محمد خضير - لقاء الروائيين في البصرة

على جانبيْ نهر التاريخ العراقي الوسيع، انعقد موقفان يبعثان على القلق والمساءلة والتأمل...
ففي الأسبوع الأول من أيلول/ سبتمبر انعقد البرلمانُ المنتخب لاختيار حكومة جديدة، وسط استئثارٍ سلطويّ شرِه. وعلى هذا الجانب انعقد ملتقى الرواية الثالث وسط موجات السخط والاحتجاج ضد القابضين على ملفات الأحوال المعيشية والبيئية المتردية في مدينة البصرة. وإزاء هذا التشظي الكبير في البنية المرجعية المشتركة للرواية والدولة، لا بد من حصر الصراع حول جهتين رئيستين: المركز المتسلّط والهوامش الفرعية.
سرديتان كبريان تتقابلان لتأسيس قواعد شروعٍ جديدة، وآلية في تشريع متداولة، وسط زوابع كونية وانتقالات بنيوية في النص والواقع. ولا أشخّص هذه الانتقالات والزعازع لأحبط مخيلتنا وأثنيها عن الاختراع والابتكار، ولكن لأدفعها إلى تلمس إمكانيتها الهائلة في تجديد طرق الرواية لبلوغ حدّها المئوي المرتقب خلال هذه الأعوام.
أدعو الى هذا الربط بين السرديتين، لأن الشروع والتأسيس في الرواية والسياسة يميز عالمنا المضطرب بقطبية القوة والتسيير القسري من مواقع متزامنة. ويوماً ما، كنت قد ربطتُ بين أول رحلة للفضاء الخارجي وأول قصة كتبتها العام ١٩٦١. فقد حطم غاغارين قوانين الزمن والكتلة، وكان العام الستيني البعيد ذاك يبشر بولادة جيل قصصي متمرّد أراد اختراق النظرية وابتداع شكل جديد للسرد القصصي، إزاء الشرخ العميق في البنية الاجتماعية والفكرية الذي سببه فشل ثورة تموز ضد الحكم الملكي، وتنازع الورثة الوطنيين غنيمةَ السلطة الجمهورية.
أيُّ شيء نفعله الآن، يرتبط، في الحقيقة، بجملة متغيرات جذرية ترتِّب التزامات فردية وجماعية إزاء المحيط وتمثيلاته السردية. وحيث يجتمع الوارثون المتناحرون في بغداد، ينزوي المتحاورون الروائيون في أقصى الجنوب لبحث هذه الالتزامات الجمعية، ويتطلعون الى تأسيس وعي جديد بكتابة غير مهادنة.
تمثّل قواعدُ الكتابة الروائية واحدة من تحديات السرديات المتزامنة حول المحيط الحيوي للواقع. فإذا افترضنا أنّ روايتنا نشأت في واقع مضطرب، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ وإنها تزامن اليوم النشأة الثانية بعد سلسلة من الحروب والانهيارات الوضعية والفكرية؛ وجب علينا أن نؤسس قواعد الرواية على ملتقى هذا التشابك بين الممكن والمستحيل من النظام والفوضى.
إن الاجتهاد والتخمين النظريين غير كافيين لتحديد موقع روايتنا الحالي. فالتجارب المتنوعة في الكتابة الروائية، وتعدّدُ الصوت السردي وبنائه الأجناسي، يقضي أن نحصي المسافة الباقية لهذا النوع الكبير، ومدى قدرته التعجيلية على البقاء والتمدد. وإنّي ليعتريني الشكُّ في قدرة روائيينا على البحث عن مفترق طرقٍ ينقذهم من تصادم السرديات الكبرى أو تنافسِها على اقتسام غنائم الواقع. وليتصوّر كلُّ روائيّ نفسه وسط فلاة موحشة، كما تصوّر جاك لندن نفسه وسط بقعة جليدية يحاصرها قطيع من الذئاب الجائعة. ولكن ماذا بإمكاننا أن نفعله، والرواية وسيلتنا الوحيدة لدرء الخطر عن وعينا المحوط بقطعان أكثر وحشية من ذئاب الجليد؟
لنتذكر أنّ روايتنا التي تحكمها معادلة بيانية متعرجة تتمثل في التأسيس ثم الصعود، والنكوص ثم الصعود ثانية، هي معادلة عادلة وزّعت المهامَ السردية على كتّاب الرواية من الأجيال الاربعة الماضية. وعندما نتذكر في هذه المناسبة روائييّ المغامرة الاولى محمود أحمد السيد وذا النون أيوب وعبد المجيد لطفي؛ وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر؛ وعبد الخالق الركابي وعبد الرحمن الربيعي وفاضل العزاوي ولطفية الدليمي وعالية ممدوح وعبد الستار ناصر؛ ثم روائيي جيل الصعود الأخير الذين لا حصر لأسمائهم؛ حين نتذكر هؤلاء جميعا، فإننا نؤشر للمفترق الخطير أمام رواية اليوم والمستقبل.
إن تاريخ القطائع السياسية الحادة هو نفسه الذي خطّ مسارَ الرواية العراقية المتعرج والصعب. وقد عاش أفراد الجيل الأدبي غير المحظوظ في الشهرة والبحبوحة والتفرد، أوقاتاً صعبة ستظل توجّه اهتمامنا بأسماء أخرى ضاعت آثارها في برية المعاناة والألم والإهمال.
سيدفعنا أولئك اللامعون في غياهب المهاوي والمنحدرات الى تفادي الأخطاء النقدية في حقّهم وحق الروائيين المئويين المعاصرين. كما سيحثنا استذكارهم على تجديد نظرتنا للقيمة المتداولة في مراحل ثابتة كالقيمة الواقعية السائدة، واستحداث تفريعات نوعية أخرى كرواية السيرة والتقرير والنصّ الجامع وغيرها من الأشكال السردية المجاورة. وما دامت رواية المنفى، او المهجر، امتداداً لرواية الوطن، فإنّ البحث في تعدّد مواقع الإنتاج، وشراكة الهويات الفرعية، سيغدو فرضاً واجباً على أعمال أي ملتقى روائيّ. ولن يقف الطموح عند هذه الحدود، إذْ لترجمة الرواية ومشكلاتها نصيب من مباحث المتقابلين على جانبي اللحظة الروائية المئوية.
هناك مشكلات متفرعة من محور الرواية الأساسي، مثل مشكلة القراءة والتلقي، النشر والتسويق، تدريس الرواية في الجامعات، نقد النقد الروائي، وغيرها من الشؤون التي أرجو أن تطرأ على بال المتداولين لقضية الرواية، لكني لا أعرف طاقة ملتقياتنا البسيطة على استيعابها.
كان على شركاء السرد الروائي الحديث في مدينة الجاحظ والحريري والأصمعي، أن يستلهموا الطاقة التخيلية في كتب هؤلاء، والتأمل في موضوعاتها القابلة للاستحداث والاستمرار والحيوية. وأذكرهم أخيراً بمثال حديث ضمّنه الروائي الألماني غونتر غراس في روايته (لقاء في تيلكت). ففي هذه الرواية الصادرة العام 1979، استدعى غراس مجموعة من أدباء ألمانيا الكلاسيكيين، القادمين من أرجاء البلاد الواسعة، ليقيموا لقاءً سنوياً في فندق صغير على نهر طافحٍ بجثث القتلى، يناقشون فيه مشكلات الأدب واللغة ويعيشون اللحظة التاريخية القديمة بأقوى صورها وبشاعتها.
إن الجمال، جمالَ الأدب، ينبع من مثل تلك اللقاءات الصعبة على امتداد نهر التاريخ، المحلي والكوني، ولسنا إلا جماعة مسافرة باتجاه النور والأمل، وقد نلتقي غداً في موقف أصعب من هذا الذي ساقنا إليه ملتقى روائيّ في وسط تقاطعات حادة.
أعلى