى الجامعة الأردنية في منتصف 70 ق20، يومها عطلت الجامعة أسبوعاً. في نابلس لم أر ثلجاً كهذا حول منزلي، ربما شاهدته في سنوات خلت، قليلة، على سفوح جرزيم وعيبال. وحين كنت أتابع نشرات الأخبار وأشاهد مأساة السوريين في منافيهم الجديدة تذكرت ما كتبه محمود درويش في "أحد عشر كوكباً": "للحقيقة وجهان.. والثلج أسود".
في ضوء عتمة الشتاء ستمتد يدي إلى "أحد عشر كوكباً" لأقرأ المقطع/ القصيدة. هذا البياض المتساقط هو للسوريين سواد سواد. ماذا يفعل السوريون الآن؟ ماذا يفعلون في خيامهم التي ذكرتني بخيام أهلي لاجئين من 1948 ـ 1958، بسنة الثلجة، بمرض أخي الكبير من البرد، كما كان أبي يروي. هل ثمة فرق ما بين غزاة وطغاة ومتعصبين متشددين دينياً؟
في ضوء العتمة، عتمة الشتاء، سأقرأ القصيدة، وسأكتب هذه الصفحة. الآن، ربما أكثر من أي وقت، أفهم مقولة الشاعر: للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. لم تسعفني شروحات شراح القصيدة، لم تسعفني مقولات (جان كوهين) عن بنية اللغة الشعرية: الانزياح، قدر ما أسعفني الواقع، قدر ما أسعفني لحظة كتابة المقالة ولحظة قراءة القصيدة/ المقطع.
هذا البياض الأبيض حولي يذكرني بمأساة السوريين الآن. يذكرني بمأساة أهلي لاجئين. للحقيقة وجهان.. والثلج أسود. ما يبدو لنا بياضاً يبدو للاجئين سواداً، وما يبدو لنا نعمة، يبدو لهم نقمة.
كتب درويش نصه زمن مدريد وأوسلو ولم يكن راضياً. تذكر الأندلس وتوقيع أبي عبد الله الصغير اتفاقية السلام، التي كانت استسلاماً: الخروج والتسليم، وغالباً ما كان الشاعر يربط بين الأندلس وفلسطين. ماذا تقول القصيدة؟
كيف يكون الثلج أسود؟ حين يتركنا السلام حفنة من غبار. وحين يكون العرش نعشاً. هل تنبأ درويش بنهاية أبي عمار؟ هل كان كل شيء معداً له/ ولنا.؟
في ضوء العتمة، في لحظة انقطاع الكهرباء كتبت هذه الصفحة.

أ. د. عادل الأسطة
2013-12-22

* * *

13- محمود درويش: مفهوم جديد للبطولة

هل أعاد محمود درويش النظر في كثير من مفاهيمه على ضوء تجربته؟
هذا ما أخذت أفكر فيه وأنا أتابع مسيرته الشعرية، وأعتقد أن دراسته دراسة تعاقبية تبدو دراسة مجزية له ولتجربته ولغيره أيضا.
مرة في شبابه كتب "خيول الروم أعرفها وإن يتبدل الميدان"، وأضاف: "أنا زين الشباب وفارس الفرسان"، وفي "لاعب النرد" كتب "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم/ أنا مثلكم أو أقل قليلا".
ومرة في شبابه كتب: "من يشتري تاريخ أجدادي بيوم حرية"، ثم بعد عشرين عاما عاد وكتب: "خسرت أجمل ما في يوم خسرت ماضي".
وأنا أرصد تنظيراته للشعر (الشاعر من خلال شعره منظرا للشعر) لاحظت الشيء نفسه. من إيمانه بدور الشعر في المعركة إلى قناعته بأنه لم يجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تغيير صاحبها، مع أن رأيه في الشعر ظل يتغير بين فترة وفترة.
مثل موقفه من أناه وموقفه من ماضيه وموقفه من الشعر موقفه أيضا من مفهوم أدب المقاومة؛ في "أحمد الزعتر": "قاوم/ إن التشابه للرمال وأنت للأزرق" 1976 وفي "مديح الظل العالي": فليس لك المكان/ ولا العروش المزبلة" و"حرية التكوين أنت وأنت عكس المرحلة" 1982، وفي "حالة حصار" 2002: "أن تقاوم يعني: التأكد من/ صحة القلب والخصيتين/ ومن دائك المتأصل: /داء الأمل".
مؤخرا طلب مني أن أتكلم عن مفهوم البطولة في أدب الانتفاضة ولم أتردد في الموافقة لسبب هو أن الموضوع جاهز لدي ولدي ما أقوله فيه. هل أنسى ديوان "حالة حصار" لمحمود درويش وفهمه الجديد لدال البطولة؟
في قصيدة عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) "سنعود" تبدو البطولة مشابهة لما قرأناه في معلقة عمرو بن كلثوم وفي أشعار المتنبي: "النحن المتضخمة والأنا المتضخمة " والبطل هو من ينتصر على عدوه بالسلاح.
مفهوم البطولة تمثل في الشعر العربي على مر العصور بتصوير القائد ومعاركه وانتصاره فيها، وربما لم يختلف هذا المفهوم في الشعر الفلسطيني وإن حل الفدائي محل البطل القائد.
في "حالة حصار" يقرأ القارئ مفاهيم جديدة - أو هكذا اقرأ أنا -.
وعموما فإن البطولة تتجسد في أشكال عديدة.
البطولة تعني أن تبقى على قيد الحياة:
أن نربي الأمل.
أن ننسى الألم.
أن نعلم أعداءنا حب الحياة.
أن نكون، وبعدها نحن مختلفون على كل شيء.
والبطولة تعني أن نجعل من العدو القاتل إنسانا: "أيها الواقفون على العتبات ادخلوا/ واشربوا معنا القهوة العربية (قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا).
والبطولة لا تتجسد في القوة فقط، وإلا لكان جنود الاحتلال الأقوى منا هم الأبطال. محمود درويش يخاطب هؤلاء الجنود غير مرة بـ (إلى قاتل): فلقد كان هناك من قتل أمك في غرف الغاز ولو تأملت وجه الضحية لتذكرت وجه أمك هناك ولتحررت من حكمة البندقية وغيرت رأيك: "ما هكذا تستعاد الهوية".
ويخاطب أيضا الحراس الإسرائيليين (إلى حارس): سأعلمك الانتظار لعلك تسأم مني/ وقد ترى شبها طارئا بيننا: لك أم/ ولي والدة/ ولنا مطر واحد/ ولنا قمر واحد/ وغياب قصير عن المائدة".
وإن علمنا عدونا ما سبق فنحن أبطال.
والبطولة تعني الطموح إلى حياة أفضل.
ليست البطولة الموت من أجل الوصول إلى حوريات الجنة "الشهيد يوضح لي: لم أفتش وراء المدى/عن عذارى الخلود، فإني أحب الحياة/ على الأرض، بين الصنوبر والتين، لكنني/ ما استطعت إليها سبيلا، / ففتشت عنها بآخر ما أملك: /الدم في جسد اللازورد".
و:"الشهيد يحذرني: لا تصدق زغاريدهن/ وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا" و:"الشهيد يحاصرني: لا تسر في الجنازة/ إلا إذا كنت تعرفني. /لا أريد مجاملة من أحد".
وأين ما سبق مما عرف من قبل؟ أين "لا تصدق زغاريدهن "من "يا أم الشهيد وزغردي/ كل الشباب ولادك"؟
أم الشهيد تنتظر ابنها العريس الذي استشهد ليلة عرسه. تنتظر عودته من شهر العسل فهي أم. تسأل عن ابنها الشهيد فتجاب: "قيل هناك في السماء ملاكان/ يستكملان طقوس الزواج فزغردت، /ثم رقصت وغنيت حتى أصبت/ بداء الشلل/ فمتى ينتهي يا حبيبي شهر العسل؟".
وهي لم تر ابنها ماشيا في دمه ولم تر الأرجوان على قدمه بل رأته:
"كان مستندا للجدار
وفي يده
كأس بابونج ساخن
ويفكر في غده"
هكذا هو الفلسطيني والبطولة أن نبقى على قيد الحياة.
هل الفهم السابق للبطل جديد في أدبياتنا؟
أعتقد أن ما يقدمه محمود درويش نادرا ما قدم من قبل وهو قد لا يروق لكثيرين، ولكن علينا أن نتابعه وأن نفكر فيه.
(من المداخلة التي ألقيتها في معرض الكتاب في 7/5/2018)

عادل الأسطة
2018-05-13
جريدة الأيام الفلسطينية

***

14- سقط الحصان عن القصيدة سقط القطار عن الخريطة

يسألني أحد طلابي السؤال التالي عن إحدى قصائد الشاعر محمود درويش: ماذا يقصد الشاعر بقوله: سقط الحصان عن القصيدة؟
وسأجيبه وأنا أعد نفسي لإلقاء محاضرة في الأدب الفلسطيني: الحصان هو الثورة التي أخذت تغيب عن أشعار الشاعر منذ الخروج الكبير من بيروت، فقد كان الشاعر ما بين ١٩٧٢ و١٩٨٢ شاعر الثورة، أيام كانت هذه في عنفوانها.
هل سأكتفي بما قلت للطالب أم أن الموضوع سيشغلني؟ سأتذكر أشعار أبي الطيب المتنبي في الحصان، أبو الطيب الذي قال: "أعز مكان في الدنا سرج سابح".
وهو الذي كانت الخيول في رومياته لا تقل قيمةً عن الطائرات الحربية في زماننا، حتى إنه لقب بشاعر الخيل.
في مسلسل "في حضرة الغياب" كان الشاعر، أيام كان طفلاً، يركب الحصان ويسير، حتى إنه مرة وقع وكاد يموت، والحصان لدرويش غير الحصان للمتنبي. درويش من أسرة المحراث، وجدّه كان فلاحاً، وكان الحصان يعني له الارتباط بالأرض والحقل، لا وسيلة لبلوغ حصن العدو لمقاتلته. ولكن الحصان في "رحلة المتنبي إلى مصر" (١٩٧٩ / ١٩٨٠) يعني القوة والاندفاع:
"كم اندفعت إلى الصهيل
فلم أجد فرساً وفرسانا"
مات الصهيل بموت عبد الناصر، الرجل ذي الظل الأخضر، ومات بموته الفارس.
هل نفهم من قوله: "سقط الحصان عن القصيدة" غياب القوة والعنفوان والاندفاع عن قصائده بعد ضعف الثورة؟ وماذا بشأن قوله: وأنا سقطت مضرجاً بدم الحصان"؟ هل يعني هذا أن الشاعر ما عاد شاعر ثورة؟ ما عاد شاعر عنفوان واندفاع؟
في قصيدته "على محطة قطار سقط عن الخريطة" يقول درويش: "سقط القطار عن الخريطة". كان ثمة قطار في فلسطين قبل ستين / سبعين عاماً، ثم ما عاد موجوداً كما كان. ولقد احترق الشاعر بجمرة الماضي، وحين كتب القصيدة (٢٠٠٨) كان ما زال حياً.
ضاعت فلسطين عن الخريطة، وها هي تعود. هل سيعود القطار؟ وهل سيبعث الشاعر حياً؟ سأموت وفي نفسي شيء من حتى!!.

أ. د. عادل الأسطة
2012-12-02
جريدة الأيام الفلسطينية

***

15- سقط الحصان عن القصيدة (2) صهيل الخيول على السفح

في شبابه كتب محمود درويش: "خيول الروم أعرفها / وإن تبدل الميدان". وأنا أمعن النظر في دال الحصان، وفيما يعنيه الشاعر بقوله: سقط الحصان عن القصيدة، تذكرت سطريه السابقين، وتذكرت عنوان إحدى مجموعاته: "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" والحصان في المجموعة دال له غير مدلول، فالأخير يتحدّد حسب السياق. في قصيدة "أرى شبحي قادماً من بعيد" التي افتتح بها المجموعة ترد الأسطر التالية: "أطلّ على اسم أبي الطيب المتنبي/ المسافر من طبرية إلى مصر/ فوق حصان النشيد". ماذا يقصد درويش بـ "حصان النشيد"؟ النشيد هو الشعر، وحصان النشيد هو قوة الشعر، شعر المتنبي الذي حقق له شعره مكانةً متميزةً، فالأمراء والملوك رحبوا به لقوة نشيده. الشعر هو جواز السفر إلى بلاط الأمير. وفي "أبد الصبار" يكون الحصان هو الحصان: "ـ لماذا تركت الحصان وحيداً؟ "يسأل الطفل أباه، فيجيب الأب "ـ لكي يؤنس البيت يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"، ولا يختلف المدلول في "في يدي غيمة": "أسرجوا الخيل/ لا يعرفون لماذا،/ ولكنهم أسرجوا الخيل/ في آخر الليل، وانتظروا/ شبحاً طالعاً من شقوق المكان"، وما من شك في أن درويش هنا يكتب عن قرية البروة قبل العام 1948، حيث كان الحصان/ الخيل مكوناً أساسياً من مكونات حياة أهل الريف. الحصان هو الحصان: جزء من سكان البيت، ووسيلة للتنقل.
في "صهيل على السفح" من "ورد أقل" (1986) أي قبل 9 سنوات من "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" يكتب درويش عن مرحلة ما بعد بيروت ـ أي عن العام 1982 وما تلاه، خلافاً للجزء الأول من "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" حيث يعود الزمن الشعري إلى ما قبل النكبة (1948) وخلالها أيضاً، وسنلحظ اختلاف مدلول الدال الواحد، فلم يعد دال الحصان يعني المدلول القاموسي. الحصان هو الثورة، الثورة الفلسطينية والسيدة هي فلسطين أو المرأة الفلسطينية وصهيل الخيول على السفح هو صهيل الفدائيين الذين ليس أمامهم إلاّ مواصلة الصعود، فإذا كان الشاعر قال في بداية القصيدة وفي وسطها "فإما الهبوط وإما الصعود" فإنه في سطرها الأخير قال: "صهيل الخيول على السفح: إما الصعود.. وإما الصعود":
"أتحتاج سيدة في الثلاثين أرضاً لتجمع صورة فارسها في إطار؟
. . . . .
. . . . .
"أعد لسيدتي صورتي. مزقي صورتي حين يصهل فيك حصان جديد" والحصان الجديد هو المقاتل/ الفدائي الجديد. سأموت وفي نفسي شيء من حتى.

2 ـ الأسود يليق بها
"الأسود يليق بكِ" عنوان رواية أحلام مستغانمي الأخيرة (2012). هل قاومت نفسي ورفضت شراءها ساعة رأيتها في المكتبة؟ هل أجلت قراءتها لانشغالي بأمور عاجلة؟ حين أرى رواية لأحلام مستغانمي أكون مثل أصحاب دور النشر وأصحاب المكتبات في بلادنا: الشغف بطباعتها وعرضها ـ بطل الرواية لديه أيضاً مس من شغف، فحين تروق له امرأة، كما راقت له بطلة الرواية المغنية هالة الواقي سورية الأم جزائرية الأب، يفعل كل شيء لأجل الحصول عليها ـ وأنا سرعان ما أقتني نسخة من الرواية، وسرعان ما أبدأ قراءتها: إنه الشغف.
حين اشتريت الرواية لم ألتفت إلى حركة الكاف في "بك" فقرأتها "بك" ـ بكسر ففتحة ـ، وما إن بدأت أقرأ الرواية حتى عرفت أن الأسود ـ أي اللون الأسود ـ يليق بالمغنية هالة، وهي تعجب بهذا اللون، وحين تطلب منها أختها نجلاء أن تستبدله بلون آخر ترفض. كانت هالة ارتدت الأسود حداداً على اغتيال أبيها المغني وأخيها علاء، وأبت أن تستبدله ـ سيظل اسم بطل الرواية ـ إن أحسنت القراءة ـ نكرةً حتى ص206 وفي هذه نقرأ اسمه: طلال هاشم، وطلال هاشم هذا عاش في البرازيل 25 عاماً وغدا رجل أعمال يملك الملايين. كانت رغبته أن يصبح أستاذاً في الأدب المقارن، لكنه لم يحقق ما صبا إليه، فهاجر ثم عاد إلى بيروت ثرياً، وحين شاهد هالة في برنامج تلفازي سحره صوتها، لا وهي تغني، بل وهي تتكلم، فعشقها من صوتها، ما يذكّرنا ببيت بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة / والأذن تعشق قبل العين أحياناً
وهكذا يبدأ إرسال الورود إليها ليوقعها في حبائله، هو المتزوج الذي صار شبيهاً بشهريار ألف ليلة وليلة، فقد عانى من الخيانة الزوجية. هل ستكون هالة شهرزاد له؟
وأنا أقرأ في الرواية ـ ولم أنهها حتى اللحظة ـ تذكرت مقالاً كتبته أحلام مستغانمي عن الثري السعودي الوليد بن طلال أو طلال بن الوليد. هل يعد ذلك المقال البذرة التي شكلت الرواية؟
بطل "الأسود يليق بكِ" ثري ثراءً أسطورياً. أظن أن قراء الرواية سيتساءلون عن بطل الرواية هذه من يكون. أياً كان الأمر، فإن الأسود يليق بها. لكن من هي؟ أيضاً سيسأل القراء: من هي هالة؟.
عادل الأسطة
في شبابه كتب محمود درويش: "خيول الروم أعرفها / وإن تبدل الميدان". وأنا أمعن النظر في دال الحصان، وفيما يعنيه الشاعر بقوله: سقط الحصان عن القصيدة، تذكرت سطريه السابقين، وتذكرت عنوان إحدى مجموعاته: "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" والحصان في المجموعة دال له غير مدلول، فالأخير يتحدّد حسب السياق. في قصيدة "أرى شبحي قادماً من بعيد" التي افتتح بها المجموعة ترد الأسطر التالية: "أطلّ على اسم أبي الطيب المتنبي/ المسافر من طبرية إلى مصر/ فوق حصان النشيد". ماذا يقصد درويش بـ "حصان النشيد"؟ النشيد هو الشعر، وحصان النشيد هو قوة الشعر، شعر المتنبي الذي حقق له شعره مكانةً متميزةً، فالأمراء والملوك رحبوا به لقوة نشيده. الشعر هو جواز السفر إلى بلاط الأمير. وفي "أبد الصبار" يكون الحصان هو الحصان: "ـ لماذا تركت الحصان وحيداً؟ "يسأل الطفل أباه، فيجيب الأب "ـ لكي يؤنس البيت يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"، ولا يختلف المدلول في "في يدي غيمة": "أسرجوا الخيل/ لا يعرفون لماذا،/ ولكنهم أسرجوا الخيل/ في آخر الليل، وانتظروا/ شبحاً طالعاً من شقوق المكان"، وما من شك في أن درويش هنا يكتب عن قرية البروة قبل العام 1948، حيث كان الحصان/ الخيل مكوناً أساسياً من مكونات حياة أهل الريف. الحصان هو الحصان: جزء من سكان البيت، ووسيلة للتنقل.
في "صهيل على السفح" من "ورد أقل" (1986) أي قبل 9 سنوات من "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" يكتب درويش عن مرحلة ما بعد بيروت ـ أي عن العام 1982 وما تلاه، خلافاً للجزء الأول من "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" حيث يعود الزمن الشعري إلى ما قبل النكبة (1948) وخلالها أيضاً، وسنلحظ اختلاف مدلول الدال الواحد، فلم يعد دال الحصان يعني المدلول القاموسي. الحصان هو الثورة، الثورة الفلسطينية والسيدة هي فلسطين أو المرأة الفلسطينية وصهيل الخيول على السفح هو صهيل الفدائيين الذين ليس أمامهم إلاّ مواصلة الصعود، فإذا كان الشاعر قال في بداية القصيدة وفي وسطها "فإما الهبوط وإما الصعود" فإنه في سطرها الأخير قال: "صهيل الخيول على السفح: إما الصعود.. وإما الصعود":
"أتحتاج سيدة في الثلاثين أرضاً لتجمع صورة فارسها في إطار؟
. . . . .
. . . . .
"أعد لسيدتي صورتي. مزقي صورتي حين يصهل فيك حصان جديد" والحصان الجديد هو المقاتل/ الفدائي الجديد. سأموت وفي نفسي شيء من حتى.

2 ـ الأسود يليق بها
"الأسود يليق بكِ" عنوان رواية أحلام مستغانمي الأخيرة (2012). هل قاومت نفسي ورفضت شراءها ساعة رأيتها في المكتبة؟ هل أجلت قراءتها لانشغالي بأمور عاجلة؟ حين أرى رواية لأحلام مستغانمي أكون مثل أصحاب دور النشر وأصحاب المكتبات في بلادنا: الشغف بطباعتها وعرضها ـ بطل الرواية لديه أيضاً مس من شغف، فحين تروق له امرأة، كما راقت له بطلة الرواية المغنية هالة الواقي سورية الأم جزائرية الأب، يفعل كل شيء لأجل الحصول عليها ـ وأنا سرعان ما أقتني نسخة من الرواية، وسرعان ما أبدأ قراءتها: إنه الشغف.
حين اشتريت الرواية لم ألتفت إلى حركة الكاف في "بك" فقرأتها "بك" ـ بكسر ففتحة ـ، وما إن بدأت أقرأ الرواية حتى عرفت أن الأسود ـ أي اللون الأسود ـ يليق بالمغنية هالة، وهي تعجب بهذا اللون، وحين تطلب منها أختها نجلاء أن تستبدله بلون آخر ترفض. كانت هالة ارتدت الأسود حداداً على اغتيال أبيها المغني وأخيها علاء، وأبت أن تستبدله ـ سيظل اسم بطل الرواية ـ إن أحسنت القراءة ـ نكرةً حتى ص206 وفي هذه نقرأ اسمه: طلال هاشم، وطلال هاشم هذا عاش في البرازيل 25 عاماً وغدا رجل أعمال يملك الملايين. كانت رغبته أن يصبح أستاذاً في الأدب المقارن، لكنه لم يحقق ما صبا إليه، فهاجر ثم عاد إلى بيروت ثرياً، وحين شاهد هالة في برنامج تلفازي سحره صوتها، لا وهي تغني، بل وهي تتكلم، فعشقها من صوتها، ما يذكّرنا ببيت بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة / والأذن تعشق قبل العين أحياناً
وهكذا يبدأ إرسال الورود إليها ليوقعها في حبائله، هو المتزوج الذي صار شبيهاً بشهريار ألف ليلة وليلة، فقد عانى من الخيانة الزوجية. هل ستكون هالة شهرزاد له؟
وأنا أقرأ في الرواية ـ ولم أنهها حتى اللحظة ـ تذكرت مقالاً كتبته أحلام مستغانمي عن الثري السعودي الوليد بن طلال أو طلال بن الوليد. هل يعد ذلك المقال البذرة التي شكلت الرواية؟
بطل "الأسود يليق بكِ" ثري ثراءً أسطورياً. أظن أن قراء الرواية سيتساءلون عن بطل الرواية هذه من يكون. أياً كان الأمر، فإن الأسود يليق بها. لكن من هي؟ أيضاً سيسأل القراء: من هي هالة؟.

أ. د. عادل الأسطة
2012-12-09
جريدة الأيام الفلسطينية

***

16- طللية البروة... طللية الوطن

-1 هل ثمة تردد؟
وأنا في عمان اقتنيت ديوان محمود درويش الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (2009). وأنا أسير مساء الجمعة في شارع المدينة الرئيسي، وسط البلد، سألت عن سعره، وعرفت أنه يباع بسبعة دنانير. هل اشتريه أم انتظر حتى الغد، فيبيعني إياه فتحي البس، صاحب مكتبة دار الشروق، بخمسة دنانير، بسعر الجملة كما يبيعني دائماً ما أشتريه من كتب؟ أيعقل أن أنتظر حتى الغد؟ أكثر قصائد الديوان كنت قرأتها في الصحف والمجلات، بخاصة على صفحات جريدة "الأيام" (رام الله)، ويمكن الانتظار. لكن ثمة قصيدة قرأت عنوانها فقط ولم أقرأها، وكنت أتطلع الى قراءتها. إنها قصيدة "طللية البروة".

2- طللية البروة:
لم يكتب محمود درويش عن البروة من قبل - أعني قبل أن يصدر هذا الديوان قصائد لافتة، والذي ربط بين درويش والبروة في كتابته هو الراحل إميل حبيبي في روايته المشهورة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974). كان إميل توقف أمام مقطع درويش: "نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" وكتب- اميل: ولم يدر شاعر البروة أن الشياطين هذه تجعل من الطفل نسياً منسياً أيضا. لماذا لم يكتب درويش، من قبل، عن البروة؟ ألأنه كتب عن الوطن كله؟ عن فلسطين؟ عن حيفا؟ عن الكرمل؟ عن الاماكن التي عاش فيها، هو الذي ولد في البروة، ورحل عنها في العام 1948، وحين عاد اليها متسللاً، مع أهله، وجدها أثراً بعد عين، فأقام في الجديدة، ثم رحل عن هذه الى حيفا.

3- درويش والسياب:
ما إن نذكر السياب حتى نذكر قريته جيكور ونهرها بويب. كان السياب خلد قريته ونهرها، وحين ذهب الى بغداد لم ترق له المدينة، إذ رأى في شوارعها أفاعي تلتف حول عنقه، وظل يحن الى جيكور وبويب فكتب قصائد جميلة عن هذين: القرية والنهر. ودرويش معجب بالسياب، فقد خصه بقصيدة، ومقالة نثرية أيضاً. ظهرت الاولى في ديوان "لا تعتذر عما فعلت" )2003( والثانية في كتاب "حيرة العائد" (2006). وكان خيار درويش في النهاية سيابيا لا بياتيا. وقد أتيت على هذا وأنا أدرس قصيدة درويش "من روميات أبي فراس" وأقارن في دراستي بين روميات درويش وروميات البياتي. فلماذا غاب عن درويش الذي قرأ السياب وانحاز له ما قام به السياب حين كتب عن قريته ونهرها؟ ألأن درويش مهموم بالوطن كله، ولأن حيفا غير بغداد، وما تتعرض له الاولى غير ما تعرضت له الثانية، فلم يكن، يوم كتب السياب قصائده، عدو اجنبي محتل يهدد الوطن كله؟ ربما ولا ندري ماذا كان درويش سيكتب، لو امتد به العمر، والتفت الى التفات النقاد الى مقارنته بالسياب، ومقارنة كتابتهما حول قرية كل منهما، لماذا التفت درويش، إذاً في آخر دواوينه الى البروة.

4- طللية البروة وقصائد سابقة:
لكن السؤال الذي يثيره الدارس هو: أحقاً لم يأت درويش على البروة في قصائد سابقة له؟ قد يكون لم يذكرها بالاسم. قد يكون طبعاً أتى عليها في كتابات نثرية متأخرة. (يحتاج المرء الى مراجعة كتابه "في حضرة الغياب"). وربما وجب ان يعود المرء الى قصيدة درويش في رثاء أبيه "ربّ الأيائل، يا ابي ، ربّها" ليقرأ عن علاقة والده وجده بالارض التي حرما منها في العام 1948، إذ حولها الاسرائيليون الى كيبوتس (يتسعور)، وقد أشار درويش الى هذا في رسائله التي كتبها في العام 1986، على صفحات مجلة "اليوم السابع". وربما وجب على المرء أيضاً ان يعود الى ديوان درويش "لا تعتذر عما فعلت" )2003( ليقرأ قصائده عن المكان. أنا كنت التفت الى المكان في اشعاره، ونشرت دراسة مطولة في مجلة "الأسوار" في عكا، يوم صدر الديوان. وأظن أنني لم أكتب عن البروة تحديداً، لأنه لم يذكرها، فقد أتى على صورته في بيت امه - في الجديدة - وأتى على البئر وأتى وأتى.. ولكنه لم يذكر البروة، إذا لم تخني الذاكرة، وإلا لكنت التفت الى هذا.
وربما يتذكر قارئ "طللية البروة" قصيدة درويش في "لا تعتذر عما فعلت" التي عنوانها "لم أعتذر للبئر"، فهي بذرة "طللية البروة" وفيها أسطر ظهرت فيها - أي في الثانية، وهي: "وأمرت قلبي بالتريث: كنت حيادياً كأنك لست مني".

5- طللية البروة:
كم مرة توقفت أمام سؤال السلالة وأنا أدرس أشعار درويش؟ كلما أصدر ديواناً جديداً اخذت أبحث عن بذرته في دواوينه السابقة. كان هو من نبهني الى هذا في المقابلة التي أجريت معه ونشرت على صفحات مجلة الشعراء في العام 1999، حين أتى على سؤال السلالة وبذرة الديوان الجديد، وإن كنت، من قبل، - أي في دراسات سابقة لي عن أشعاره أربط بين قصيدة وأخرى، بخاصة دراستي "ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش" (1993 و 1995 ).
وأنا أقرأ طللية البروة تذكرت "لم اعتذر للبئر". كان الشاعر بعد عودته الى فلسطين، في العام 1996، زار أهله وقريته، وسيكتب، فيما بعد، قصائد عن هذه الزيارة، ظهرت في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت" ولا أدري كم مرة ناقشت موقف درويش من الاطلال وشعرائها، في بداية حياته، وبعد العام 1996 تحديداً. بخاصة حين قارنت بينه وبين امرئ القيس الذي استحضره درويش مبكراً، وعاد واستحضره، غير مرة، بعد (أوسلو). لم تتطابق تجربة درويش مع امرئ القيس قدر ما اختلفت، وقد عارضه مبكراً حين ربط بين امرئ القيس والوقوف على الاطلال، ذاهباً الى أن هذا الوقوف فانٍ، وأن الوقوف على الاطلال محيّر ومرمد أيضاً، فدرويش اختار الوقوف الى جانب أهله، لا الوقوف على الاطلال. كان هذا قبل أن يغادر حيفا في العام 1970، ولم يكن درويش فطن الى مكر التاريخ، فقد عاد الى حيفا والجديدة والبروة، ووقف على الاطلال، ليكتب قصائد جميلة جداً، منها "طللية البروة"

6- رؤية البروة:
في "طللية البروة" يكتب درويش عن زيارته القرية المدمرة التي أقيم على انقاضها (كيبوتس يتسعور)، ويجرد من نفسه شخصين آخرين، على عادة الشعراء الجاهليين ومنهم امرؤ القيس، يجرد من نفسه شخصاً آخر يعتبره سائحاً ويجرد من نفسه ايضاً شخصاً ثانياً يعتبره مراسلاً صحافياً لجريدة اجنبية وهو الآن يريد أن يكون محايداً:
أمشي خفيفاً كالطيور على أديم الأرض كي لا أوقظ الموتى
وأقفل باب عاطفتي لأصبح آخري، اذ لا احس بأنني حجر يئن من الحنين الى السحابة.
هكذا امشي كأني سائح ومراسل لصحيفة /غربية.
ويبدأ درويش يكتب عن علاقته بالقرية / البروة التي ولد فيها، يتذكر طفولته فيها، وغرفة منزله، وطريق مدرسته ويزن المكان وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول والرحيل. يتذكر حكايته الاولى، حليب أمه، سريره كأنه لا يكبر. وأما الصحافي فلا يرى سوى المصانع التي أقامتها اسرائيل، وحين يخاطب هذا درويش بهذا يرد عليه بأنه لا يرى في المكان الا ما كان قديماً يقول:
والطرق الحديثة هل تراها فوق انقاض البيوت/ اقول كلا. لا اراها لا ارى الا الحديقة تحتها..
لو سئلت أنا: أي القصائد ترشح لدرويش للمنهاج الفلسطيني لقلت: "طللية البروة".


أ. د. عادل الأسطة
2009-05-31

جريدة الأيام الفلسطينية

* * *

17- "لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد"

وأنا أقرأ أشعار محمود درويش ونثره، وأيضاً أشعار سميح القاسم ونثره، غالباً ما أقول إن المنهج الاجتماعي الماركسي يسعفنا كثيراً في تقديم تفسيرات وتأويلات وتعليلات أكثر إقناعاً، ولا يعني هذا عدم الاستعانة بمناهج أخرى أو عدم جدوى تلك المناهج.

منذ بداية حياتهما الشعرية، بخاصة في ستينيات القرن العشرين، اعتنق الشاعران الفكر الماركسي وكتبا من وحيه وينبغي ألا يُغفل هذا وألا يُغفل أيضاً تأثيره فيهما حتى بعد تركهما الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

يذهب المنهج الاجتماعي الماركسي إلى ضرورة الالتفات إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أثناء دراسة الشاعر ونصه، ويربط ما بين الموقع والموقف ويرى تأثير الأول على الثاني، ويعطي الأولوية للمواقف الأيديولوجية ولا يهتم كثيراً بالصداقات الفردية، ويطالب بحزبية الأدب والأديب، ولهذا فليس ثمة صداقات نهائية.

سيهاجم الرفاق رفيقاً تخلى عن الحزب وسيوجعونه و..و…

لما ترك محمود درويش فلسطين هاجمه رفاق الأمس ومنهم إميل حبيبي وسميح القاسم، ولما ترك إميل حبيبي الحزب منحازاً إلى "البيروستريكا" هاجمه الشاعر توفيق زياد ونعته بـ"المرتد" و"النرجس".

هل ظلت علاقة سميح القاسم بإميل حبيبي بعد تركهما الحزب الشيوعي الإسرائيلي كما كانت عليه وهما رفيقان في الحزب؟

ظل الأديبان رفيقين صديقين ثلاثين عاماً، ثم اختلفا.

ثانية أعود إلى محمود درويش.

قلت إن قراءة أشعاره وأشعار سميح القاسم يناسبها المنهج الاجتماعي الماركسي. يعني لا بد من مراعاة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والموقع والموقف وأضيف والحالة النفسية التي تلم بالشاعر لحظة كتابة النص. "نحن بشر يا بشر" كان يصرخ إميل حبيبي حين يرد على من يتهمه بالتطبيع أو بعدم اتخاذ مواقف حاسمة.

في العام 1981 كتب الشاعر محمود درويش نصاً نثرياً/شعرياً في رثاء القائد السياسي ماجد أبو شرار الذي اغتاله الموساد في روما، وسيعود الشاعر إلى النص النثري/الشعري ليخفف من بعض نثره ولينشره على أنه قصيدة. ولما كنت قرأت النصين فقد علق في ذهني مقطع يربط فيه الشاعر بين فلسطين والأندلس. المقطع هذا لم يظهر في القصيدة. نص المقطع:

"نمضي إلى مطعم هادئ، لنقول: كبرنا/ ولم يذهب العمر في درب حيفا سدى/
أتحسبها الأندلس؟
ولكنها طائر في يد مزقتها الرماح ولم تنبسط".

هل ستؤول فلسطين إلى ما آلت إليه الأندلس؟ يسأل أحدهما الآخر فيرد الثاني، لعله ماجد: ولكنها طائر في يد مزقتها الرماح ولم تنبسط. أي ما زال الفلسطينيون يقبضون على فلسطين بأيديهم ولم يستسلموا ولم يتخلوا عن وطنهم على الرغم مما فعلته الرماح بيدهم. كان هذا في 1981 يوم كانت الثورة الفلسطينية في بيروت وكانت قريبة من فلسطين وقوية.

هل ظل الشاعر يؤمن بما أورده في فترات لاحقة اختلفت فيها المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والموقع والحالة النفسية للشاعر؟

بعد الخروج من بيروت في 1982 ضعفت الثورة وتوزع الفدائيون على بلدان عربية لا تحد فلسطين وأصبحوا مقاتلين متقاعدين. وهنا ستقبل القيادة الفلسطينية ما كانت ترفضه وهي في بيروت. وستوقع اتفاق أوسلو الذي لم يلبّ الحد الأدنى للطموحات الفلسطينية. ولم يرق هذا للشاعر الذي انزوى.

في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» 1995، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، قصيدة عنوانها "خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس". والقصيدة لا تخلو من مغزى. كما لو أن الشاعر يقصد "خلاف، غير لغوي، مع ياسر عرفات". الخلاف غير لغوي وقد التقط إدوارد سعيد المغزى فأشار إلى روح الانكسار التي حلت بالفلسطينيين بعد توقيع اتفاقية أوسلو.

هل يمكن أن يتقارب ما ورد في هذه القصيدة بما ورد في نص رثاء المرحوم الشهيد ماجد أبو شرار؟

في "خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس" نقرأ:

"أغلقوا المشهد/ انتصروا/ عبروا أمسنا كله/" و"أغلقوا المشهد/ انتصروا/ صوروا ما يريدونه من سماواتنا/ نجمة..نجمة/ صوروا ما يريدونه من نهاراتنا/ غيمة غيمة،/غيروا جرس الوقت / انتصروا…".

ثمة شعور بالخسارة وثمة إقرار بالهزيمة. انتصروا تعني أيضاً: "انهزمنا" وإن لم يورد الشاعر الفعل بحروفه، فالحضور يستحضر الغياب. هكذا يستحضر الفعل انتصر الفعل انهزم. ثمة منتصر وثمة مهزوم.

كان درويش الماركسي وبتأثير من الفكر الماركسي كتب بعد هزيمة حزيران 1967:

"خسرت حلماً جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلاً
على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا"
ثمة اعتراف بخسران ولكن ليس ثمة إقرار بالهزيمة.
في «جدارية»، 2000، يقرأ المرء:
"لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد".

هل أدرك درويش بعد إقامته خمس سنوات في رام الله أن الإسرائيليين لم ينتصروا وأن الفلسطينيين لم ينهزموا بعد؟
بعد كتابته «جدارية» بأشهر اندلعت انتفاضة الأقصى ليواصل الفلسطينيون مقاومتهم. كما لو أنهم لم يقروا بالهزيمة ولم يستسلموا.

ماذا كتب الشاعر في ظل انتفاضة الأقصى؟

مجموعة «حالة حصار» تقول إن الشاعر عاد إلى ما كتبه إثر حرب حزيران 1967 "وما خسرت السبيلا ". إنه ما زال يقيم على أرضه "يربي الأمل "، يمارس ما يمارسه العاطلون العمل ويتفحص خصيتيه ليتأكد من صلاحيتهما، فصلاحيتهما تقول له إنه ما زال يقاوم.

في «حالة حصار» يصر الشاعر على البقاء في أرضه حتى يشعر العدو بالضجر والملل ويرحل، فالضجر والملل صفتان من صفات البشر.

أليس اليهود بشراً مثلنا؟

ألم يترك محمود درويش شايلوك يعبر عن نفسه: "أليس لليهودي قلب؟". فلماذا نستكثر عليه الحب؟ ولماذا نستكثر عليه الشعور بالضجر والملل؟

ربما لهذا السبب كتب الشاعر قصيدته: "عابرون في كلام عابر".

ما سبق اجتهاد، مجرد اجتهاد.


أ. د. عادل الأسطة

* * *

18- هل قرأ الشاعر محمود درويش القاصة سميرة عزام؟

عاش محمود درويش حتى العام 1970 في فلسطين التي تغنّى بها وخصص عنواناً من عناوين مجموعاته لها "عاشق من فلسطين"، وسافر إلى موسكو للتثقف في الفكر الماركسي والفلسفة حتى يعود إلى حيفا ليواصل نضاله تحت راية الحزب الشيوعي معتمداً على ثقافته الماركسية.

لم يعد الشاعر إلى حيفا، فقد سافر إلى مصر وأقام فيها حتى 1973 تقريباً، ليغادرها إلى بيروت وليستقر فيها حتى 1982. لم يلتق درويش في بيروت بغسان كنفاني ولا بسميرة عزام، فقد توفيت القاصة في آب 1967. قرأ درويش كنفاني ورثاه بمقالة معروفة "غزال يبشر بزلزال“، ولا أعرف إن كان قرأ القاصة أو إن كان رثاها شعراً أو نثراً. استشهد كنفاني في تموز 1972 وتوفيت عزام ودرويش في آب، وبين وفاتهما واحد وأربعون عاماً.

هل كان الشاعر من قرّاء فن القصة القصيرة وفن الرواية؟ وهل تأثّر، بوعي أو دون وعي، بقراءاته النثرية؟

الإجابة عن السؤالين السابقين ليست صعبة. يتطلب الأمر أن ننظر في كتبه النثرية وفي مقالاته وفي كتاب ”الرسائل" المتبادلة مع الشاعر سميح القاسم الذي توفي أيضاً في شهر آب.

تقول لنا رسائل محمود إلى سميح أنه قرأ روايات من الأدب العبري والعالمي، فحضور النص العبري في نصوصه الإبداعية واضح، وتقول لنا رسائله و"خطب الدكتاتور الموزونة“ أنه قرأ روايات من الأدب الأميركي اللاتيني وتأثر بها. إن "خطب الدكتاتور الموزونة“ هي النص العربي الموازي لرواية الدكتاتور في روايات أميركا اللاتينية التي نقلت إلى العربية في سبعينيات القرن العشرين.

أعود إلى السؤال الأساس: هل قرأ الشاعر القاصة وتأثر بها؟ وحتى يعثر المرء على إجابة يطمئن إليها فيجب أن يقرأ نتاج الكاتبين معاً.

ما الذي أثار الفكرة في ذهني؟ أهي مناسبة وفاة الكاتبين في هذا الشهر؟

كنت أقرأ في أشعار الشاعر الأولى فلفت نظري سطر للشاعر يقول فيه إن وكالة الغوث لا تسأل عن موته فهو كلاجئ فلسطيني لا يعنيها. وكنت اقرأ في الوقت نفسه قصة سميرة عزام "لأنه يحبهم“ فلاحظت اختلافاً واضحاً بين موقف الشاعر والقاصة من موقف وكالة الغوث من اللاجئ الفلسطيني. إن الوكالة في قصة عزام يعنيها موت اللاجئ حتى تقطع عنه المعونات، وكان أبو سليم جاسوس المخيم سرعان ما يخبر مكتب الوكالة في المخيم بمن مات أو هاجر لتباشر الوكالة إجراءاتها.

ما سبق قال لي إن درويش لم يقرأ سميرة حين كان في الأرض المحتلة، ولعل قصصها لم تعرف في فلسطين إلا بعد أن نشرها يعقوب حجازي صاحب دار ”الأسوار“ في سبعينيات القرن العشرين.

وأنا أبحث عن قصة "الحاج محمد باع حجته" ألتفت إلى التصدير، فتذكرت أشعار درويش بعد خروجه من الأرض المحتلة، وفكرت في الصلة بين بعض قصص القاصة وبعض قصائد الشاعر، وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه.

تصدّر القاصة قصتها بالآتي: "إليها تلك الغريبة التي سألتها في بيت صفافا من وراء الشريط "كيف تشعرون أنتم في سجنكم"، فقالت: "بل قولي كيف تشعرون أنتم في (حريتكم)؟..." فألقمتني حجراً بهذا السؤال الجواب".

والتصدير يأتي على واقع الفلسطينيين بعد نكبة 1948، فـ 650 ألف فلسطيني صاروا لاجئين، و150ألف بقوا في قراهم ومدنهم وصحرائهم. أي الفريقين يعاني أكثر؟

من هي وراء الحدود تنظر إلى من بقي في أرضه على أنه سجين، إذ أصبحت فلسطين كلها سجناً، وعلى العكس منها تنظر المرأة الباقية في أرضها.

تضع سميرة عزام السؤال بين علامات تنصيص، وتضع كلمة "حريتكم" بين قوسين، ما يعني أن الدال يقول أكثر مما يقوله ظاهره. أنه محمل بمدلولات بعيدة فيها من السخرية المرة ما فيها، وأن الحرية ليست متوفرة لفلسطينيي المنفى، كما أن البقاء في فلسطين ليس بالضرورة إقامة في سجن.

إن قصص سميرة عزام ذات المحتوى الوطني تقول أيضاً إن الحرية غير موجودة في المنفى. قصة "فلسطيني" مثلاً.

تحفل أشعار درويش، بعد خروجه من الأرض المحتلة، بالكتابة عن الغزاة والطغاة وعدم التفريق بينهما. يستطيع المرء أن يأتي بمقاطع شعرية ونثرية ليدلل على ما يقوله.

منذ 1979، في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا“ يبرز دالا الطغاة والغزاة معاً، وفي قصيدة الشاعر في رثاء راشد حسين "كان ما سوف يكون“ عام 1977 نقرأ عن قسوة المنفى وتفضيل سجن الوطن عليه:

"والتقينا بعد عام في مطار القاهرة
قال لي بعد ثلاثين دقيقة:
"ليتني كنت طليقاً
في سجون الناصرة ".

هل ثمة فرق بين المقطع السابق وتصدير قصة سميرة؟

في رثاء ماجد أبو شرار يكتب درويش:

"وكان السجن في الدنيا مكاناً
فحررنا ليقتلنا البديل"

و:

"ويا لحم الفلسطيني فوق موائد الحكام، يا حجر التوازن والتضامن بين جلاديك، حرف الضاد لا يحميك، فاختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطيني".

هل اختلفت الكتابة في مقالته "في وصف حالتنا"؟

"عشرون مملكة ونيف
كوليرا طاعون ونيف
من ليس بوليساً علينا
فليشرف
من ليس جاسوساً علينا
فليشرف"

بلغ الأمر ذروته في مجموعة "حالة حصار" عام 2002 حين كتب الشاعر، وهو في رام الله، عن إخوته في العالم العربي:

"لنا إخوة خلف هذا المدى
إخوة طيبون، يحبوننا، ينظرون إلينا

ويبكون، ثم يقولون في سرهم:

"ليت هذا الحصار هنا علني.."
ولا يكملون العبارة: "لا تتركونا
وحيدين...لا تتركونا"

هل قرأ الشاعر القاصة أم هي التجربة المتشابهة؟

* * *

19- محمود درويش والقدس وسؤال المجندة

كتب محمود درويش في ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، 2003، غير قصيدة عن القدس أتيت عليها في دراستي للديوان التي نشرتها في مجلة «الأسوار» في عكا في العام 2004.

إن قصيدة "في القدس"مرتبطة بالقصيدة التي تليها "بغيابها كونت صورتها“.

مرة عاشرة أشير إلى الناقد الفرنسي ميخائيل ريفاتيري الذي درس قصيدتين للشاعر الفرنسي بودلير ولاحظ أنهما تعكسان البنية نفسها، وإلى ما قام به الناقد العربي كمال أبو ديب في كتابه «جدلية الخفاء والتجلي» حيث درس ثلاث قصائد لأبي نواس ولاحظ أيضاً أنها تعكس البنية نفسها.

كلا الناقدين يتكئ على مقولة بنيوية هي "الصلة بين" -الأصح هي أحد تعريفات البنيوية- فالبنيويون يربطون بين الأجزاء وينظرون إلى التشابه والتوازي بين النصوص وإلى الأنساق الثابتة.

كما لو أن الشعراء كتبوا قصيدتين؛ قصيدة حب وقصيدة حرب. هذا ما تقوله البنية العميقة وهي خلاف ما تقوله الأشياء في الظاهر. ما صلة هذا كله بمحمود درويش وقصيدة القدس لديه؟

الجدل حول قصيدة القدس في شعر محمود درويش دار بيني وبين الشاعر فاروق مواسي في تسعينيات القرن العشرين وعلى إثره كتبت دراسة مكثفة هي "إشكالية قصيدة القدس“ ونشرتها في مجلة «كنعان» في صيف 1998.

نفى مواسي أن تكون قصيدة محمود درويش "تحت الشبابيك العتيقة" قصيدة قدس وأنا درستها على أنها قصيدة قدس. وأنا أكتب "إشكالية قصيدة القدس” غاب عن ذهني رسائل محمود إلى سميح القاسم. في رسالة “هو.. أو هي" (الرسائل ط2 1990. ص 99/ حيفا) يأتي درويش على قراءته في مدينة روتردام قصائد عن القدس تمثل الشعر الفلسطيني، في الوقت الذي قرأت فيه شاعرة إسرائيلية هي شيرلي هوفمان قصائد عبرية عن القدس أيضاً.

يكتب درويش في رسالته "قرأت شعراً عن أزقة القدس، وهي قرأت شعراً عن حجارة القدس“. هذا يعني أن الشاعر خص القدس بقصائد، وليس من قصيدة في أشعاره حتى 1986 أبرز من "تحت الشبابيك العتيقة“.

في كتابه «يوميات الحزن العادي»، 1973، هناك مقال نثري عنوانه "تقاسيم على سورة القدس“ يظهر فيه تصوره للمدينة. كان الشاعر زار القدس بعد حزيران 67 حين كان ماركسياً، ولذا قدّم تصوره الماركسي.
لم ينظر إلى المدينة من منظور ديني. نظر إليها من منظور ماركسي فبين ما تعنيه للنظام العربي ولبرجوازية القدس، وبين أيضاً ما تعنيه لبائع الصحف الفقير.

"اليوم تبكون على القدس والقدس لا تبكي على أحد“

"والقدس عاصمة الخيام البعيدة وعاصمة الأموال البعيدة والشهداء البعيدين“

"سأستبدل القدس بالجنة“

"من علّم القدس هذا الجمال. من علّم القدس هذه السخرية؟"

"من يشتري صدر تاريخي وظهر تاريخي وعورة تاريخي بلحظة انتصار واحدة؟“

والقدس كما يقول بائع الصحف: "لم تكن القدس لي في يوم من الأيام… أنا بائع الصحف في كل زمان ومكان" و"أصحاب القدس يبيعونني ويستقبلون الفاتحين“.

كل ما سبق يقول إن الشاعر كتب قصائد عن القدس قبل رحيله عن فلسطين في 1970، وأن ما كتبه عن المدينة بعد خروجه ليس بعيداً عما كتبه بعد خروجه وبدا واضحاً في ديوان «أحبك.. أو لا أحبك»، 1971. والسؤال الآن هو: هل تعد قصيدتا "في القدس" و"بغيابها كوّنت صورتها“، 2003، قصيدتين منفصلتين عمّا كتبه الشاعر قبل 1973؟

تتطلب الإجابة عن السؤال قراءة دقيقة لكل ما كتبه الشاعر وذكر فيه القدس؛ شعراً ونثراً. هنا يمكن العودة ثانية إلى تعريفات كلمة بنية وموقف البنيويين من علاقة النصوص ببعضها. في "في القدس“، 2003، سطر شعري لافت عن الشاعر والمجندة: "هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟“

سؤال المجندة يعيدنا إلى "تقاسيم على سورة القدس“، 1973، الذي يسترجع زيارة الشاعر للمدينة بعد حرب حزيران، 1967. في «يوميات الحزن العادي» في "تقاسيم على سورة القدس” يكتب درويش: "أوقفتني جندية صغيرة وسألتني عن قنبلة وصلاتي. حسبتني الجندية شاعراً فأخلت سبيلي وتساءلت: لماذا جئت إلى القدس إذن؟" وسيجيبها الشاعر: "أنا لا أحارب ولا أصلي" .إذا لم تحارب وتصلي فلماذا جئت إلى القدس؟“ وفي "بغيابها كوّنت صورتها" يأتي على تلال سبعة وكان كتب عن هذا في ”تقاسيم…“: "لوحة من الصخر معلقة على تلال سبعة".

هل كتب درويش إذن قبل 1971 قصائد عن القدس؟ وهل ما كتبه في «لا تعتذر عما فعل»، 2003، منقطع الصلة عما كتبه قبل 1973؟ لن تنتهي قراءاتي لأشعار الشاعر. حتى وأنا أموت سيظل في نفسي شيء من أشعار الشاعر.

أ. د. عادل الأسكة
2018-01-11

* * *

20- القدس ثانية… وماذا بعد؟… ماذا بعد؟

ينهي محمود درويش قصيدته "في القدس" من ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، 2003، بالآتي:

"وماذا بعد؟“
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:
هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني… ونسيت، مثلك، أن أموت.“

لم يصدق محمود درويش نفسه حين زار القدس ثانية، فقد انقطع عن زيارتها ما لا يقل عن 25 عاماً. وفي القدس التي زارها ثانية رأى المجندة الإسرائيلية ثانية وبعد ربع قرن فصاحت هي حين رأته مندهشة، إذ كانت قتلته.

قتلت المجندة الإسرائيلية الشاعر ولكنه لم يمت، وهي أيضاً مثله لم تمت. لقد نسيا الموت على الرغم من القتل. هل ما ورد في القصيدة حقيقي وهو ما حدث حقاً بين الشاعر الفلسطيني والمجندة الاسرائيلية؟ إذن أين هو عنصر الخيال في الشعر؟

لا أعرف كيف قارب النقاد هذه القصيدة التي قاربتها في دراسة لي نشرتها في مجلة "الأسوار" العكاوية في العام 2004. وأغلب الظن أنني فرقت بين القتل والموت وقلت: ليس كل قتل يؤدي إلى الموت. كلمة ”قتل" تحيل إلى مدلولات عديدة أحدها الموت البيولوجي، وهناك القتل النفسي والقتل المعنوي والقتل الروحي.

تحيل القصيدة وعلاقة الشاعر بالمرأة اليهودية إلى قصة حب درويش فتاة يهودية وإلى قصائد سابقة له عديدة ظهرت في أشعاره قبل خروجه من الأرض المحتلة وأشعاره بعد خروجه، وتحيل أيضاً إلى نثره مثل كتاب «ذاكرة للنسيان.. سيرة يوم: المكان آب.. الزمان بيروت»، 1986، وإلى المقابلات العديدة التي أجريت معه وأتى فيها على ذكر علاقته بالمرأة اليهودية وما أكثرها.

وخلاصة تلك العلاقة أن الشاعر أحب فتاة يهودية شيوعية ثم انفصلا بسبب حرب حزيران 1967 والتحاقها بالجيش، وقد أتى على افتراق الحلمين في قصيدته "شتاء ريتا الطويل“، 1991، وكتب عن حلمين يتقاطعان "فواحد يستل سكيناً وآخر يودع الناي الوصايا“.

هل رأى درويش في زيارته القدس، بعد ربع قرن، الفتاة التي أحبها وهل صاحت به: ألم أقتلك؟ يوم افترقنا بسبب التحاقي بالجيش فما الذي أعادك؟

لو كان الشاعر على قيد الحياة لربما سألته عن المعنى وعن نسبة الواقع والخيال في هذه القصيدة ولكن.. القصيدة هذه وقصيدة أخرى سبقتها تأتيان على القدس ومكانتها لدى درويش. شاعت واحدة ولم تشع الثانية وقد يعود السبب إلى بروز دال القدس فيها بروزاً واضحاً لافتاً، وفي هذه كتب الشاعر عن المدينة التي تندلع فيها الحروب بسبب حجر شحيح الضوء. وبغض النظر عن سبب اندلاع الحروب في القدس فإن كتابة الشاعر عن المدينة كانت لافتة. ليست هذه القصيدة أول قصيدة يكتب فيها درويش عن القدس التي زارها أول مرة بعد احتلال الاسرائيليين لها في حرب حزيران 1967.

إثر هزيمة العرب واحتلال المدينة تمكن الشاعر من زيارتها خلسة، فقد كان يخضع للإقامة الجبرية في حيفا. تسلل في القطار إلى القدس وزارها فرأى مدينة حزينة شبه مهجورة وكتب قصيدته "تحت الشبابيك العتيقة " وأهداها "إلى مدينة القدس وأخواتها" وكتب نصاً نثرياً عنوانه "تقاسيم في سورة القدس" ونشره في كتاب «يوميات الحزن العادي» عام 1973.

كان حزن الشاعر كبيراً، فالدرج مهجور والشبابيك مغلقة و..و..و…

كان محمود درويش يومها شاعراً ماركسياً ورأى في القدس مدينة محتلة ولم ينعتها بأي نعت ديني ولم ينظر إليها من منظور ديني. إنها مدينة عتيقة من مدن وطنه السليب، وفيما بعد، بعد إعادة طباعة الديوان، وبعد محاولات إسرائيل تهويد القدس خص درويش القصيدة بالقدس وحدها وحذف دال "وأخواتها "من الإهداء، ومع مرور الأيام حذف الإهداء كله.

لم تكن قصيدته "تحت الشبابيك العتيقة "القصيدة الوحيدة في القدس. فقد عاد وكتب وهو في المنفى قصائد أخرى. غادر الشاعر حيفا في 1970 ليدرس الفلسفة في موسكو ولم يعد في 1971 إلى حيفا. لقد سافر إلى مصر واستقر فيها، فهل نسي القدس؟

في 1972 أصدر درويش ديوانه »أحبك أو لا أحبك» وفيه ذكر القدس غير مرة.

في قصيدة "مزامير" كتب عن أورسليم وفي قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي كتب فيها عن سرحان بشارة سرحان أتى على القدس وبين مكانتها لدى الحكام العرب أو من يفكر منهم أن يصبح حاكماً.

كان في هذه الأثناء في مصر وبدأت فجيعته من العالم العربي تكبر و تزداد، ورأى أن الحكام العرب يستغلون اسم القدس ليصلوا إلى كراسي الحكم. وقد عبر عن هذا بقوله:

"وما القدس والمدن الضائعة سوى ناقة تمتطيها البداوة إلى السلطة الجائعة" و"وما القدس إلا صندوق تبغ وزجاجة خمر".
لم يكتب الشاعر في قصيدة "سرحان..." ما تعنيه القدس له. كتب عما تعنيه للعرب/ البداوة.

القدس مطية الحاكم العربي للبقاء في كرسي الحكم أو هي مطية من يريد أن يعتلي سدة الحكم، إنها صندوق تبغ أو زجاجة خمر للحاكم ولكنها لدرويش وطنه "ولكنها وطني“.

هل كان للقدس بعد 1972 حتى 2003 حضور في شعر الشاعر؟

في الرسائل المتبادلة بينه وبين الشاعر سميح القاسم أتى على الطلب منه أن يقرأ قصائد عن القدس في إحدى الدول الأوروبية، هو وشاعرة يهودية. كيف كتب الفلسطيني عن القدس وكيف كتب عنها الاسرائيلي؟

مرة تجادلت أنا والشاعر فاروق مواسي حول قصيدة القدس في أشعار محمود درويش واختلفنا. هو كتب عن خلافنا في كتاب أصدره عن القدس في الشعر الفلسطيني وأنا كتبت دراسة عنوانها "إشكالية قصيدة القدس: محمود درويش نموذجاً"ونشرتها في مجلة كنعان في حزيران 1998.

هل كتب محمود درويش قصائد عن القدس؟

موضوع أثرناه من قبل وها نحن نثيره من جديد. إنه موضوع إشكالية مثل المدينة نفسها؛ المدينة التي دُمّرت ثماني عشرة مرة وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة.

"وماذا بعد؟" ماذا بعد؟

صاح (ترامب): ألم أقتلكم أيها الفلسطينيون؟

ولا شك أن الإجابة ينطق بها الشباب الفلسطيني على مداخل رام الله والمدن والقرى والمخيمات: "قتلتنا ونسينا، مثلك، أن نموت"
وماذا بعد؟
ماذا بعد؟

أ. د. عادل الأسطة

منشورة في:
من وحي الأيام

* * *








==============================

1-

1- أتذكر السياب
2- ظلال الشاعر: محمود درويش وإلياس خوري
3- شتـاء ريتـا الطـويـل...
4- عكا ودرويش وأنا!..
5- يا شاعري محمود.. وداعاً
6- امتياز دياب ومحمود درويش: "ميلاد الكلمات" ٢٠١٩
7- أدب العائدين: حيرة العائد/ محمود درويش ثانية..
8- أحلام مستغانمي ومحمود درويش
9- محمود درويش والسجن
10- صورة الفنان في شبابه: محمود درويش كما صوره معين بسيسو

***

2-

11- محمود درويش .. امرؤ القيس والمتنبي وأبو فراس "في ذكرى ميلاده"
12- شتـات: كل ما كان منفى
13- محمود درويش: مفهوم جديد للبطولة
14- سقط الحصان عن القصيدة سقط القطار عن الخريطة
15- سقط الحصان عن القصيدة (2) صهيل الخيول على السفح
16- طللية البروة... طللية الوطن
17- "لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد"
18- هل قرأ الشاعر محمود درويش القاصة سميرة عزام؟
19- محمود درويش والقدس وسؤال المجندة
20- القدس ثانية… وماذا بعد؟… ماذا بعد؟

***

3-

21 - صدق فراشاتنا… لا تصدق فراشاتنا..
22- إشكالية القراءة ... إشكالية النص قراءة في سطر شعري لمحمود درويش
23- حسن خضر ومقالات درويش في "اليوم السابع"
24- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الأول
25- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الثاني
26- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الثالث
27- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الرابع
28- زياد عبد الفتاح: "محمود درويش... صاقل الماس"
29- هوامش لنهاية العام
30- العودة إلى قراءات محمود درويش

=================

4-

31- محمود درويش و ( بابلو نيرودا ) :
32- حزيران.. واتساع رقعة المنفى محمود درويش في نزل على بحر
33- قصيدة نزل على بحر محمود درويش
34- محمود درويش و( نيتشة) وتمجيد الحياة فوق الأرض
35- محمود درويش ونيتشة:
36- محمود درويش و زرادشت ونيتشة
37- في ذكرى محمود درويش: تناسل ريتا في رواية "على شواطئ الترحال"
38- "صورة الفنان في شبابه: محمود درويش كما صوره معين بسيسو"
39- محمود درويش ومراحله الشعرية : ( المقالة كاملة )
40- محمود درويش و(يفتشنكو)

***

5-

41- كارول سماحة ومحمود درويش و " ستنتهي الحرب"
42- العـرس الفلسطيـنـي: والدة الشهيد التي تنتظر ابنها
43- ستنتهي الحرب وقد ينتهي النقاش: برتولد بريخت أم محمود درويش؟
44- ستنتهي الحرب: "والله يا أمي إني أكره الحرب"
45- الحرب والانتظار في الأدب السوفيتي: وحدة الأدب العالمي.
46- إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني: محمود درويش نموذجاً (ملف/6)
47- تخليص الشعر مما ليس شعراً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...