رسائل الأدباء ترجمتان لرسالة من سوزان سونتاغ إلى خورخي لويس بورخيس

عزيزي بورخيس،
لأن أدبكَ دائماً تحتَ يافطةِ الخُلودِ، فلا يبدو غريباً أن أوجّه خطاباً إليك.
بورخيس، مرّت عشرُ سنواتٍ،
لو قُدِّرَ للمعاصرةِ أن تُخلّدَ أديباً، فأنت نتاجُ عصرِكَ وثقافتِكَ إلى حدٍّ كبيرٍ، كما تعرفُ كيف تتجاوزُ عصركَ وثقافتكَ، بطرائقَ أقلّ ما يُقالُ عنها إنها سحريّة. تفعلُها بانفتاحٍ وانتباهٍ.
أنتَ الأقلُّ أنانيةً والأعظمُ شفافيةً بين الكُتّابِ، وأنتَ أكثرُهم فنيةً. تكتبُ، بصفاءٍ طبيعيٍّ من الروحِ. ومع أنكَ عِشتَ فيما بيننا رِدحاً طويلاً من الزمنِ، إلا أنكَ ظللتَ تُتقن ممارسةَ فائقِ الحساسيةِ والعزلةِ، مما جعلكَ خبيراً في السفرِ الذهنيِّ إلى عُصورٍ أخرى.
لديكَ حِسٌّ مختلفٌ بالزمنِ عما لدى الآخرين. تبدو أفكار الماضي والحاضر والمستقبل مبتَذلَةٌ تحتَ نظرتكَ. وتُصرّحُ إن كلّ لحظةٍ تضمّ الماضي والمستقبل معاً، مستشهداً (كما أتذكّر) بالشاعرِ براوننج وقد سَطّر شيئاً شبيهاً “الحاضرُ لحظةُ انهيارِ المستقبلِ في الماضي”. هو، طبعاً، جزءٌ من تواضعكَ؛ ذوقكَ في العثورِ على أفكاركَ ضمنَ أفكارِ الآخرين.
إن تواضعكَ جزءٌ من تأكيدِ وجودكَ. فقد استكشفتَ مباهجَ جديدةً. التشاؤمُ عميقٌ كالصفاءِ، لأنك في غيرِ حاجةٍ لأن تنقِمَ. بل تُفضّل أن تبتدعَ؛ وكنتَ على رغمِ كلِّ شيءٍ مبتدعاً. كان ما لقيتهُ من الصفاءِ وسموِ النفسِ مثالياً. بيّنتَ أنه لا لزومَ أن يتعسَ المرءُ نفسَهُ، حتى لو كان حادَّ المِزاجِ وصادقاً أمامَ كلِّ ما يبدو فظيعاً. قلتَ: يجبُ على الكاتبِ (وأضفتَ برهافةٍ: على كلّ امرئٍ) أن يؤمنَ بأن في كلِّ ما يحدُث لهُ عزاءٌ. (كأنكَ تتحدّثُ عن عماكَ).
وقد وجدتَ عزاءً كبيراً، لغيركَ من الكُتّابِ. في عام 1982 ـ قبلَ أربعِ سنواتٍ من وفاتكَ ـ صرّحتَ في لقاءٍ معي أنه “لا يوجَد بين كُتّابِ اليومِ مَن هو أهمّ من بورخيس. سيقولُ معظمُ الناسِ إنه أعظمُ كاتبٍ… فمَن لم يتعلّم منهُ أو يقلّدهُ قليلٌ من كُتّاب اليوم”. ولا تزالُ المسألةُ صحيحةً. لا نزالُ نتعلّمُ منكَ. لا نزالُ نقلّدكَ. فقد منحتَ طرقاً للتقليدِ جديدةً، بينما كنتَ تنادي المرّةَ تلوَ المرّةِ بمديونيتِنا للماضي، وفوقَ كلِّ شيءٍ للأدبِ. قلتَ إننا مدينون للأدبِ تقريباً بكلّ ما نحنُ عليهِ وما سنبلُغهُ. لو انتهَت الكتبُ فقد ينتهي التاريخُ، وينتهي الإنسانُ.
وإني لعلى يقينٍ مِن يقينكَ هذا. فليست الكتب مجرّد كميّةٍ كيفيةٍ لأحلامنا وذكرياتنا فحسبُ، بل تمنحُنا نموذجاً للتسامي بالنفسِ. يظنّ بعضُنا أن القراءةَ نوعٌ من الهروبِ، هروبٍ من عالمِ اليوميِّ “الحقيقيِّ” إلى عالمِ المُتَخيَّلِ، عالمِ الكتبِ. لكن الكتبَ أكثرُ من ذلكَ. الكتبُ دروبٌ إلى ما هو أكثر إنسانيةً.
من دواعي أسفي أن أبلغكَ إن الكتبَ الآن صارَت من الآثارِ المنقرضةِ. فالكتبُ، أقصدُ شروطَ القراءةِ، تجعلُ الأدبَ مُحتَملاً بتأثيراتهِ الروحيةِ. وقيل لنا مؤخراً إننا قد نستدعي أيَّ “نصٍّ” نحتاجهُ من “شاشاتِ الكتبِ”، وقد نُغيّرُ شكلَه، ونُسائلهُ، بل “نتفاعلُ” معه.
حين تصيرُ الكتبُ “نصوصاً” قد “نتفاعلُ” معها وفقاً لمعيارِ النفعيةِ، تستحيلُ الكلمةُ المكتوبةُ شكلاً آخرَ أكثرَ بساطةً لحقيقةٍ متلفزةٍ تُديرُها الإعلاناتُ. هذا مستقبلُنا المجيدُ المبدعُ الموعودُ الأكثرُ “ديمقراطيةً”. لا يعني هذا، طبعاً، أقلَّ من استبطانِ الموتِ؛ كذلك الكتبُ. في مثلِ هذا الوقتِ، لن نحتاجَ إلى حريقٍ هائلٍ. فلن يُحرِقَ البرابرةُ الكتبَ. سيظلُّ بالمكتبةِ النمرُ.
عزيزي بورخيس، أرجوكَ ألاّ تفهمَ هذا على أنهُ نزعةُ شكوى. لكن شكواي عن مصيرِ الكتبِ ـ والقراءةِ نفسِها ـ فمَن أفضلُ منكَ أخاطبه؟
بورخيس، مرّت عشرُ سنواتٍ!
كل ما أقصدُ قولَهُ إننا نفتقدكَ. أنا أفتقدكَ. وأنتَ تُواصلُ كونكَ مُختلفاً. سيختبرُ العصرُ الذي سندخلهُ، القرنُ الحادي والعشرون، الروحَ بطرقِ مُنوّعةٍ. لكنكَ تعرفُ، طبعاً، أن بعضنَا لن يهجُرَ المكتبةَ. وستظلُّ أنتَ نصيرَنا وبطلَنا.

13 يونيو 1996، نيويورك

ترجمة: محمد عيد إبراهيم




=============================



13 يونيو 1996
نيويورك

عزيزي بورخيس،
بما أن أدبك قد وُصف بالخلود، فليس من الغريب أن أراسلك الآن. (مرت عشر سنوات يابورخيس!). إن كان لأي كاتبٍ معاصر أن يتصف بالخلود الأدبي، فهو أنت. كنت وحدك نتاج زمانك، ونتاج ثقافتك. ومع ذلك، استطعت أن تتجاوز وقتك وثقافتك بطرق أقرب للسحر. كنت تفعل ذلك بكامل انتباهك، وبكرم. كنت الأقل غرورًا وأنانية، والأكثر شفافية من بين الكتّاب، وأكثرهم فنًا. على الرغم من أنك عشت بيننا لفترة طويلة، فقد أنتجت أعمالًا غاية في الدقة وذات قوة رهيبة في فصل القارئ عن واقعه، مما جعلك رحالًا عقليًا خبيرًا إلى عصورٍ أخرى. كان لديك حس بالوقت يختلف عن إحساس الآخرين. ولطالما بدت الأفكار الاعتيادية حول الماضي والحاضر والمستقبل في نظرك مبتذلة. كنت تحب أن تقول بأن كل لحظة من الحاضر تحتوي الماضي والمستقبل؛ ويذكرني هذا الأمر باقتباس للشاعر براوننغ – كما أتذكر – حينما قال: “الحاضر هو اللحظة التي يتداعى أثناءها المستقبل في الماضي”. ذلك بالطبع جزء من تواضعك: ذوقك وأنت تجد أفكارك في أفكار الآخرين.
كان تواضعك جزءًا يتحتم به وجودك. كنت مكتشفًا لمُتع جديدة، وذلك التشاؤم الذي يلفك، بهدوئه وعمقه، لم يكن بحاجة للصراخ كي نراه. وجب على مثل ذلك التشاؤم أن يكون مبتكَرًا، وأنت مبتكِر بدرجة تفوق الجميع. صفاء الذات الذي تحوزه والمقدرة على تجاوزها في نفس الوقت هو مثال يُحتذى به بالنسبة لي. أظهرت لنا بأنه ليس من الضروري أن تكون حزينًا، حتى ولو كنت أعمى وتتوهم بأن كل شيءٍ بشع. قلتَ في مكان ما فيما يخص جودة الكاتب وبراعته بأنه يجب على كل الناس أن ينظروا إلى ما يصيبهم على أنه منحة. (كنت تتحدث عن إصابتك بالعمى).
لطالما مثلت مصدرًا عظيمًا لكتّاب آخرين. في عام 1982، قبل أربع سنوات من وفاتك، قلتُ في مقابلة بأنه: “لا يوجد كاتب آخر يهم الكتاب بقدر بورخيس، وأن أشخاصًا عديدين يؤمنون بأنه أعظم كاتبٍ حي. هناك القليل من الكتّاب هذه الأيام ممن لم يستفيدوا منه أو يقلدوه”، وما زال هذا الكلام صحيحًا. لا نزال نتعلم منك ونقلدك. لقد أعطيتَ الناس طرقًا أخرى لكي يتخيلوا، دون أن تنسى تذكيرنا بعزو فضل كل ذلك إلى الأدب في الماضي قبل كل شيء. قلتَ مرة بأننا ندين الأدب بكل ما نعنيه حاليًا وبما كنا عليه سابقًا، وإذا اختفت الكتب، فسيختفي التاريخ، وكذلك البشر. وأنا أؤمن بأن كلامك صحيح. الكتب ليست فقط محبسًا قسريًا لأحلامنا وذاكرتنا، بل إنها تهبنا أيضًا نموذجًا لسمو الذات. يعتقد بعض الناس بأن القراءة مجرد مخرج؛ من عالم الواقع إلى عالم الخيال، عالم الكتب. الكتب أكثر من ذلك. هي طريق لكمال إنسانية الفرد.
أود أن أعتذر لتحتم إخباري إياك بأن الكتب أصبحت أشياء مهددة بالانقراض. وبجانب الكتب، تلك الأجواء التي تجعل من الأدب وروحه يتغلغل في أعماقنا. كما يخبرنا التقنيون، فسوف نقتني قريبًا “شاشات عرض”، ونستطيع من خلالها طلب أي “نص” نريد. وسنستطيع تغيير مظهره، وطرح أسئلة عنه، والتفاعل معه. حينما تصبح الكتب “نصوصًا” فنحن “نتعامل” معها وفقًا لشروطِ توفرها آلة. ستتحول الكلمة المكتوبة ببساطة إلى أفق وشكل آخر لواقعنا التلفزيوني، المدار من قِبل الإعلانات. هذا المستقبل المجيد الذي يُشيَّد لنا، وُصف بأنه “ديمقراطي”. بالطبع، فهو لا يعني أكثر من موت الوعي، وموت الكتاب معه.
هذه المرة، لن تكون هناك حاجة لحريق كبير. لن يحتاج الهمجيون إلى حرق الكتب. النمر* سيبقى في المكتبة دون أن يقرأه الناس. عزيزي بورخيس، أرجو أن تفهم بأن هذا الأمر لا يمنحني الراحة لأشتكي. لكن لمن أشكي مصير الكتب وقراءتها سواك؟ (مرت عشر سنوات يابورخيس!).
كل ما أريد قوله هو أننا اشتقنا لك. اشتقت لك. لا تزال تصنع فارقًا. هذا العصر الذي سنقبل عليه، القرن الحادي والعشرين، سيختبر الروح بطرق جديدة. لكن، تستطيع أن تضمن بأن بعضًا منا لن يهجروا المكتبة العظيمة، وبأنك ستبقى ملهمنا وراعينا وبطلنا.
سوزان
ترجمة: راضي النماصي – تصحيح لغوي: الأستاذ/ كريم محمد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى